مآلُ سركون بولص: قصيدة سرد

 

حسن ناظم

 

 

 

هل فتح سركون بولص (1944-2007)، في الأخير، طريقاً شعريةً؟ وما أبرز معالم هذه الطريق؟ وما التحوّل الأساسي الذي آلت إليه شعريتُه؟ وأقول "في الأخير" لتأخّر سركون في نشر نتاجه كتباً شعريةً (أول كتاب شعري نشره هو الوصول إلى مدينة أين في العام 1985)، ولقلّة نسبية في نتاجه عبر أزيد من أربعين عاماً من الكتابة. في الواقع، نشر سركون بولص الكتب الشعرية الآتية: الوصول إلى مدينة أين (1985)، الحياة قرب الأكروبول (1988)، الأول والتالي (1992)، حامل الفانوس في ليل الذئاب (1996)، إذا كنت نائماً في مركب نوح (1998)، وبعد موته ببرلين في العام 2007، صدر كتابه الشعري الأخير عظمة أخرى لكلب القبيلة (2008) الذي سيكون العمود الأساسي الذي تقوم عليه هذه الدراسة نظراً لمحاولتها معالجة القصائد التي يكون قوامُها السرد أولاً وأخيراً ـ وهذا النمط هو ما يشغلني منذ فترة ـ مع اعتماد غير أساسيّ على كتب شعرية أخرى للشاعر كلّما اقتضى فرض الدراسة ذلك. إذن، ثمة ستّ كتب شعرية هي خلاصة ما كتبه هذا الشاعر المؤثر في سياق حركة الشعر العربي الحديث.

كانت الستينات العراقية، ومعها بالتأكيد العربية والعالمية، عصرَ حماسة فوّارة، ومن طبع هذه الحماسة أن تُؤْثرَ المبهمَ والغامضَ، وأن تركب الصعبَ من الأشياء ثقةً بالذات بغضّ النظر عن طبيعة هذه الثقة، مترعة أو جوفاء. متميّزاً عن أبناء جيله، ركب سركون بولص الموجة، لكن دون خداع، ودون انخطاف بألعاب الذكاء اللغوية التي جرفت بعضَ معاصريه وحوّلت همومَهم ونتاجهم من الحماسة الفاعلة إلى الادعاء اللامجدي والتشظّي العقيم. كان سركون صادقاً في بحثه الشعريّ الذي واصله حتى الأخير، محاولاً الإجابة عن تساؤلات مختلفة تنطلق من الذات وتذهب أبعدَ من إطارها الزماني والمكاني، مقدّماً ما استطاع من رؤى في الحياة قبل الشعر، والشعر قبل الحياة، متحوّلاً في عوالم قصيدته من وضع إلى آخر، ومراوحاً بين عوالم "قصيدة النثر" ذات الغرابة والجدّة في الوقت عينه، في صورها ولغتها، خاصة في كتاب الوصول إلى مدينة أين، في قصائد أطلق عليها هو اسم "القصائد التفجيرية"، إلى عوالم قصيدة تقوم على السرد، أَمِنَ الملائم تسميتها "قصيدة سرد"؟، تقوم على قصة يحكيها سركون، الذي كتب القصة بنجاح، ولاءمها أخيراً مع قصيدته، لا سيما في آخر كتاب شعري له عظمة أخرى لكلب القبيلة، الذي تربو قصائدُ السرد فيه على النصف، خلافاً لحضورها الحييّ في كتبه الأخرى، وسنأتي بشيء من التفصيل على هذا الفرض. سنتتبع في هذه الدراسة خيطاً ينتظم هذه القصائد، ليس فقط من أجل إقامة الدليل على نزوع متأخر لدى سركون نحو قصيدة قوامُها السرد، بل أيضاً على نزوع نحو متابعة موضوعات متضامّة عبر قصائد متنوعة، موضوعات متواشجة تُعالَجُ هي نفسها في نصوص متباعدة في الكتاب.

الكرسيّ

ينفتح كتاب عظمة أخرى لكلب القبيلة على السرد من البداية، يحضر فيه الجدّ والأب والصديق شخصيات حقيقية ومتخيلة يروي عنها آلامها وشدائدها. في البدء، ثمة قصيدة عن كرسي الجدّ المهتزّ على أسوار أوروك، ويكون الختام، بهذا الكرسيّ المهتز نفسه، ليتحول الكتاب إلى قصيدة سرد كبرى يرويها الجدّ من على كرسيّ مهتزّ، قصيدة سرد عن حكايات "الأحياء والموتى"، الغابر من الأيام والحاضر منها.

في البدء يشخص الكرسيّ:

كرسيّ جدّي ما زال يهتزّ على

أسوار أوروك

تحتَهُ يعبُرُ النهر، يتقلّبُ فيهِ

الأحياء والموتى. (عظمة أخرى، ص9)

وفي المنتهى، نراه، ما يزال يهتزّ:

يهتزُّ كرسيّ جدّي المواجه للنافذة.

يهتزُّ على أسوار أوروك.

يهتزّ حتى وهوَ فارغٌ، لا يجلسُ فيه أحد. (عظمة أخرى، ص221)

وبين الكرسيّيْن، وهما واحد، حكايات توزعت في الكتاب وطغت عليه عبر عدد كبير ودالّ من من القصائد التي تعتمد السرد وتحيل الكتاب إلى حكايات؛ حكايات عن الموت نفسه لامعاً على سكين غائرة في جسد صديقه الشاعر محمود البريكان، وعن الأحزانِ هالاتٍ مضيئةً على وجه مرضعته أمّ آشور، وعن كدح أبيه المتعب وهو يصارع الحياة و"وحوش النهار"، وعن أمّ محمد التي تفترش الساحة الهاشمية بالأردن، منتظرة تأشيرة اللجوء، مدلّيةً "كيس التراب الأسود"، بقيّة الوطن.

إذن يبدأ آخر كتب سركون بولص الشعرية، الكتاب الشعريّ المآل، بحكاية عن كرسيّ لجدّ مفترض للشاعر، كرسيّ تطوّحه الصراعات الهائجة، العبثية، التي تتقاذف الأحياء والموتى سواءً بسواء. كرسيّ "يهتزّ"، يموّج قصائدَ الكتاب بترنّحه حتى آخر قصيدة، حيث كرسيّ آخر "يتأرجح". كلاهما يُشرفان على أسوار أوروك التي هي قرين الهاوية وحافتها. كلاهما واحد، الكرسيّ واحد بالأحرى، لجدٍّ واحد، وإني لأرى القصيديتن قصيدة واحدة شطرها سركون قصداً وهو ينسّق كتابه الشعريّ. "كرسيّ القصب": "يتأرجح على حافة الهاوية". بين كرسييْ الجدّ، يمرّ الجميع متوترين: أبو الشاعر، وأمّ آشور مرضعته، ومحمود البريكان، ورسام الأهوار، ورسام نيويورك، وعجوز عراقية تبيع على رصيف، والجندي، وطفلة الحرب، والجثّة، وهنود الأباتشي، وهولاكو، وبغداد، وطنجة، ... إلخ. كلّ هؤلاء وغيرهم يشكّلون حكاية كاملة، هي حكاية كتاب سركون الشعري الأخير: عظمة أخرى لكلب القبيلة.

أبي في حراسة الأيام

حكاية صراع أبيه مع الحياة ووحوشها، تُكتَب سرداً شعرياً، في قصيدة "أبي في حراسة الأيام"، ثاني قصائد الكتاب. السرد أول ما يميّز القصيدة، أبوه "يشرب فنجان شايه الأول قبل الفجر، يلفّ سيجارته الأولى بظفر إبهامه المتشظّي كرأس ثومة." لكن السرد مصاب بالنقصان. "لم تكن العظمة، ولا الغراب"، هذا هو المفتتح، وفي الختام: "لا العظمة، تلك التي تسبح في حساء أيامه كإصبع القدر، لا، ولا الحمامة التي عادت إليه بأخبار الطوفان" (عظمة أخرى، ص10)، لا المفتتحُ يدلُّ، ولا الختامُ، دلالةً واضحة على مسار الحكاية، الجمل ناقصة، لكن البناء مكتمل شعرياً في قصيدة سرد، فإذا كان السردُ المحض لا يقبلُ النقصَ، فالقصيدة التي تُبنى على السرد تقبله. "قصيدة السرد" ـ مرةً أخرى، هل هذا تركيب ملائم؟ ـ تقبل النقص، لأنها تتحوّل إلى نصّ مفتوح على الاحتمال. ختام نصّ سركون مفتوح على بدايته، وعلى ذهن القارئ، الغراب في مفتتح القصيدة استُبدل بالحمامة، بعد رحلة سردية محضة قال فيها الشاعر وصفاً لأبيه. بين اليأس من النجاة، من الرسوّ على يابسة، وتباشير النجاة، بين غياب الغراب وحضور الحمامة، ثمة سفينة للنجاة ما عادت دفّتُها في قبضة أحد، أو تنتظرُ إشارةً من أحد، إنها في حراسة القدر.

قُرئت هذه القصيدة خطأً حين حوصرت بمحاولة إحياء فنون بلاغية. لم يكن شعر سركون بولص إعادة اعتبار لنوع من "البلاغة الشعرية" المفقودة في الشعر المعاصر، لكنه بالطبع لا يخلو، شأنه شأن أيّ شعر، من تشبيه هنا وكناية هناك، هذه المظاهر الأسلوبية لم تكن مقصودة لذاتها، ولم تكن متبناة على خلفية مشروع إحياء بلاغة مندثرة، وهل تضمن مثل هذه الرؤية لشعر سركون مكاناً له ومكانةً بين معاصريه باعتباره واحداً من مجدّدي الشعر؟ كلا بالطبع، ما من حيف يلحق بسركون وشعره وبعمق قصائده قدر الحيف الذي يلحقه بخلق نسبٍ بينه وبين البلاغة الشعرية تشبيهاً وكنايةً.

لغة سركون بولص الشعرية لغة خادعة، فعلى الرغم من أن بواكيرها كانت توحي بانتمائها إلى عالم خرق المألوف، عالم خرق الألفة هو ظاهرها الذي يُبطن محاولة جادة في اختطاط طريق، عالم خلخلة البنى اللغوية ونزعة التحطيم في كتابه الشعري الوصول إلى مدينة أين، غير أنها لغة تجهد في شقّ طريق شعرية حقيقية. لأنها في بحثها عن هذا الطريق غير المسكتشفة تبدو لغة تبحث عن الوضوح النهائي والمشرق لمعانٍ دقيقة وعميقة؛ معانٍ موجودة أولاً، وسلفاً، في ذلك المرجل المحموم للذات، معانٍ داخلية تعجز لغة الخرق البحتة عن الإتيان بها من الباطن المغشّى عليه. تشفّ هذه المعاني عبر لغة سركون التي لا تحكمها ستراتيجية أسلوبية أو بلاغية واحدة أو حتى متعددة؛ لذلك ليس مناسباً تلسيطُ وسائل الأسلوبية أو البلاغة على أشعاره من أجل تقرير استعاريتها أو كنائيتها، فهي ليست لغة كناية وإنْ توفّرت فيها الكناية، خاصة في كتابه الأخير عظمة أخرى، وليس من جدوى وراء إفناء القريحة لتجلية المجرى الكنائي لشعره أو الاستعاري، فالمعضلة هنا تكمن في الاختزال الذي يغضّ النظر عن آفاق شعرية سركون المتحوّلة. والذين اقتربوا من سركون عبر هذا النظر عَشّوا على تطوّر نصّه، وهذا أمر غريبٌ غرابةَ توصيف لغة أشعاره بـ"التصنّع" و"لغة النصوص المترجمة". والأخير توصيف أريد منه المديح أحياناً، وهو مع ذلك لا ينفذ إلى العمق أيضاً، ويكتفي بنظرة عابرة إلى بناء قصيدة سركون. ثم إنه يعيد النظرة الاختزالية نفسها فلا يتابع مآلَ كتبه الشعرية التي ارتفعت فيها قصائد السرد، وسأحصي هذه القصائد بعد قليل. مع ذلك، قد يكون التجاهل المقصود من الشاعر لتاريخ كتابة قصائده أحد محفزات هذه النظرة الاختزالية. فعدم اهتمام سركون بطرح ترتيب زمني (كرونولوجي) لقصائده، خلافاً لما هو معروف ومعهود من الشعراء، قد يربك إلى حدّ ما متابعة تطور قصيدته. مع ذلك، يسمح إصدارُها متأخرةً في كتب شعرية برصد هذا الجانب، أو في الأقل تبيّن مسعى قصيدته ومنحاه عبر عقود قضّاها في تطوير نصّه الشعري.

لنواصل النظر في كيفية بناء سركون قصيدته على مقوّم سرديّ صار عموده الشعريّ الراسخ الذي يبدو أنه استغرق أزيدَ من نصف قصائد كتابه الأخير. كلّ ما علينا هنا، مهمةً لهذا البحث، هو تتبّع الخيطِ الناظم لها، إنه خيط خفيّ أحياناً، لا يظهر، يبدو واهياً مثل خيط العنكبوت، لكنه قويّ برسم ملامح الحكاية برمتها، ثم إلقاء نظرة على كتبه الشعرية الأخرى لمعرفة مقدار تبنّيه هذا المنحى عبر المقارنة. والتواصل الذي أعنيه مع كتابه الشعري الأخير هو شدّ مفاصل القصائد بعضها إلى بعض لإنتاج قصيدة واحدة عبر الكتاب. وسأنتخب نماذج أخرى لهذا التواصل القائم على "عمود السرد"، هذه المرة، نماذج تتواصل مع "أبي في حراسة الأيام"، على سبيل المثال.

المظروف

قصيدة "أبي في حراسة الأيام"، إذن، قد تمتدُّ ويتواصل سردها في قصيدة "المظروف" (عظمة أخرى، ص15)، المظروف أيضاً في حراسة الأيام، إنه أيضاً وديعة القدر العابث، فلن يعرف المرسَلُ إليه القصةَ أبداً. كلُّ شيء في حراسة المجهول، والمظروف هو المجهول الذي يلفّ القصة كاملةً. والشاعر يرفض دور الرائي المزيّف هنا برفضه فتح المظروف الذي يغلّف القدر. اللحظة هنا هي المدار، نحن رهينو اللحظة، فلئن كنتَ "عليلاً"، مثلاً، فاطلب أنساماً "عليلة"، إجلس في مقهى وتأمّل الصخور والشمس الغاربة، والنوارس والصيادين. سوى ذلك، لن تعرف القصة، لن تعرف أيّ شيء، لا الغاية، ولا المآل. "أشرب بيرتي على مهلي، ثم أمضي في سبيلي. لن أعرف أبداً ما هي القصة. لن أفتح المظروف" (عظمة أخرى، ص16).

أخبار عن لاأحد

كتاب قصيدة السرد لدى سركون يتواصل ويكتمل بقصيدة سرد أخرى، بـ"أخبار عن لاأحد"، بسرد آخر عن الذين لفّهم قدر غامض فذهبت بهم ريحٌ وبآثارهم. "من لا نسمع عنهم خبراً، من لا يذكرهم أحد: أية ريح، ذهبت بآثارهم كأنها لم تكن، أبي، والآخرون ـ أين هم، أين..." (عظمة أخرى، ص67). هل هم في حراسة الأيام أيضاً؟ بين أيدي قدرة خفيّة تبسط لهم مجاهيل المصير. كلّ شيء في عالم سركون "في حراسة الأيام"، التي هي مفتاح كلّ غامض يكتنف أسراره؛ من "صانع الأسرّة" الذي "يقدّس الخشب" إلى "الإسكافيّ الصامت، حاضنِ السندان، ماضغاً مساميره المُرّة". الجميع بشراً وحيواناتٍ ونباتاتٍ، الجنود والحصان والسنبلة، كلهم انتهوا إلى تراب أثاره قدر طاغ، طاغية، قنابل ذكية، أعداء، حروب، حصار.

رجل مريض بالقلب يتنزّه على الشاطئ

يتواصل السرد بحكاية عن "رجل مريض بالقلب يتنزّه على الشاطئ" (عظمة أخرى، ص89)، عنوان قمين بحكاية، تداعيات عن مشاهدات رجل يمشي على شاطئ، المشاهدات تؤكد صلتها بكتاب سركون، وحكاياته عن الموت والزمن والمجهول، وهي موضوعات أساسية تنتهي إلى موضوعة شاملة تقوم من بين التداعيات والمشاهدات الواقعية على شاطئ المحيط: إنه الغموض يلفّ العالم رغم إشراق الأشياء ووضوحها. نهاية قصة الرجل المريض بالقلب أن يتغلّف بـ"الضباب الزاحف من نهاية الأفق، من رئة المحيط الهادي" ليكون "مثل رسالة" (عظمة أخرى، ص90)، لنتذكّر قصيدة "المظروف"، مادام ثمة مخبوء غامض، مضبّب، "يسرد" لنا قصصاً عن أشياء البحر الكامنة والمقذوفة، إلى الشاطئ؛ عن جزمة بحّار مجهول، وجثّة تلطم الصخر، وعن الزمن المتوقف في ساعته السويسرية التي اشتراها من مطار زيوريخ، فرمى بعقاربها المتجمدة على الساعة الثالثة إلى البحر، إنه زمنه وحده وقد انقذف إلى البحر بإرادته. مشاهدات الرجل المريض الخارج إلى نقاهة تغلّفه بالغموض مثل "مظروف" أو "رسالة"، وتحيل الأشياء حوله إلى أسرار مجهولة يلفّها زمن متوقف. زمن ميّت في أيام تردٍّ.

الحياة على حافة زلزال

جدّ سركون القلق على حافة سور، كرسيّ مهتزّ، يُورثُه "الحياة على حافة زلزال" (عظمة أخرى، ص93). فبعد ما يربو على تسعين صفحة من الشعر من قصيدة "الكرسيّ"، من مغادرة العيش المترنّح في واقعٍ أشرسَ من الخيال، يرقبه جدُّه من على كرسيّ متأرجح، تلك القصيدة الواحدة، كما أعتقد، قسمها سركون، وهو ينسّق كتابَه الشعري، إلى مقطعيْن، واحد في المبدأ وواحد في الختام، يعود سركون إلى الحكاية نفسها ليحدثنا: "أعيش على حافّة شقّ الزلازل المسمّى: أُخدود القدّيس أندرياس ... يا له من قدّيس! يتخاطف، بين آونة وأخرى، تحت أساسات بيتي فيرتجّ له البيت" (عظمة أخرى، ص93). العيش على حافّة، في الواقع هو عيش في المابين، فهذه القصيدة تصل بالاضطراب ذروتَه بموقعة البيت الذي يقطنه "الراوي"، البيت الصغير كما تصفه القصيدة، بين حافة زلزال وتلّة تنحدر إلى البحر. لا يعود البيت سكناً ولا سكينة في هذا الموقع، ولا تعود الحياة فيه رخيّة هادئة، فهذا الموقع، موقع الشاعر، مثل موقع الجدّ على سور أوروك، هو موقع المرقب الذي يستشعر الاهتزاز ومآل الأشياء الوشيك، الأشياء المنحدرة نحو هاوية، نحو أخدود يغلّفها كـ"مظروف" ضخم، ليخبّئ حكايات المنحدرين نحوه.

هنود الآباتشي

يتّبع سركون مرة أسلوباً مباشراً في الاقتراب من موضوعه، هكذا يبدأ بالحديث إلينا، نحن قراءه، وكأنه يكلّمنا وجهاً لوجه، يخبرنا بتقرير مجافٍ للشعرية المستقرّة بحكاية:

يُقال إن هنود الآباتشي

تلك القبيلة التي أُبيدت تماماً

ولم يبق منها سوى اسمها الذي أطلقوه

على مروحيّة حربية مشهورة بقدرتها على الإبادة

كانوا، بعد أن صاموا طويلاً وأنهك الجوع

أجسادَهم، إذا ما سمعوا الأرض ترجف تحت أقدامهم

وعرفوا أن جواميس البوفالو قادمةٌ

يمتطون خيولَهم من دون سرج

وينطلقون نحن القطيع.

لماذا هذا الترتيب الشعريّ للأسطر؟ أهو شعر هذا المكتوب بأسلوب إبلاغيّ طاغٍ؟ ماذا لو كتبناه كما لو نكتب قصة على سطور مديدة. لنفعلْ ذلك في المقطع الثاني من القصيدة الذي يستمر على المنوال نفسه، وستشير الفواصل والنقاط إلى الترتيب الأصلي للنصّ على أسطر: "ما كان لمحارب واحد، أن يشدّ قوسَه بما تبقّى له من همّة في يده الضعيفة، ومع ذلك، فهو يقوّق سهمَه في الوتر، ويُردي الجاموس قتيلاً في القلب. فهنود الآباتشي كانوا يعرفون ‘الروح العظيمة’، عندما تتجلّى أمامهم وتدعوهم، إلى المعركة" (عظمة أخرى، ص117). أثمة فرق بين المقطعين، كلاهما في الواقع تمهيد يثير تساؤلنا عن الشعر فيهما، لكن التساءل ينحلّ بالمقطع الثالث الأخير، حين يقرن سركون هنود الآباتشي بالشاعر، حينها تتحرك القصيدة صوب هدفها في مضاهاة معرفة هنود الأباتشي "الروح العظيمة" بالشاعر، الشاعر "المطوّق بصيحات القبيلة، حين يجول بين الخرائب، ويرثي أبناء مدينته، يحلم أحياناً أن يحلّق كأيّ نسر فوق رؤوس القتلى والقتلة، آملاً أن يجندل بكلماته مخلوقاً رائعاً ممعناً في الهرب، وأن يُنشب صنّارة خياله في لحم الفريسة." (عظمة أخرى، ص118).

لقد تعمّدتُ مدّ المقطع الثالث من النصّ لأتعرّف الشعر، لا في شكله السطريّ أو غير السطريّ، بل في روحه، كما تعمّدت تثبيت الشكل الشعري للمقطع الأول، وهو تمهيد نثريّ لحكاية هنود الآباتشي الذين يعرفون "الروح العظيمة"، كما الشاعر. لقد حرص سركون على مواصلة الإبلاغ التقريري عبر مقطعين من النصّ المكوّن من ثلاثة مقاطع. إنه نوع من الاستفزاز، قد يمضي شوطاً أو شوطيْن، لكنه بالتأكيد يدّخر شوطاً أخيراً يعصف بانطباعاتنا ويضع حدّاً للاستفزاز، ولأحكامنا المسبقة العجولة، وحتى لضجرنا إن كنّا قراء شعر عجولين، لأنّ مرمى القصيدة كان بعيداً، وحدود لعبة السرد طالت قليلاً، فاختلفت شروطها. وربما العودة إلى القصيدة من جديد، مقروءةً حكايةً تبلغ ذروتها شعرياً يرقّيها إلى ما يرمي إليه سركون من وراء هذه القصائد التي تُغرق في نزعتها نحو السرد. عزيزة هي القصائد التي تُبنى على مثل هذه الخِطّة، هذه الستراتيجية التي يكون معيار النصّ فيها ليس وجوده العيني على صفحة الورقة، أو شاشة الحاسوب (هل يُقرَأ الشعر على شاشة الحاسوب؟) بل تحقيق تلك الخِطّة. في هذا التدبير الشعري تكمن فرادة سركون بولص، الصبور على اللغة حتى تستوي شعراً، ومطلوب من القراءة أن تكون صبورة لإدراك شعرية نصّ سركون.

سركون بولص شاعر التجربة الشخصية بامتياز. يتحوّل العام إلى خاص في نصوصه، فباطنه يمتصّ الخارج ليصبغه بالشخصيّ، ونصّه ملوّث بروحه، ومشذّب بها أيضاً، يتشذّب العموم وتُقَصّ أطرافه المترهّلة عبر شخصنته بمرجل ذات سركون الشاعر، ليطلع نصّ مشذّب أشدّ التشذيب، نصّ بلا افتعال ولا تقليد، ليس فيه من نزعة شعارية، ولا بلاغة صارخة، ولا قالب، ولا موازين معدّة سلفاً. إنه نصّ حرّ.

أمّ آشور تنزل ليلاً إلى البئر

في نصّ "أمّ آشور تنزل ليلاً إلى البئر"، يخلق سركون مسافة فاصلة بين ما يقوله شعراً وما يتراءى قولاً اجتماعياً لزائر تشرئبّ عينُه لرؤية أهله وأحبابه. في العودة إلى الوطن، العودة المؤقتة أبداً، يبحث عن مرضعته "أمّ آشور"، لكنه يكتب في هذا البحث آلام الأمّ بإطلاق، الأمّ العراقية في زمن الفقد، زمن الموت والجوع والقهر. ولذلك ما يتناهى إلى سمعنا ونحن نقرأ النصّ صوت آخر غير أحاديث الزائر إلى مضيّفه أو أسئلة المشتاق عن أهله. تسري مع هذا الصوت غُصّة تلازم القراءة فتلوّن استجابة القارئ وتبثّ فيه القشعريرة. نصّ "أمّ آشور تنزل ليلاً إلى البئر" أشدّ بساطةً من أيّ نصّ آخر قد تبدو فيه اللغةُ منحوتةً نحتاً، إنه صفاء محض، لكنه يخلّف حيرة في القارئ عن سرّ تأثير "هذه القصيدة الحكاية" عن أمّ يقضّ مضجعَها الفقدُ الأليم، ها نحن نقول "يقضّ مضجعَها الفقدُ الأليم"، العبارة الأشيع في مثل هذه المواقف، لكن سركون يقول على لسان أمّ آشور "إلهي ... من ينزعُ هذه الشوكةَ السوداء من قلبي الآن" (عظمة أخرى، ص63). لا يوارب سركون في هذا النصّ، فهو يتجه إلى الهدف مباشرة، يحكيه مباشرة، يحكي الموضوع كما هو. "وكيفَ حالُ أمّ آشور..."، هكذا يبدأ النصّ، بهذه البساطة، لكنه في الحقّ لا يبدأ هكذا، إنه يُستأنَف هكذا، الواو تستأنف كلاماً غيرَ مقول في النصّ، لكنه يتضح، لأقلْ يُشرق شيئاً فشيئاً كما الشمس: "وكيفَ حالُ أمّ آشور...، سألتُ أهلي حينما زرتُ مدينتي المهدّمة، الموشّحة بدُخنة الحروب، بعد سنوات طويلة من الغياب..." (عظمة أخرى، ص61). العذاب يرسم هالة على وجه الأمّ فتتقدّس العينان، وتكون كالعذراء مريم "سيدة الأحزان السبعة". أمّ آشور، "حينما سجّوه بين يديها"، تسمع أصوات موتاها قادمة من أعماق البئر، "الأرواح تناديها"، وهي من أعماقها تصيح "إلهي ... من ينزعُ هذه الشوكةَ السوداء من قلبي الآن". في أعماق البئر تسكن الأرواح، وترسل شكاواها، وتطلب المواساة، وأمّ آشور ترسل مواساتها نواحاً يرجّعه الصدى أرواحاً تشكو، وهكذا بين إرسال النواح وترجيع الصدى، يُلطَّف شيئاً ما الألمُ المتوطّن. هذا تمرين المقهور وملتجأ المأزوم، كان تمريناً معروفاً لعليّ بن أبي طالب، وقت الأزمة والاغتراب، قاصداً غابةَ النخيل بالمدينة، حانياً ظهرَه في حُلقوم بئر عميقة، ومطلقاً لأنينه العنان.

يتصاعد نصّ سركون الشعري نحو ذروة مؤثرة سردياً، بالطبع ليس من مفارقة في بلوغ النصّ الشعري ذروة عبر السرد، لكن سرد سركون لا يتخذ دائماً منحىً تتابعياً، حدث بعد آخر، إبلاغ بعد آخر، ولا يتبنى الحدث في مكان واحد، بل ثمة زحزحة لمسار التتابع الزماني والمكاني، هو يتقدم ويعود القهقرى، يكرر، ويعطف على لحظة سحيقة، ليرجع إلى راهن مطلوب، وبالطبع يسيح في المكان بين المدن. في نصّ "رسّام الأهوار" (عظمة أخرى، ص73)، يتمثل هذا البناء المحكم حين يسرد النصّ قصة رسّام الأهوار بعيداً عن أهوار العراق، البعد هنا بعد مكاني أولاً، حيث يعيش الرسام في الغربة، وزماني حيث صار زمن الأهوار جافّاً مثلها تحت مشاريع جهنمية للسلطة. بدلاً من الفرشاة وخشبة الألوان، أمسك الرسام بالممسحة والسطل، والبلاطات حلّت محلَّ الكانفاس. الجنوب العراقي غائب، وتحضر لندن ومدريد وباريس. النصّ يغامر فيزوّدنا بخمسة أسطر مما جاء في الأخبار عن تشرّد وضياع الطيور التي اعتادت الهجرة إلى أهوار العراق منذ آلاف السنين، بعد أن أنجز لنا ضياع الإنسان في شتاته.

شعر سركون محاولة منه لتجنّب الواقع المؤلم، إنه تفادٍ من نوع ما، تفادٍ موغل في التعقيد عند البواكير، حين كان سركون يعتقد أن الجديد لا يطلع من اليسر والسلاسة، بل من نحت الجملة وبثّ الغرابة فيها، نحت بلا تعمّل وغرابة بلا إبهام. وهذه المحاولة تصحب تلك القصائد المشحونة بالسرد كمحطّات لتسمّع صدى الكلمات التي تلطّف القسوة، وترسل أشعة في الظلام لكي يتمكّن الشاعر أولاً من أن يعيش حياة الاغتراب. فالعيش شعراً في وسط الاغتراب دفق مقاومة أمام الشعور بالانسحاق تحت عجلات ضارية. من هنا، يراوح نصّ سركون، من البدء إلى المنتهى، بين أن يستجيب إلى تعقيدات الواقع فيستدرجها إلى لغته في البدء، أو أن يرقبها بعين القاصّ، في المنتهى، وهو القاصّ المحترف الذي نَوّه النقاد بقصصه مراراً. امتزج القاصّ في سركون مع شاعر البواكير، راوي القصص مع شاعر "قصيدة النثر"، لينجب لنا قصيدة سرد، سرد تحكمه الشخصية والمكان والزمان وبعد اللغة الشعرية. وهو يحاول أن يحتفظ بإشراق لغته وتعبيرها في كلتا الحالتين، بل حتى في حالة قصيدته اليتيمة التي تعتمد على التفعيلة والتدوير، "أنا الذي" (انظر عظمة أخرى، ص49)، تلك القصيدة النادرة الوضع بين قصائد الكتاب الشعري في اعتمادها على التفعيلة والتدوير في آن. فهي لا تقيم فاصلاً عن بقية قصائده، لا تُسدل تفعيلتها حجاباً على الواقع الذي تقترحه، ولا تدوريها الغريب، الغريب لأن سركون لم يُعرَف عنه ميلٌ لهذا النمط الذي فاز بريادته الشاعر حسب الشيخ جعفر. فهي تفعيلة وليست بحراً وزنياً من ذلك النوع الذي أنكره نيتشه على الشعر حين زعم، في الكتاب الرابع "عن روح الفنانين والكتاب" من كتاب إنسان مفرط في إنسانيته، أن البحر الشعري "يسدل ... حجاباً على الواقع، يفسح المجال لمكر اللغة ولتشويش الفكر" (ص97).

بهذه كلِّها، يلظمُ سركون بالخيط الخفيّ قصائدَه ليجعل منها كتاباً واحداً مؤلّفاً من قصائد سرد، يجعل منها قصيدة سرد واحد. وهو يعي ذلك في اختياره تريب القصائد ليكون كتاباً شعرياً لا مجموعة شعرية. هذا النوع من التركيب الذي يتجاوز تركيب القصيدة الواحدة إلى تركيب الكتاب الشعري يؤكّد الموضوعة الأساسية التي تلمّ بأشعار وحياة سركون بولص: التيه والتشرّد، تيه الآشوريّ وتشرّده، متحوّلين إلى فنّ رفيع. عاش سركون نوعاً خاصاً من التيه، المنفى، الاغتراب، ولا عبرة هنا بالتمايز المفهومي. لأن سركون لم يكن بلا طرق أو أن طرقه مسدودة، على العكس، لأن طرقه مفتوحة تاه وتشرّد، ولم يكن تيهُه زبدةَ إخفاقاته في حلّ ألغاز هذا العالم، على العكس أيضاً، فـ" محلولة، سلفاً، كلّ الأحاجي" كما يقول في عنوان إحدى قصائده، كما أن "كلّ الطرقات مفتوحة أمامي، كلّ الأحاجي محلولة سلفاً، طرقة على الباب، وينفتح..." (عظمة أخرى، ص83). لكن الطرقات المفتوحة والأحاجي المحلولة لم تكن لتؤدي إلى بوّابة مدينته المنشودة. يسوّي سركون أزمة هذا التيه باقتراح العثور على باب مُشرعة، تدعوه للدخول: "وما هي إلاّ نبضة في صدغ القصيدة، تطرق من أجلي باباً، تسمح لي بالدخول". القصيدة باب الشاعر المُشرعة، يدلفها ليواجه نفسَه على حافةٍ يتفاداها: حافة جنون (ص83) أو حافة زلزال (قصيدة الحياة على حافة زلزال، ص93).

لنتبيّن الآن جانباً إحصائياً يدعم التحليل السابق ويضع أيدينا، بلا شك، على الطابع السردي المهيمن على الكتاب. في كتاب عظمة أخرى لكلب القبيلة، ثمة ستّ وتسعون قصيدة بُوِّبَتْ على وفق الأرقام الرومانية والأرقام العربية (يبدو هذا دأباً لدى سركون، لنتذكّرْ أنه بوّبَ كتابه الأول والتالي (1992) على وفق الأرقام السومرية). تبويب هذه القصائد الستّ والتسعين جاء على ستّة أجزاء هي المرقمة بالأرقام الروماني، وتحت هذه الأجزاء يجيء ترقيم القصائد بالأرقام العربية. المهم أن قصائد السرد منبثّة في جميع هذه الأجزاء، إذ لم تخضع إلى أيّ تصنيف أو تبويب أو حجزها في قسم خاص. فبين تلك القصائد الستّ والتسعين، ثمة ما يربو على إحدى وأربعين قصيدة تنزع إلى بناء قصيدة سرد متواصلة، مقطّعة إلى قصائد سرد قصيرة، تشدّها لُحمة واحدة، ولهذا يحبّذ سركون نفسُه تسمية مجموعته الشعرية بـ"كتاب شعريّ". لهذا المنحى السرديّ الطاغي في قصائد آخر كتاب شعري جذوراً في أوائل الكتب الشعرية لسركون، ولكنه لم يكن بمثل هذا الطغيان الذي نراه الآن، هنا في مآل سركون الشعريّ في عظمة أخرى. لندلّلْ على ذلك، لو تتبعّنا قصائد السرد في كتاب الوصول إلى مدينة أين (1985)، وهي من بواكير أعماله، لوجدنا عدداً حَيِِيّاً، لا يعدو قصيدتين من بين ثلاث وستين قصيدة. فالشعرية التي حكمت ذلك الكتاب الشعري، الباكورة، تختلف اختلافاً صميماً عن آخر كتبه الشعرية، المآل. والقارئ لن يجد جوّاً مشبعاً بالحكايات، والشخصيات، والسِّيَرة الذاتية، وما إلى ذلك، بل يجد جوّاً مشبعاً بالاستعارات وصور الغرابة، سيجد عالماً مشحوناً بفنّ صنعيّ للقول، وبهموم بادية تنزع إلى بناء القصيدة بناء تحفّه مؤثرات الشعر الغربي، الأميركي خاصة، الذي عاش في بيئته، وترجمه، وخَبَرَ شعراءه عيشاً وشعراً لسنوات طوال. أما صناعة القصيدة سرداً فلا يأتي إلاّ لماماً، وعرضاً، في قصيدتيْ "قرية" و "بليلة واحدة" (انظر الوصول إلى مدينة أين، ص122 و 126 على التوالي)، أكرّر، من بين ثلاث وستين قصيدة هي قوام كتابه الشعري.

نموذج

قرية

الباعة المتجوّلون وأصحاب

الحوانيت الصغيرة قتلوا المختارَ في الليل

مما اضطرّ بقية الجياع إلى بيع ذهب نسائهم وجاؤوا بالمئات

والآلاف

يرشقون خوَذَ البوليس بالحجارة

بالطحين والزيت والسمن والسُّكّر والحليب

والأرز والعدس والحلويات والمعلّبات والصابون والحرامات

والفرش والشراشف والألبسة وأغذية الأطفال

وكلّ بندقية تدخلُ القرية

يُقام لها عرسٌ صاخب على ضوء الفوانيس

قلبوا حسابات الأعداء

ومع ذلك

ظلّ مستنقع الأصوات المتخمة طوال الليل

يصبّ في بالوعة الخيانة.

(الوصول إلى مدينة أين، ص122).

لنأخذ مثالاً آخر من كتابه الشعري الأول والتالي (1992) المؤلَّف من سبع وتسعين قصيدة، إذ ثمة نسبة دالة لقصائد السرد فيه، فثمة ما يربو على عشرين قصيدة يحضر فيها السرد ستراتيجية أساسية للقصيدة، هذه القصائد هي: "حلم أبي" (ص17) و "ابن العامل والدوري" (ص22) و "رقصة الديك الأثير" (ص26) و "يونس والبئر الأرملة" (ص31) و "الجدّ يبدأ بالطواف" (ص33) مفتاح البيت (ص36) و "كواكب الذبياني" (ص50) و"لقاء مع شاعر عربي في المهجر" (ص61) و"العنكبوت" (ص88) و"الشبكة" (ص89) وبعض من أجزاء نصوص "تجاسيد" مثل "فطور" و "آدم" و"يونان النبي" (ص95-96) و "تطورات يومية" و"حدث في طنجة" (ص105) و"ساحة أومونيا في أثينا قبل المساء" (ص115) و"أمسيات نموذجية" (ص117) و"الإيماضة الباقية" (ص120) و"رَمْبيتيكو" (ص122) و "الراقصة" (ص124)، و"النورس الذي يتبع السفينة في البحر" (ص125)، و"المحطة" (ص136)، و"عقدة السندباد" (ص157)، و"مِكناس" (ص169) و"الليل في نيويورك" (ص177).

نموذج

يونس وبئر الأرملة

من وراء السدّة العالية لسكّة الحديد

كان يظهر بلحيته الكثيفة شاردَ العينين في كلّ النواحي

متنقّلاً بهما بين العصفور الذي يرفرف فوق تلّة من الفضلات

قرب عربة القطار التي تصدأ في الشمس

إلى طارمة المقهى التي يجلس فيها شيوخ المحلّة

أمام السكّة مباشرةً، يرصدونه بعيون مليئة بالغيرة.

... (الأول والتالي، ص31).

هذه الزيادة في عدد القصائد التي تميل إلى السرد تحيد بمألوف شعرية سركون في قصائده المبكرة، وتخلق نزوعاً متنامياً، عبر عقود الكتابة الشعرية، نحو قصيدة السرد. هذه الشعرنة الجديدة، المعتمدة على ستراتيجية السرد، يبدو أنها ظلت تختزن هذه الرغبة المكبوتة حتى أطلقتها الشاعر في آخر أعماله، حين تحوّل سركون أخيراً إلى قصّاص شعريّ يكتب قصيدة سرد، ويُولي مرانَه الشعري عناية فائقة في تطويرها وتكريسها. فلو ذهبنا مباشرة إلى آخر كتبه الشعرية المتخذة هنا أساساً لفرضية تحوّل شعرية قصائد سركون نحو السرد، واصطباغها به، لوجدنا أن قصائد عظمة أخرى لكلب القبيلة تحسم خيار سركون في تبني "قصيدة السرد".

كلّ شيء في اللغة، لدى سركون بولص، بما في ذلك السرد المحض، قابل لأن يتحوّل إلى شعر، وبضمن ذلك فقرات كاملة من التقريرات النثرية. هي لغة لا تمتثل إلى الموضوع الشعري، أو المفردة الشعرية، فالشعرية فيها صِبغة تتسرّب إلى مكان في نصّه. لغة سركون بولص الشعرية تبني شعرية خاصة تقنيةً وموضوعاً. وأبرز ما يميّز كتابه الشعريّ الأخير هو النظام السردي الذي تتولد منه قصيدة. معلوم الرباط القديم، الثابت لأزمان سحيقة، بين الشعر والسرد. في الواقع، كانت أقدم الملاحم أشعاراً، والأساطير وصلتنا مكتوبةً بلغة شعرية. وتكاد تكون الحكايات القديمة كلّها شعراً. حتى لو بدا ما يعرضُه سركون أمامنا محضَ أصوات يسمعها، تماماً مثل تلك التي أنصت إليها في نصّه الفريد "موكب أصواب" (انظر عظمة أخرى، ص100)، لو بدا مجرد تداعٍ وانثيال منبتّ الصلة بواقع ما، مثير للريبة ظاهرياً، لابدّ من توطينه لبرهة، فسرعان ما يتحول إلى شيء جوهري، وبذلك فإنه يمنحنا فرصة للتفكير في المألوف على أنه غير مألوف. يعلمنا النصّ الذي يتخذ اللغة العادية ظاهرياً ستراتيجية شعرية أن الأبهة والفخامة قد تخفيان السخف والفراغ والتفاهة. فثمة زوايا معتمة خفية يجب التمعّن فيها. هذه الزوايا تحاول بلوغ الخارق من خلال العادي. وهنا يجب تحطيم الإيمان بوجود لغتين شعرية وغير شعرية.

نصُّ سركون عرضُ صور بالمعنى العادي للكلمة، هو معرضُ صور، تنمو نمواً سردياً تعاقبياً، وتتطور فكرتها بتتابع صورها ومقاطعها تتابعاً. أحياناً يبدو تنقّل العينين بين سطور قصيدته دخولاً إلى إلى قسم في متحف يعرض بغرابة أحافير غريبة، لكنه في أحيان أخرى دخول في معرض لوحات تواكب أحداثاً ومشاهد. وهذا واضح الوضوحَ كلَّه، ليس فقط في ما يترشّح من دلالات، بل في بناء قصيدته أيضاً. تدمج نصوص سركون الحكايات، والشخصيات، والحوادث بلغة تكون وعاء لتفاعل هذه المكوّنات ضمن نظام بناء خاص، يبدو بسيطاً، لكنه معقّد في العمق، ليس مفتعلاً أبداً، بل يتحرك ضمن دمج محسوب حتى نهايته، ذروته، مع بلوغ الدمج حدّاً تشرق فيه اللغة والقصد معاً، النصّ ومعناه معاً، يشرق الشعر على يديه. لا ينتظم هذا التماسك والبناء القصدي النصّ الشعري المفرد، بل مجموعة النصوص المودعة في كتاب شعري. فسركون بولص لا يجمع نصوصه بل ينظّمها على وفق مبدأ يختاره، فهو كما سلف القول لا يسمّي تنظيم نصوصه "مجموعةً شعريةً"، بل "كتابٌ شعريٌّ".

ليس من إسفاف في نصّ سركون، وهي سمة يسهلُ الانحدارُ إليها ضمن توصيفات ما يسمى بـ"قصيدة النثر". وما من إسراف في الشعور المبثوث في النصّ، لأن هذا الأخير مرآة لإسفاف النصّ. لا إسفاف ولا إسراف، بل نصّ مهذّب مشذّب بدُربة شعرية تحصّل عليها سركون من خبرة السنوات الطويلة والعمل الشاقّ على لغة الشعر التي تشابهت لدى شعراء كُثْر، وبات سركون يخشى أن يسقط في مهاوي هذا التشابه، فعمل جادّا في اختطاط طريق. إنها طريق تطوّع في مجراها ومسراها شعراً يحمل عواطفه وتاريخه وحتى سيرته الذاتية، فضلاً عمّا دوّنه من سيرته في ذمّة اللغة الألمانية بعنوان أساطير وتراث. لقد حوّل سيرته إلى شعر نتلمّس منه معرفة به، وحتى "الحنين" الذي قاساه، الحنين الذي لازم النصوص العراقية في المنفى، طوّعه في خلق قصائد. فكان هدف سركون الواعي هو تحويل هذه العاطفة الطاغية إلى "فنّ"، قال ذلك جهاراً مرة، لم يكن التفجّع واستثارة الحنين نفسه من شواغله، الألم يتحوّل إلى فنّ، الضعف إلى قوّة، العاطفة إلى شعر، والشعور باللاجدوى يكون مجدياً على يديه. يقول:

"أستطيع أن أقول باطمئنان أن معظم كتاباتي منذ تركت العراق كانت محاولة بالغة الجهد عبر مئات القصائد للتعامل فنياً مع ما سميته الحنين. وكشاعر، أخشى أن أقع في أحبولة الإسراف العاطفي، على أني لم أتوقف لحظة عن التفكير بوطني أو التشوق لرؤيته. أمريكا بالنسبة لي هي مكان عيش، إقامة، وليست وطناً، لأنك لا تستطيع أن تملك وطناً مرتين. وفي نفس الوقت، ليس بمستطاعك أن تعود إلى وطنك ثانية. اللغة العربية، وهي الحبل السري الذي يربطني بشعبي وبتاريخي، هي الوطن الحقيقي الوحيد الذي أملك. وهنا نقطة حاسمة أريد أن أثبتها: التقنية الشعرية التي طورتها عبر السنوات، لكي أعالج هذا الموضوع الضخم الذي هو المنفى، هي ما حال بيني وبين السقوط في أحبولة الحنين. إذا لم تتحول العاطفة إلى فنّ، فالأولى أن أحتفظ بها لنفسي وحدي."

خاتمة

 

حين ننفض أيدينا من نصوص سركون بولص، يتخلّف منها نثار حكاية عن ضياع ذاتي وجمعي، شتات مستوطن في الذات السركونية معبَّر عنه جمعياً، وهنا تكمن أهمية سركون في التعبير عن الحقبة التاريخية التي عاشها، حقبة العراق وليس مهجره. فنصوصه تصلح مدوّنةً للخلاص قبل أن تصلح تمثيلاً للتاريخ، سيّان الخلاص الفردي أو الجمعي. مدوّنة سركون ـ وأنا أستعير هنا مصطلحاً اُعتيد على استعماله سردياً ـ تستبطن الزمن وتتجاوزه، أو إنها تتجاوز الزمن الخادع بتمكين الشعر من الارتباط بالجوهري والثابت الذي سيتمرأى لكلّ مطالع في تاريخ العراق المحدد بحقبة عاشها شاعر مثل سركون. ألم يحدّثنا سركون، شتاء العام 1969 في قصيدة "آلام بودلير وصلت"، عن وجوده في جمرة، داخل جمرة، كان يحملها في يده، إنه هو حامل الجمرة، صحبة "الفانوس"، وهو الذي يسكنها. "رجل يحمل جمرة في يده تحتوي رجلاً يحمل جمرة في يده" (الوصول إلى مدينة أين، ص34)، تيه وشتات، وعبث، وصراع، واستكشاف، وإبحار في "سفن الضعف"، فـ"آلام بودلير وصلت عن طريق البحر". إنها العزلة في الجمرة التي أبى أن يخرج منها سركون، إنها المعرفةُ المؤلمة وحكايات العذاب التي تستحيل في يد سركون قصائدَ فيها ألقُ الجمر وحرارتُه وروعةُ ألوانِه.

 

 

غلاف المجلة

فاتحة اللحظة الشعرية

 

* 

غريْهَم هولدرنَس : قراءةٌ لقصيدة فيليب لاركن

عبد الكريم كاصد : تحولات البياتي

طالب عبد العزيز : أغلال الوجود الحر

عبد الخالق كيطان : خماسية الصباح

خزعل الماجدي :  آخر صفحات الشعر الرافديني

نصير فليح : 3 قصائد

 

*


ملف: سركون بولص

 

محمد غازي الأخرس : نهار سركون بولص

 علـي جعفـر العـلاق :  شـعـرية الطـوفــان  

حسن ناظم : مآل ُسركون بولص

فوزي كريم :  مشروع نص نقدي

سركون : قصائد مبكرة

باسم فرات : حوارات عابرة للزمان

يوسف الناصر: خطوط وألوان لاحتضان الشاعر

رحمن النجار: معبد سركون بولص

صالح زامل : قراءة في شعرية سركون بولص

 

*

 

حصاد المحرر: الشعر


أبجدية الرمل

عروس الثلج

 

حصاد المحرر: الموسيقى
 

عزلة الكورال

مقتطفات كافكا

 

حصاد المحرر: الفن

صادق طعمة : من العباسية إلى سومر

 

موقع الشاعر فوزي كريم      الصفحة الأولى         اعداد سابقة         بريد المجلة

  ©  All Rights Reserved 2007 - 2009