قراءةٌ لقصيدة فيليب لاركن "خُدَع" ـ حوار درامي
غريْهَم هولدرنَس
مشهد غرفة حلقة دراسية في معهد عالٍ للتربية. مدرسو انكليزية يجلسون حول طاولة مستديرة. كتب وأوراق أمامهم على الطاولة. جمهور من مدرسين وطلبة يملئون بقية القاعة. مطلع أكتوبر، بعد الظهر.
الشخصيات: كلينث: formalist (النقد الجديد أو العملي) ريموند: marxist (النقد الماركسي) كَيْت: Feminist (النقد الأنوثوي) كولِن: poststructuralist (النقد المابعد بنيوي) سيسيل: chair مدير الندوة
سيسيل: مرحباً بكم أيتها السيدات والسادة من الأساتذة والطلبة لهذه السنة الأكاديمية الجديدة. شكراً للجميع على الحضور: فأنا أعرف كثرة مشاغلكم، ولكني آمل بأن جهدكم الحقيقي في دعم هذا المشروع المجدي لن يذهب سدى. نحن اعتدنا محاضرات في هذه المناسبات، وعلينا أن نواصل: ولقد اتفق أربعة من زملائنا اليوم على تقديم إسهامات موجزة تعرض وجهات نظر متعارضة (يلقي نظرة على الورقة أمامه) حول قصيدة مهمة للشاعر فيليب لاركن. وأنا على يقين بأننا سنحصل على عدد من الأفكار الخلافية واللامعة الكفيلة باستثارة اليقظة فينا والتحفز. كلينث، أحسب أنك ترغب بأن تغتنم الفرصة؟
كلينث: شكراً، سيسيل. دعني في البدء أقرأ عليكم قصيدة فيليب لاركن: "خُدَع". نُشرت عام 1950. من مجموعته "أقل انخداعاً" The Less Deceived.
"لقد خُدّرتُ طبعاً، ولم أستيقظ من المخدر إلا في صباح اليوم التالي. رُوعت لاكتشافي بأني اغتُصبتُ، وكنت عصية على المواساة لأيام، وبكيت مثل طفل يوشك أن يُقتل..." مَيْهيو: "عمال لندن وفقراؤها"
أستطيع تذوق طعمَ الأسى، حتى عن بُعد مراً وشائكاً، حتى لتبتلعه. أثر الشمس المتقطّع، قلقُ العجلات الخاطف على امتداد الشارع خارجاً حيث مشاغل لندن المزدهية اللاهية، بإضاءتها التي لا تُدحض عرضاً وطولاً، لا تسمح للجرح أن يشفى، وتكشف عن العار. طوال اليوم المتباطئ يبقى رأسكِ مفتوحاً مثل دُرج سكاكين.
أحياءُ الفقراء، والسنواتُ، طمرتك. ولن أجرؤ على مواساتك لو استطعت. وأيّ قولٍ مُستطاع، غير توكيد صحة المعاناة، ولكن حيثُ حيث تأخذ الرغبةُ القياد، تشردُ اللغة. لم يعد يعنيكِ بأنك كنت المخدوعة الأقل، على ذلك السرير، مقارنة به، ذلك المتعثّر على السلم المنقطع الأنفاس المندفع إلى مخبأ العلّيةِ المهجور. Even so distant, I can taste the grief , Bitter and sharp with stalks, he made you gulp. The sun’s occasional print, the brisk brief Worry of weels along the street outside Where bridal London bows the other way, And light, unanswerable and tall and wide, Forbids the scar to heal, and drives Shame out of hiding. All the unhurried day Your mind lay open like a drawer of knives.
Slums, years, have burried you. I would not dare Console you if I could. What can be said, Except that suffering is exact, but where Desire take charge, reading will grow erratic? For you would hardly care That you were less deceived, out on that bed, Than he was, stumbling up the breathless stair To burst into fulfilment’s desolate attic.
أنا متأكد بأن زملائي سيقترحون بأن تُقرأ هذه القصيدة كـ "بيان" عن حالة، أو حالات وهن، حالة استغلال، حالة اغتصاب، حالة فعل كتابة. هذه الأشياء هي خبرات بشرية حقيقية طبعاً، أو على الأقل قناعات حقيقية، وًضعت بصدق. ولكننا إذا ما حاولنا تفسير القصيدة وفق الأفكار والمواقف المُعلنة خارجها، فعلى الأرجح سنجد القصيدة تتهاوى إلى مجرد مناقشة حول الفلسفة، أو السياسة، أو التاريخ. الشعر يستخدم اللغة بطريقة جد مختلفة عن طرق الاتصال الأخرى ـ النثر، أو التوثيق التاريخي، أو الكلام العادي ـ وما يجب على النقد البحث عن تحديده دائماً هو الميزة النادرة، الفريدة، التي لا تُستبدل للغة الشعرية تلك. لتحقيق ذلك علينا أن نتعامل مع القصيدة دون أفكار مسبقة سلفاً، أو أحكام جاهزة، أو قناعات عاطفية: نتعامل معها بحساسية مُشرعة ومستعدة لتلقي الميزات الخاصة للغتها الخلاقة. لذا أود أن أبدأ بافتراض أن القصيدة ليست معالجة لأي شيء مطلقاً. ولكن، ستقول أنتَ، أن القصيدة تعالج شيئاً ما: حالة امرأة شابة خُدّرت واغتُصبت في لندن، في مرحلتها الفكتورية، والتي ذُكرت قصتها في كتاب هنري مَيْهيو حول فقراء لندن. إن خبرتها هذه هي بالتأكيد موضوع القصيدة: ولكنها ذاتها حُددت بوضوح على أنها كائن مات ودُفن منذ زمن بعيد، وأن وجودها أُزيل بفعل الزمن والتغير. ـ "أحياء الفقراء، والسنوات، طمرتك". وما من مجال للتواصل أو التبادل العاطفي بين الشاعر وبين موضوعه: "لن أجرؤ/ على مواساتك لو استطعت". المرأة وخبرتها تلاشيا مع الزمن، ولم يبقيا إلا في مجرد نثر توثيقي اجتماعي للسيد مَيْهيو. ما فعله الشاعر لاركن هو تناول تلك الخبرة المتلاشية للمعاناة، والتي لا يمكن اعتبارها حقيقية بالنسبة لنا، ومنحها ضرباً من الحيوية الشعرية تمكن حكاية المرأة من الحياة، ومن أن تنبعث ثانية كحضور درامي مرئي. القصيدة خلقت شيئاً حقيقياً ـ عملاً فنياُ مُنجزاً ـ من مجرد مواد ما كان لها أن تُشغل استجابتنا العاطفية أو انتباهنا النقدي إلى أي شي بالقدر ذاته. ونحن لا نستطيع أن نقدر واقعية الفن هذه حق قدرها إلا بتقديرنا القصيدة "باعتبارها في ذاتها حقاَ". وشأن كل قصيدة ناجحة فثمة صراع وتوتر هنا بين بيانات متعارضة في الظاهر. اعتراف الشاعر بأن المرأة هنا مجرد مخلوق تاريخي، بعيد عن تعاطفه وقدرته على التعزية، يواجه بتحدٍ من دافع مختلف لديه بأن يدخل كاملاً في غمرة حالتها الدرامية: " أستطيع تذوق طعمَ الأسى، حتى عن بُعد ". الشاعر يتخيل بأنه يستطيع إعادة خلق أحاسيس هذا الحدث النائي، والمشاركة بها كما لو كانت أحاسيسه هو: إنه يستطيع "تذوق" الـ "مرارة" التي تعود إلى عملية تخديرها، وإلى الاعتداء الجنسي المخجل والمُذل معاً. إن التأثير المصوّت لفعل "بلع" المرارة ينقل بالضبط الإحساس بابتلاع السائل المخدر من البلعوم، والسائل المنوي في عملية الاغتصاب. إن الصياغة الدرامية للحالة النفسية وللجو المحيط تتبعها تقنية إشباع الأشياء المادية المحيطة بالأهمية التي تنطوي عليها تجربتها: كأن تتمدد في الغرفة القذرة "طوال اليوم البطيء"، "دون تعزية"، ومضات هاربة لضوء الشمس "تطبع" خيوطها على رؤيتها، كما "طبع" الاغتصاب لطخة لا تُمحى على عقلها وجسدها. ضجيج عجلات من الشارع تخرج صوتاً يشبه ذعرها هي ـ "قلق العجلات الخاطف". إن صور الجروح، والضوء، والدقة الملموسة في "يبقى رأسك مفتوحاً/ مثل دُرج سكاكين" تعمل جميعاً سوية لتنقل أحاسيس شيء عرضة للانجراح وقد فُتح عنوة، جُرّ خارجاً تحت الضوء الحاد، وتُرك عارياً كوعي معذّب ذاتياً ممتلئاً بإذلال حاد، وعاجزاً عن أن يُغلق. المقطع الثاني من القصيدة يواصل في إقصاء التجربة التي صيغت ومُسرحت بدرامية بالغة الحيوية. ومع ذلك فإن تراجع الشاعر إلى حالة العجز ("وأيّ قولٍ مُستطاع؟") لم يكن انسحاباً من أية تجربة واقعية، ولكن من الحضور العيني لما خلقه شعرياً هو ذاته، إدراك حي للتجربة في لغة شعرية. النصف الثاني من القصيدة إنكارٌ للأول، خداع واقعية الفن المُنجزة، فشل المخيلة الشعرية. كل شيء تعيّن في النصف الأول من القصيدة بصور دقيقة، تُرجم هنا في النصف الثاني إلى تجريدات خالية من الحياة: "رأسك مفتوح/ مثل دُرج سكاكين" في النصف الأول أصبح هنا كلمة "معاناة". نزعة التصوير للتجريح، والانتهاك، و"المرارة" تُرجمت هنا بشكل غريب إلى كلمة "الرغبة" التجريدية. وفي الوقت الذي كان الشاعر معنياً بإضفاء دراما على تفاصيل التجربة المُتخيلة، يلوذ هنا بفاعلية بـ "قراءة" ذهنية معزولة. محاولة لاركن لإضفاء الدراما على تجربة الرجل فشلت مقارنة بالمعرفة المنجزة لتجربة المرأة: والمحاولة ثانية لمنح المحيط الفيزيائي إحساساً عطفياً ـ "السلم المنقطع الأنفاس"، "مخبأ العلية المهجور" ـ تبدو محاولة ميكانيكية بالمقارنة. القصيدة في نهاية المطاف فاشلة خيالياً، لأن لاركن بدقة لم يكن راضياً بأن يترك للدراما الشعرية، إدراك التجربة الخيالية كلها، في أن تتحدث عن نفسها. إن حافز أن يؤثر، ويشرح، ويتأمل ويفلسف، ويتدخل عن إرادة وقصد، قد أنهى القصيدة تماماً. ليس على القصيدة أن "تعني"، بل أن "تكون". والذي أضعف هذه القصيدة هو رفض الشاعر أن يترك القصيدةَ "تكون"، وعزيمته على أن يجعلها "تعني" شيئاً ما غير ذاتها.
رَيموند: يتوجب علي الٌقول بأني أحسد اعتزال كلينث الصافي عن الواقع المُعاش. إنه يملك، شأن هينري جيمس، عقلاً لا يمكن أن تُعكره أية فكرة لصفائه وأناقته. لسوء حظ منهجه أن هذه القصيدة تعني شيئاً ما بالتأكيد. إنها تتعامل مع أشخاص وحالات ليس من الصعب التعرف على مقدار "واقعيتها". إنها متجذرة في ذلك "التاريخ" الذي نحن (باستثناء كلينث) "مجرد مخلوقاته". وهي تنطوي بالتأكيد على هدف مقصود، الذي يعني فيما يعنيه إرغام القارئ لأن يواجه وأن يكون على دراية بالواقع الاجتماعي غير المُسر. إن الاقتباس من هنري مَيْهيو مقصود من أجل أن يثبت الحدث الدرامي في تاريخه الحقيقي، تاريخ الطبقة العاملة في لندن في منتصف القرن التاسع عشر.إن العالم الاجتماعي الذي وثّقه مَيْهيو هو عالم الروائي ديكنز الذي نعرفه: عالم التعارض الحاد بين الغنى والفقر. عالم الحرمان والمعاناة الجائرة. عالم القسوة والاستغلال. تحدث كلينث حول هذا الواقع الاجتماعي باعتباره واقعاً "متلاشياً"، "مطموراً" في الماضي. إن هذا الفصل ليبدو مستحيلاً بالنسبة لنا نحن الذين نؤمن بأن الجوع والاستغلال لا يمكن بأي حال أن يكون قد تلاشى. لأننا ربما على دراية بأن هذه الأشياء واقع متواصل ـ مازال بيننا الآن في مدننا، دعك عن العالم الثالث المجوّع والمُستَغل ـ وأننا أكثر رغبة في معرفته التاريخية. خلال المرحلة التاريخية التي مُسرح حدثها في القصيدة، أن نتحدث ببساطة أو نكتب عن معاناة الطبقة المعدمة المقهورة، حتى لو تم الأمر بنص نثري "توثيقي اجتماعي"، مثل تقرير حكومي أو مسح ميداني عام، سيكون هذا الفعل في ذاته ضرباَ من تعهد وتدخل، مذ كانت الطبقة الحاكمة لتلك الفترة مصممة على إنكار وجود هذا الفقر وهذا الحرمان. ولكن كتّاباً مثل مَيْهيو وديكنز (وبالتأكيد أنجلز في كتابه واقع الطبقة العاملة في 1844) قد أبرزا مادة اجتماعية أكثر مما يفعله التوثيق المجرد، لأنهم عنوا بصورة مباشرة ، سياسياً أو أخلاقياً، بالتجربة العيانية الفعلية لمعاناة الناس. أبعد من ذلك، حتى فيما وراء موقف المشاركة المتعاطفة في معاناة الفقراء ـ ولكن على خلاف شبه موضوعية كلينث ـ فإن هؤلاء الكتاب كانوا قادرين على ترك الفقراء يتحدثون عن أنفسهم مباشرة، وعلى تسجيل أصوات المضطهدين. ولذا فإن الجانبين الدرامي والمتخيل للقصيدة لم يُنجزا عن طريق إنكار نظامي للواقع التاريخي والاجتماعي: إنهما على العكس بعدٌ ضروري للتاريخ، حين يُفهم هذا التاريخ على أنه نص حكائي عن الاستغلال والمقاومة الإنسانيين. وجه واحد للقصيدة لم يُذكر مطلقاً هو حقيقة أنها حول أشياء مضللة: العنوان نفسه، "خُدع" يُنبه على مركزية هذه الفكرة الأساس. في القصيدة نوعان من الخُدع. الأول أن هناك مكيدة بسيطة نسبياً تُعد على الفتاة من قبل المعتدي ـ إنها "مخدوعة"، مثل أية بطلة في ميلودراما فكتورية، من قبل مكر رجل مجرد من الضمير. إنها تُخدر فلا تعرف ما الذي حدث لها. حكاية "خرابها" تكتمل بفرضية النسيان ذاك، وبالتحرر المريع من الوهم الذي يُرمز له بتلك الصورة التي للعقل كدُرج مليء بالسكاكين. ولكن هناك أيضاً مستوى آخر للخديعة، كما خبرها الرجل: وأوهامه بشكل ما أضخم وأعمق من تلك التي فُرضت على المرأة. القصيدة تُعلن بوضوح أن المرأة أقل تعرضاً للخداع من الرجل (العبارة بدت أكثر أهمية للشاعر لاركن بحيث وضعها عنواناً للمجموعة الشعرية التي ضمت القصيدة)، منذ كانت المرأة، بالرغم من أنها الجانب الجريح في الحكاية، مُضلّلة بالإجبار، في حين كانت خُدعة الرجل مكوِّناً أساساً لتجربته ذاتها. هذه هي النقطة التي شرع لاركن منها في أخذ القصيدة إلى ما وراء الإطار البسيط للميلودراما التقليدية حول "الفتاة المُنتهكة": إنه ركز الانتباه على تجربة الرجل أيضاً، وبين أن خيبةَ الأمل التي لا محيد عنها في تحقيق رغبته أثقل وطأة بصورة ما من وطأة الجراح على المرأة الضحية. إن عاطفة رغبته "المتقطعة الأنفاس"انتهت بخيبة التجربة الفارغة في "مخبأ العلية المهجور". من الواضح أن لهذه الخيبة أهمية أكبر وأوسع في الحياة الاجتماعية التي مَسرحتها القصيدة، من الخيانة المُعتادة للثقة التي تمثلت في الضحية المغتصبة. هذه هي الأهمية الحقيقية للقصيدة، التي تتوقف على معرفة لاركن بأن كل عضو من هذه الطبقة الفكتورية المضطهدة كان ضحية خديعة، فرض عليه الوهم الأيديولوجي عمىً منعه من أن يرى الأوضاع الحقيقية لحياته. إن الرجل الذي استغل المرأة هو بدوره كيانٌ مُستغلٌ من قبل قوة أكثر تسلطاً. إن "رغبته" الحسية بدأت كحاجة إنسانية طبيعية ـ الحاجة للحب، لأن يتميز، ولأن يفلت من العزلة. ولكن في حالات الاغتراب هذه، حين لا يستطيع الرجال و النساء أن يعرفوا أنفسهم أو أن يعرف أحدهم الآخر، ليس لهم إلا أن يروا ويستخدموا بعضهم بعضاً كأشياء، هذه الرغبة منحرفة، مشوهة وسرعان ما تأخذ صيغة العنف و الشبق الذي لا يشبع. "الخديعة" إذن هي حالة عامة، نموذجية للبيئة الاجتماعية ، التي مُسرحت درامياً في حالة الاستغلال هذه. حلل كلينث تلك الصور التي تسعى لأن تحدد وتعيّن، من أجل أن يتعرف على وعي المرأة الجريحة. ولكن هناك صور أخرى التي تعالج هذه الحالة الإجتماعية. هناك مجتمع أوسع من حدود تلك "العلية المهجورة"، متمثلاً في العالم الخارجي الذي يخترق عزلة المرأة في شكلين: شكل أصوات وآثار المدينة، مُتخيلةً (كعروس) "عذراء" تستدير بعيداً عن مأزقها باشمئزاز. وكذلك شكل قوة النهار التي لا تُقاوم، تُمسرح، في طريقة ما، على هيئة الرجل الذي تسلط عليها وهاجمها ـ " لا تُدحض عرضاً وطولاً" كما ورد في القصيدة. النساء سيستدرن عنها، والرجال سيقتحمونها بسبل أخرى، عن طريق فضح جريمتها علانية، ولكن رافضين بأخلاقية قاسية أية محاولة لمعالجة "الجرح". إن القسوة واللامبالاة في إنكلترا الفكتورية هي أوسع وأعمق من هذه الحالة بخاصة، بالرغم من أن هذه الحالة الخاصة هي جزء من الحالة الاجتماعية العامة. إن في إمساك التاريخ للحالة العامة تلك تكمن القيمة الحقيقية للقصيدة.
كَيْت: سمعنا الكثير عن معاناة المرأة: ولكن كل كلمة سمعناها إنما جاءت على لسان الرجل. وحين نرجع إلى القصيدة، نجد أن المثال ذاته، يتكرر ببساطة كل مرة. القصيدة حول امرأة عانت على يدي رجل. و حكايتها رويت قبل كل شيء على لسان رجل، هنري مَيهيو: ذلك الشاهد من كتاب عمال لندن وفقراؤها هو ليس الصوت الحقيقي لامرأة الطبقة العاملة، ولكنه صوتها وقد كُيّف بلغة مراقب رجل من الطبقة الوسطى ـ بالتأكيد أنها لم تقل "لن أستعيد وعيي أبداً"؟ صوتها، وهو الشهادة الوحيدة الموثوق بها المتطابقة مع معاناتها ـ صيغ لنا أولاً من قبل مَيثيو، ومن ثم من قبل كاتب رجل آخر، فيليب لاركن. ومع الوقت تواصلت صياغته عبر لغة ذكورية من متحدثين سابقين، بحيث تلاشى أي أثر أنثوي أصلي. ومن الواضح أن أية مهمة إلزامية تواجهنا في قراءة القصيدة هي أن نسعيد، في قراءة القصيدة أُنثوياً، التجربة الأنثوية التي رُمّزت بكثافة تسجيلات عديدة داخل الخطوب الرجولي. رَيْموند أصر على أننا يجب أن نقرأ القصيدة في معزل عن قناعاتنا وأفكارنا المعاصرة. والأعجب أنه لم يعتبر وجهة نظرنا الحاضرة بشأن الاغتصاب سياقاً تأويلياً مهماً. مع أني على يقين أن ما من امرأة تستطيع أن تقرأ قصيدة حول موضوع الاغتصاب دون أن تكون استجابتها متأثرة بالمنظور الحديث لموضوع الاغتصاب. المسألة الجوهرية هي أن لاركن في 1950 كان قادراً بشكل واضح أن يعتبر الاغتصاب مسألة "رغبة جنسية": وأن يستخدم ذاك الافتراض كقاعدة لتقديم المُغتصب بتعاطف. نحن لم نعد نعتبر الاغتصاب "جريمة عاطفية": نحن نراها جريمة عنف، شبيهة بجريمة الضرب أو القتل أكثر منها فعلاً عاطفياً جنسياً. هذا التمييز يوضح الاختلاف الإيديولوجي الأساسي في قراءتنا لهذه القصيدة. زاوية نظر لاركن في الاغتصاب ذكورية: تعتبر الجريمة انحرافاً للعاطفة الجنسية الطبيعية، ومتنفَساً للرغبة. نظرة متعاطفة تجاه المقترِف كضحية، بفعل رغبة الرجل ذاتها أو بفعل الإثارة الصادرة عن المرأة. ولعل هذا وراء المُعتقد الشائع الذي يدفع إلى الحكم بتبرئة الرجل المغتصِِب وإدانة ضحيته، أي بتبرئة المذنب وجعل الضحية البريئة أكثر معاناة. إن دور لاركن في المعالجة الآن يتعين لا في أن يلقي اللائمة على المرأة: على العكس، فتوجهه إليها توجه متعاطف، ومُعزٍ. ولكن جزءاً من معالجته ذهبت لتبرئة المعتدي، عن طريق تصويره كضحية هو الآخر. ولأنه غير قادر على تعزية المرأة (لأن الماضي أصبح نائياً، إلى جانب أن الفتاة انتسبت إلى الموتى) فهو يفضل أن يُبرئ الرجل. إن قراءة القصيدة من منظور حديث، تجعلنا نُصر على أن "الرغبة" ما هي إلا تبرير خاطئ لاعتداء الرجال على النساء. فالاغتصاب نتاج العنف والتسلط الذكوري. لا شك رأينا معاناة الأنثى الضحية في القصيدة، وأحسسنا بألمها عبر "دقة" الصورة والوصف المفصل. ولكنها خُدعت ثانية من قبل الشاعر، الذي يقدم المعنى المضلل لفعل "الرغبة"، ويصر على أن هذا العامل إنما جعل أي حكم بسيط على الحالة أمراً مستحيلاً. لك أن تتأمل هذا البيت "حيث تأخذ الرغبةُ القياد". لا شك أن لاركن سعى لموضعة فعل "الرغبة" داخل إلزام كلي، داخل وازع بيولوجي من القوة بحيث أخضع الرجل إلى جانب المرأة ككائنين مسعبدين. ولكن كلمة "أخذ القياد" هي مادة من قاموس السلطة الذكورية: إنها تملك روابط هرمية وعسكرية تضعها بقوة في خطاب السلطة الذكورية. لذا فإن "الرغبة" المشحونة بالقوة هنا إنما هي إنشاء في مخيلة الرجل: المرأة هي ضحيته الذليلة. ما يجعل القراءة الصحيحة لهذه الحالة مستحيلة، ليس عجز الرجال والنساء داخل حمّى "الرغبة"، ولكن حالة التناقض واللاتوازن في السلطة الذكورية ذاتها. ولكن هذا اللاتوازن يصبح ظاهراً حين نعيد قراءة القصيدة من زاوية نظر أنوثوية: خفية على الشاعر فيليب لاركن تماماً. إن "الخديعة" الحقيقية التي بُنيت في هذه القصيدة ـ وأُقرّت هنا، أكثر من مرة، من قبل متحدث ذكر بعد آخر ـ هي تلك المحاولة لتحويل مسؤولية هذه الجريمة الذكورية إلى قوى مجردة تقع خارج مدى الرجال والنساء. إن موضوعة الذنب هذه التي تقع فيما وراء المجرم الحي لا تنفع إلا في تضبيب البنية الحقيقية للمسؤولية الأخلاقية بين الرجال والنساء في هذا المجتمع، أو أي مجتمع سواه.
كولِن: أتفق مع تفصيلات بعينها مما ورد على لسان رفاقي المشاركين: ولكني أود أن أنصرف لنقطة واحدة أساسية وردت لدى الجميع. يبدو لي أن القصيدة بالتأكيد تدور "حول" شيء ما، ولكني شأن كلينث لا أجد نفسي بحاجة إلى افتراض علاقة للقصيدة بأشياء تقع خارجها. ما يعني القصيدة هو لغتها. بمعنى آخر، إنها استجواب مرتد على نفسه لوسيط وجودها ذاته: إنها "حول" ذاتها، لا أكثر ولا أقل من ذلك. وهذا لا يعني، على كل حال، أن القصيدة هي ضرب من شيء جمالي مستقل بصورة خالصة: أن تكون معنية باللغة، يعني أنها أيضاً حول "الحقيقة" و "الإيديولوجية" و"التجربة". ولكن كل هذه الأشياء نجدها متضمنة في اللغة، ولا تُقيم خارجها. ما يميز اللغة "الأدبية" عن أشكال التواصل اللغوي الأخرى هو هذه القدرة على فحص نفسها، من أجل أن تكشف عن، وتعلق على، ميكانيكية بنيتها ذاتها. بهذه الطريقة يمكن للغة الشعرية أن تُستخدم من أجل توكيد أن كل شيء نسميه "حقيقة" إنما صُنع، وبُني بصورة فعلية من اللغة. نحن نعرف العالم عبر اللغة: ما من شيء خارج حدود النص. تحدث ريْموند، بصورة متوقعة، حول عنوان القصيدة "خُدَع" كتمثيل لإيديولوجية فيكتورية ـ ما أدهشني أنه قاوم إغراءَ أن يربط العقار المخدّر في القصيدة بالمقولة الماركسية "أفيون الشعوب". ولكن العنوان بالتأكيد هو انعكاس ساخر في القصيدة ذاتها، وفيما تريد أن تفعله. يعترف الشاعر بأنه يخدع نفسه بادعاء أنه قادر أن يتقمص تجربة الشخصية التاريخية، أو تجربة أي شخص كان. كلينث محق تماماً في إصراره على أن القسم الأول من القصيدة، الذي أراد ريْموند و كيْت أن يرونه كتمثيل represntation لـ "التجربة الحقيقية"، هو في الحقيقة نسخة مُتَخيّلة بصورة خالصة، ومبنية عن الواقع المصنوع من قبل شاعر ذكر عام 1950، ولا تحمل أية علاقة مطلقاً بالعالم كما هو معروف لعاهرة صغيرة فيكتورية. ولكنه مُخطئ تماماً في أن يعزو نوعاً آخر من "الحقيقة" لتلك القطعة من الكتابة الوصفية. أعتقد أن القصيدة من الناحية التقنية أكثرَ تعقيداً مما اعتقد المشاركون. فثمة أربع حكايات منفصلة متضمنة في بنيتها. فهناك أولاً حكاية المرأة ذاتها، التي يمكن لمحها عبر النص الذي وثّقه ميْهيو من كلماتها الفعلية. ولذا يستطيع أحدنا أن يقول بأن العبارة "أنا...بكيتُ مثل طفلٍ يوشك أن يُقتل" إنما تعود ربما إلى جهازها اللغوي الخاص: هناك يمكن لنا أن نسمع صوتها. هناك ثانياً حكاية ميْهيو، التي تدمج لغة المرأة ذاتها في خطاب الإصلاح الفيكتوري البرجوازي المتحرر: إذْ مهما يكن هدفه متعاطفاً ومتلطّفاً، فإن السيد ميْهيو لا يستطيع أن يساعد في تحرير لغتها أو جعلها أكثر قبولاً عن طريق تحويلها إلى نوع من "حالة" لا يجد قراؤه صعوبةً في التعاطف معها. ثالثاً، هناك محاولة الشاعر فيليب لاركن لأن يقدم تجربة المرأة: في جزء القصيدة الأول، الذي قُدم بأسلوب المنولوج الداخلي، بالإضافة إلى التنبيه بصورة جزئية أيضاً على حضور الشاعر ـ المراقب، لكي لا نغفل المدى الذي أملى فيه على رأسها من أفكار ـ "أستطيع تذوق طعمَ الأسى"، "رأسك مفتوح". إنه هذا الجمع للمصادر ـ من استغوار للوراء وللخارج باتجاه خصيصة التاريخ، وللداخل باتجاه فعل الكتابة ذاته ـ ما يجعل من هذه القصيدة قصة للتأمل الذاتي. إنها لا تدعي أبداً في أن تكون أكثر من قصيدة شاعر ينتمي لعام 1950، مستخدماً وثيقة اجتماعية فكتورية تروي قصةً حول الحياة الفكتورية. نأتي الآن على الحكاية الرابعة، التي تحدث في القسم الثاني من القصيدة، والتي أعتبرها الجزء الأكثر أهمية. فقد تعرّف الشاعر على أن التجربة الواقعية التي حدثت وتابعها لم تكن ببساطة هناك: فكما محي وجود المرأة، كذلك فشلت محاولة القبض على الواقع فيما وراء اللغة. لقد كان الشاعرُ يحاول أن يثبّت طبيعة معاناة المرأة كما هي: ولكنه تُرك مع بنائه اللغوي بطبيعة الحال. هذه البنية لا تستطيع أن تملك موضوعية حيث لم توضح أكثر من علاقة الشاعر مع اللغة. قد تكون المعاناة ذاتها "دقيقة"، ولكن أية محاولة لوصف، أو تفسير، أو تقييم المعاناة هو أمر يخص عملية "القراءة". أو، كما يقول لاركن، "القراءات" بصيغة الجمع: لأننا ما أن نتعرف على هذا التعدد للنص الأدبي، حتى نجد بأن هناك أكثر من طريق واحد في تأويل الرموز التي نُظمت في النص، كما أن هناك أكثر من طريق في رواية حكاية المرأة، أو في تأويل هذه الحكايات حالما تؤلَّف. هذا هو بالضبط لأن القصيدة أثبتت بصورة مكشوفة تعدديتها، وأكدت جازمة بأن ما من شيء وراء اللغة، يمكن أن يعنينا اليوم...
سيسيل: ... لحظة مناسبة لاختتام هذه الندوة. أنا متأكد من أن الجميع يشاركونني الرغبة في شكر المساهمين، ويشاركونني في أن المتحدثين أعطوناً غذاءً فكرياً غنياً. بغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا في الرأي، فإن ثمة تنويراً في الحوار: وأنا متأكد بأننا سنغادر هذه القاعة "أقل انخداعاً" مما كنا عليه حين دخلنا.
Philip Larkin, New Casebooks,Edited by Stephen Regan, London 1997.
|
|
||
|