من مجموعة جنون من حجر
(وزارة الثقافة، بغداد، )1977
دوار
العصور
هُنا عُشْبةٌ تَتحركُ
تلْكَ التي تَتحّركُ كانَتْ هَواي
وتلْكَ
التي تَتحرّكُ ماتَتْ.
ولدْنا معاً، وظمِئنا معاً في الرِضَاعَة.
وحينَ
اَبْتُلينا بحُزْنِ المَسافاتِ،
جاوَرْتُها في البلاءِ
فَجارَتْ!
وعانَقْتُ وحْدي التّباريحَ:
(كيفَ
ابْتلي بالشَّجاعةِ هذا
الخَليقُ بحبّي؟)
لماذا
تَجاوزْتُ حدي؟
طَويْتُ الخُطى
ثمَّ أفْلتُّ
منها المجاهِلَ!!
صِرْتُ الحزينَ الضَّريرَ،
وكفّايَ هذا الهُتاف!!
لماذا
تجاوزْتُ حدّي؟
(أقولُ:
السّماءُ وعْيناي لا تُطْبقانْ.
يقولونَ: طَاعنْتَ
ظِلَّكَ يوْمَ اسْترحتَ،
وهذا جزاءُ الطِّعانْ)
ولكنّهم حينَ يفْتَتحونَ
الأصَابعَ للنذْرِ
افتُحها للنذيرْ،
وأجْنحُ من غُربةِ الملْحِ فيَّ الى
غُربةٍ كالغدير.
معَ الرّيحِ، مكتومةً، أرْقُبُ العُشْبَةَ الآنَ
تذْوي،
وترسُبُ رعْشتُها في الدماء.
سَلي يا صَديقةَ حُزْني
عنِ الخْمرةِ
المْستريحةِ بي
كيفَ غنَّتْ إليكِ ولم أسْترحْ للغناءْ!
سلي، كيفَ بادَلْتُ
كلَّ العصورِ
ـ وقدْ أقْبلتْ فيكِ ـ
دهْشَتَها بالضَّراعَة؟!
هنا
عُشْبةٌ…
لمْ أدَعْ من دُوارِ العصورِ لها غَير ساعة ،
فارْحمي سَاعةً
للبكاءْ.
حسين
مردان
يا قطارَ الشَمال
يا قطارَ الجَنوب
يا قطاراً صدئتَ بلونِ
المحطةِ،
نمتَ، استرحت أمام البيوت،
هل تُريدُ اسمه
كان يكره
بغدادَ،
لكنّه حينَ يستودِعُ الله فيها يموتْ.
علّمته الشوارعُ كيفَ يباغتُ
ضوءاً،
ويأسِرهُ،
…
علّمه الفقراءُ المباحونَ والمستريحونَ في النفي
حزناً قديماً،
وحزناً جديداً،
وحزناً تجاوَزَه بين مقهى
الرصافةِ
والبيتِ.
ـ هل أطرقَ اليومَ؟
ـ كان يَطرُقُ أبوابنا كلَّ يوم!
وشربتُ
العشيَّةَ خمرتها،
وتبّولتُ بينَ الرصافةِ والبيتِ،
علّمني النرجسُ العذبُ أن
الحياةَ توابعُ،
والأصلَ في الميْتِ.
لكنه حين يلجأُ للماءِ نرجسةٌ من
رمادٍ
يُلاشيه وجهٌ غريبٌ
ووجهٌ يوزَّعُ دائرةً، دائرة…
أيها النرجسُ
العذبُ،
عاشرتُ بوّابةَ الفقراءِ المباحينَ، ما جاورتني
!
تكالبتُ، حتى
استُبِحتُ،
وما جاورتني.
خَبرَتُ الذي بينَ ملحِ الرصافةِ والأرصفة
والذي
بينَ وجهيَ والأرغفة
…
فما جاورتني !
يا سيدَ الفقراءِ،
ويا سيدّ
الحزنِ أنتَ،
اتكئ،
لم تحاربْ،
وكانَ غبارُ الطواحينِ في شفتيكَ،
ولم
تختبرْ عاقراً تستميلُك عند الظهيرةِ.
قلتُ:
اتكئْ.
إنه زمنٌ همُّه أن
يُقلدك الشارةَ المستحيلة
ودماً ساخطاً،
عاثراً،
بين ظلِّ الإله
عليكَ
وظلِّ الرذيلة…
ــ هل تريدُ اسمَه؟
واسمُه
صورةٌ في الهوّية
لم
تُغادرْ حدوداً،
ويكذِبُ
لكنّه حين يكِذبُ لا يسترُ الكذبُ عُريه
.
ساهراً
ماجناً
دون ليلٍ ومُجنٍ وكفّاه في الخاصرة
سيدانِ من التعبِ
الملكي،
كان يعشقُ كلَّ النساء
ولكنه يستريحُ لعينينِ في الذاكرة.
يا
قطارَ الشمال
يا قطارَ الجنوب
يا قطاراً تجاوزني والحقائبَ، في الليلةِ
الماطرة.
يا قطارَ الغرابةِ ما استودعتْكَ المحطةُ رهناً
وما جاوزَ النخلُ
وجهي.
يا قطارَ الطفولةِ…
قلت آتكئْ.
أنتَ بين الرهينةِ والفتكِ سعرٌ
زهيدٌ،
وبين الطفولةِ والموتِ وجهٌ جديدٌ
يموتُ،
ويستبدلُ اللعبةَ
الخاسِرة،
حين يبلو الصباحَ وحيداً،
حينَ يبلو الظهيرة،
حينَ يبلو المساءَ
وحيداً،
بموتٍ جديد.
ـ هلْ تريدُ اسْمَه؟
اسمُه في الهوّيةِ… حسين
مردان
واسمُه في الأزقَةِ حسين مردان
واسمُه في المقاهي…
الإله…
واسمُه
حينَ يعتزلُ الناسَ
… آه
.
1
وكانت شوارعُ بغدادَ تمتدُّ. شمسٌ
تذوبُ
على
حافَةِ السورِ، والسورُ يمتدُّ.
والنخلُ ما كانَ نخلاً
وصار
يحركُه عاشقٌ في الرصافةِ، والنخلُ يمتدُّ.
وخطوُكَ ما حلَّ في
الجسرِ
ما جاوزَ الجسرَ،
كنتَ وحيداً
وكنتَ علي الجسرِ واقف.
وذاتَ
اليمينِ وذاتَ الشمالِ النساءُ
يُمتْنَ ويُحيينَ ظلَّك.
وخطوُك ما حلَّ في
الجسرِ،
ما جاوزَ الجسرَ،
كنتَ وحيداً
وكنتَ على
الجسرِ واقف.
وحدّقتَ
في الماءِ
ظلُّك نَرْجِسةٌ من رمادٍ
يلاشيهِ وجهٌ غريٌبٌ
ووجهٌ يوزّعُ
دائرةً
…دائرة.
2
يا ضريحَ الفراتِ الجميلْ،
وطني
غادرٌ
فمتى
أزْددتُ حباً يكنْ أجملا،
والذي ظلَّ بين جراحي وبينَ
النخيلْ
وجهُهُ مهملا
صار مشنقتي،
يا ضريحَ الفراتِ الجميلْ.
من
رأي المستحيلْ
في البلاد التي غدرتْ،
غادَرَتْ بابَ بيتي،
من رأى
في
الضفافِ الوسيعةِ أوجُهَها
في الضفافِ الوسيعَة،
لم يمتْ مثل موتي.
إنها
وقعُ صوتي في الخطواتِ السريعة
…
وهي الضائعون.
3
يا حسين
مردان،
كيفَ تركتَ البابَ مفتوحاً
والليلُ لم يبدأْ، وكانَ السرُّ مفْضوحا.
وأنتَ قد تجهلُ أنّ الخمر في الندمانْ
ما زالَ يستحلفُ كلَّ ظلمةٍ
في
ساحةِ الميدانْ
أن تستريحَ الآنْ،
وأن يظلَّ القلبُ مجْروحا.
بيروت ـ
حزيران /1972
موت حسين
مردان
جليدٌ علي الأرض
في الأفقِ طيرٌ،
يضيء جناحيهِ بردُ
الجليدِ
يحّلقُ لكنّ رعشتَه تستبيه،
فينحلُّ جُزءاً فجزءاً
لمرثيةٍ
عوّدتْه علي دفئها
في خريف جديدْ،
ولم يستفقْ
بعدها…
كانَ في الأفقِ
طيرٌ.
|