فوزي كريم 

Fawzi Karim

 

من مجموعة قارات الأوبئة

(دار المدى، )1995

 

الفصل الأول

قنواتٌ تحفرها الأمطار
منعطفاتُ بيوت متراصةٍ كأقراص الخبز.
شبابيكٌ مهترئةٌ كالمناخل.
أبوابٌ تكتم أنفاسَها أمام طارق الليل.
أسلاكُ كهرباء تئزّ بفعل القوى المكبوحةِ للرغبات الطرية.
أزقّةٌ معقودةٌ كضفيرة المحارب.
دجلة يلامسُ البشَرَةَ بالملاحم،
وبعصا الساحر يكشفُ عن المعدنِ الزائف للأيام المتلاحقة!
أسماكٌ تقفز إلى المتطلّعين وتخفي رؤوسَها
المدببةَ في ثنيات ثيابهم. وهناك تطمرُ بيوضها
وتستسلمُ للنيران.
أمواجٌ تُغرق مسامّ تطلعنا القلبي برائحةِ الاسطورة
أمواجٌ تداعبُ الوسائدَ ساعاتِ الليل.
ومراياها تتناوبُ والشمسَ، على اختراق أجسادنا
أمواجٌ تنبشُ رائحةَ الروثِ، الطلعِ، الطينِ، الغَرَبِ،
الصْفصاف، وجاغِ التنّور،
نداء غراب البين وراء السور،
القصبِ، الغرْين، رائحةِ شموع الخضْر.
دماءُ النذر تخضّب نفقَ صبايَ إلى الأسطورةِ.
عند زقاقٍ ـ كان الغمْرُ يشي بالفجرِ ـ
تراءى لي گلگامش
يقطفُ من دفلى الدارِ
وردتَها
ثم يبيعُ شذاها للعطّارِ.
………………
………………
في ذاك اليوم ولدتُ. أبي يحتاط من الفيضان
وأمي في الغيبوبةِ. والحربُ الكبرى توشك أن
تتوقفَ فوق المفترَق الواسعِ للزمنِ المتردي.
نحن الحمقى كنا نكبرُ
دونَ محاذرةٍ، ونلوّحُ للدفلى
في حوش الدارِ بحمي الفردِ.
فنحن كأفرادٍ كنا مختلفين يفرقنا وجهُ
الأبّ، ووجه الأم يوحدنا مثل الطرفاء.
أخي معذورٌ حين يلاحقُ ولعي بالأشياِء فيغضبُ،
أمي حين تلاحقُ وجعي من وهمٍ لا يتحققُ.
معذورونَ:
فتاةُ الجار، وفتيان الحلم المنهارِ
بفعلِ الثورة
معذورونَ
سخامُ الوجه نذيرٌ لا ينفكّ يشي بالليلِ الأليلِ.
بالأيامِ لها شكل الأسلاكِ الشائكة.
أبي مات وأمي ماتت. واحترقت في الدارِ الدّفلى.
معذورون: الجاني والمجني عليه، السارقُ والمسروقُ،
الزاني والزانيةُ وراجمُ بيتهما.
معذورٌ قرصُ الشمسِ إذا داهمني معذور.
تتواثبُ قططٌ خلفَ حجابِ القَدرِ الأسود، قططٌ سودُ.
تتواثبُ خلفَ الجلدةِ حمّي ذاتُ صرير،
خلفَ قناعِ الوجه وجوه سود
تتواثبُ قططٌ، بالأظفارِ تخرمشُ وجهي.
تنبشُ عن طبقاتٍ لا تُسمعُ للصوتِ المبحوحْ.
تتواثبُ قططُ الروحْ
خرساءَ، كأنّ البيتَ تلاشى وتلاشت
مدنٌ وبلاد.
وأحاطَ بها أفقٌ مسدودُ.

معذورٌ "فتّاحُ الفال" يجسّ الحلمةَ ثم يتأتئُ
 
:
ظهرَ الحقّ،
وتكشفُ عن نهدينِ بريئينْ.
معذورٌ في الحالينْ
فالرغبةُ يأكلها الدودُ
!

 
طالعتُ كتابَ "الحيوان" للجاحظ
وكتابَ "وفيات الأعيانْ"
وكتابَ "المستطرف@
وعلى هامشه "ثمراتُ الأوراق"
ووضعتُ على الأثر كتاباً
في "فهرسة الأرواح "وديّارات العزلة
وعنيتُ الأرواح الضالة في أنفاق الدولة.
ووضعتُ كتاباً في " تفسير المغلقِ
من آياتِ ضلالي في الماء المسحورْ
وكتابَ "تسامي النفسِ بفعلِ الكبت الجنسي
وعلى هامشه أخليتُ مكاناً
لكتابٍ لم أكتبه عن المستورْ.
ولذا لمْ أؤخذْ بالصوفي، صديقي،
في "مقهى إبراهيم"
لم أؤخذْ بشعارِ الثوري، صديقي، من أجل المبدأ.
وطمعتُ بكأسٍ في گاردينيا.
كانَ الصيفُ ثقيلَ الوطأةِ
والموت أكثرَ تعباً تحتَ الشمس من الأحياء.
ورائحةُ العرقِ تطهرُ حاشيةَ وجودي
من عفَنِ الساعاتِ،
وتخرجني لوجودٍ أصلبَ عوداً
من قشّ هتافٍ لا ينقطعُ وراياتْ.

أشياء البارِ تعانقُ بعضاً:
هذي المائدةُ، الكرسيّ،
بقايا المازةِ، ماءُ الثلجِ المائعِ يطفئُ تحتَ حذائي
ظلَّ الضوء، ودفءُ يدٍ لم يسقطْ بعدُ عنِ الكأسِ الخالي.
هلْ تسمعُ صوتاً؟ إن الأمواج
ترتطمُ برأسي. إن الغرقَ وشيكٌ. والأشياءُ
تعانقُ بعضاً .

تندلعُ الحربُ ويخرجُ بغداديونَ إلى الأسواق
لشراءِ المؤنِ. ولدتُ إذنْ
في سنةٍ مأخذها سهلٌ،
في سنةٍ ينقطعُ بها الخلقُ إلى رائحةِ الجثثِ:
أشمّ شواءَ الفخذِ المحترقِ. يقولُ الصوتُ المبحوحُ:
الخائنُ بالفخذِ المحترقِ . يصبّ النفطَ فتأتلقُ
النارُ وتعلو رائحةُ اللحمِ البشري. خرجتُ أنا
وأخي هتّافين، رأينا عورةَ هذي الدنيا فضحكنا،
وفتحنا في الجسدِ المغلولِ نوافذَ للرائحةِ،
توارت فينا.
صيفُ الثورةِ ذو رائحةٍ تشبه هذا. قالَ أبي:
من لاحقَ مقتولا فليخشَ الرائحةَ!
أبي لا يخطئُ. كانت سنةٌ مأخذها سهلٌ.
ينقطع بها الخلقُ إلى رائحة الجثثِ. وفيها انقطعَ
الوصلُ الواهنُ بيني والرائحةَ وبيني والمرحلةَ وبيني والنظرية
.



الصيف يشي بثيابِ البغدادي
تضيء نجومُ العسكرِ فيه
وتخرجُ عند الفجرِ على هيئةِ إكليلٍ من شوكٍ
يوضعُ فوقَ الرأسِ الأشيبِ للجمهور.
الرأسُ الأشيبُ إرشيفٌ لبياناتِ الثورة.
ومع الثورةِ تنمو الفتنُ المرّة.

والشعرُ، حليقَ الرأسِ، على رابيةٍ يرعى الأشياء،
ريفيّا فضفاضَ الثوب ،
وجميلاًَ حينَ تغيبُ الشمسُ وميالا للعزلة ،
وله رأيٌ في الأشياء إذا شاءْ:
"انسجمُ مع الريحِ وهذا طبعي."
والشعرُ يغادرُ، حين يضيقُ، إلي

ى القممِ البيضاءْ.
الشعرُ يغادرُ أبداً.
وقفاه بفعلِ الجفوةِ مألوفٌ
.


سأحاولُ طيرةَ ابن الرومي.
أحاولُ بيتاً يسكنه العرّافُ بشعرِ أبي الطيّب.
معْتقَلاً في أقفاصِ أبي تمّام.
وأكون يتيماً يرعى الثمرَ المنكرَ في بستانِ أبي نواس،
محزوناً في سقْطِ الزنْدِ. وأنزلُ شأنَ البغداديّ
إلي أقبيةِ الممرورينَ المنتبذينَ ظلالَ الفاقَةِ.
كان ابنُ نباتةَ يخرجُ من قبْوٍ في "الشورجة"
في صحبةِ رائحةِ بهارٍ وديون:

كيفَ السبيلُ إلى الغِنى
والبخلُ عندَ الناسِ فِطنَه
ونبتْ بنا أرضُ العراقِ
فما محنّاها بمحنه
غير الرحيل……

ويتبعه في السرّ أبو الحسنِ السّلامي، وظلّ ابن سكّرةَ
خفيفاً، مثلَ مهرّجِ سرك، فوقَ الجدران:

تهتَ علينا ولستَ فينا
وليّ عهدٍ ولا خليفة
فتِه وزِدْ ما عليّ جارٍ
يُقْطَعُ عنّي ولا وظيفة
ولا تقُلْ ليسَ فيّ عيْبٌ
قدْ تُقْذفُ الحرّةُ العفيفة
والشعرُ نارٌ بلا دخان
وللقوافي رُقَيً لطيفة
كم من ثقيلِ المحلّ سامٍ
هوتْ به أحرفٌ خفيفة
لو هُجيَ المسْكُ وهو أهلٌ
لكلّ مدحٍ لصارَ جيفه

ثمّ يرددُ ضحكتَه ابنُ الحجّاج
:


هربتُ من موطني إلي بلدٍ
قدْ صَفَّرَ الجوعُ فيه
منقاري

 



صفّرَ فيه الجوعُ المنقارَ! تضجّ ببيروت الأشعار.
تضجّ السوقُ. يضجُ اللحنُ المسروقُ.
يضجّ البحرُ بوعدٍ لمْ يألفه الهاربُ من تنديدٍ في الأحداقِ.
رقاقُ سيوفِ الوطنِ تدغْدغُ خاصرتي.
ويعانقُ عنقي حبلُ الأشواقِ.
أحاولُ أنْ أترصّدَ وجهَ فتاةِ الحجرِ.
ألوّنُ بالفرشاةِ السُرّةَ
والنهديْن. وأفتعلُ جنوناً بيروتيَّ الطابعِ. تأخذُني
من ياقَة هلَعي وتبعثرُني فوقَ مقاهي "الروشةِ"
مثلَ رذاذِ البحرِ.
أحاولُ أنْ أتجنّبَ أروقَةَ الصحفِ لأصفو
لبهارِ الأقبية. أحاولُ أن لا أترجّلَ عن فرسِ
الأشياء يخبّ بحقلِ الذاكرةِ.
أحاولُ أن أخلو بظلامِ المتوسّطِ.
أجلسُ فوقَ الجرفِ وأرسلُ ساقيّ ببئرِ الأصواتِ
أحسّ الزُغُبَ الدافئ للحيواتِ الغامضةِ يمسّ أصابعَ
قدميّ.
أحاولُ، وأنا في مفترقِ الحسّي وغيرِ الحسي،
معانقَةَ الخالد.
كانَ ظلامُ المتوسط مرآةً لمقاهي الروشة .
للعقدِ المتلألئ في العنقِ العاجيّ لبيروت.
أحدِّقُ مأخوذاً ومعي بطحةُ عرَقٍ
وبقايا رائحةٍ لفتاةِ الحجر.
أغادرُ بيروتَ كما غادرتُ الوطنَ بوعدٍ لمْ يألفه الهاربُ:

تندلعُ
ستندلعُ الحربُ..
تندلعُ، ستبدو خيمتُها
غبراءَ تهرُّ بها قطَطٌ
سوداء، وتتركُ رائحةً
للشَبَقِ……

نرتّقُ بالأسمالِ ثقوبَ الخيمةِ.
كمْ تتراصّ الجثثُ، ويبدو العفَنُ كثيباً!
كمْ تتراءي للناظرِ عن مبعدَةٍ
هالةُ قتلاها
قمراً فضيّا، أصداءً،

الحربُ رحىً
الحربُ غَشوم

الحربُ أوّلُ ما تكونُ فتيّةً
تسعى بزينتها لكلّ جهولِ
حتّى إذا حميَت وشبّ ضرامها
عادت عجوزاً غيرَ ذاتِ خليلِ
شمْطاء جزّتْ رأسها وتعرّضت
مكروهةً للشمّ والتقبيلِ*

وأحاولُ عبثاً أن أكترثَ ببغداد.
حصارُ التركِ طويلٌ
جُزّت فيه رقابٌ،
وتفرّدَ دجلةُ بالجثثِ وبالرايات.
ومن ثقبَ السورَ أصابوه أسيراً. كثُرَ الأسري
وامتدّت في الباب الشرقي حبالُ الشنقِ.
امتدّت مثل حبالِ الشنقِ
رقابُ صغارِ الجندِ. الصيفُ ثقيلُ الوطأة، والموتى
أكثر تعباً تحتَ الشمسِ من الأحياء. ورائحةُ العرَقِ
تطهّرُ حاشيةَ وجودي من عفَنِ الساعاتِ
وتخرجني لوجودٍ أصلبَ عوداً من قشّ هتافٍ
لا ينقطعُ ورايات.
رأيتُ نساءً يلهثْنَ وراء صحونِ حساءٍ،
شبّاناً يِلغونَ
بجرحِ الربّ، وأطفالاً يلهونَ بأحذيةِ الجندِ.
وما بينهما تقفُ الساعةُ بلهاءَ:

نموتُ ويحيا الوطنُ. تصرّ الشمسُ
كأسلاكٍ فوقَ الراياتِ. نموتُ ويحيا الوطنُ.
تجفّ بفعلِ الشمسِ دماءُ القتلى في منحدَرِ الشفتينِ.
نموتُ ويحيا الوطنُ. نموتُ ويحيا الوطنُ.
نموتُ ويحيا الوطنُ. نموتُ ويحيا الوطنُ
نموتُ ويحيا الوطنُ. نموتُ ويحيا الوطنُ.
نموتُ ويحيا الوطنُ. نموتُ ويحيا الوطنُ.
نموتُ ويحيا الوطنُ. نموتُ ويحيا الوطنُ.
نموتُ ويحيا الوطنُ. نموتُ ويحيا الوطنُ.
نموتُ ويحيا الوطنُ. نموتُ ويحيا الوطنُ
.


تضجّ الشمسُ. يضجّ غبارُ الشمس.
يشدّ الطفلُ حذاءَ الجنديّ المشنوقِ، يشدّ الطفلُ،
فتطولُ الرقَبَةُ والحبلُ،
ويطولُ الليلُ
.

 

 





الأغنية الأخيرة



سأعودُ إليك
وأقولُ: هنا يُسكرني الكسلُ.
رائحةُ المطر على الجدرانْ.
عبّادُ الشمس يشبّ كأن الأرواحْ
لم تهدأ فيه. أقولُ هنا
يسكرني فيءُ التوتِ على الأقداحْ.
وأغنّي لندامى الراحْ:
يكفينا من بيتِ أبينا
من رحلوا عنه ومن قُتلوا.
يكفينا فيءٌ مكتحلُ
فيءٌ في أعيننا وجلُ.
يكفينا شوقُ عراقيين أضاعوا الشوقَ ولم يصلوا.
وأقولُ هنا
في منحدرِك
أعلنتُ صباي
وسأعلنُ فيه نفادَ الصبر، نفادَ الصبر على أثركْ.
سأعودُ إليك وأنشبُ أظفاري في أحزانكْ
وأحني الكفّ بأطيانكْ،
وأقولُ: هنا
تسكرني قهوتُك المُرّة
يُسكرني الأملُ،
ولو مرّة
.

 



كُتبت القصيدةُ في لندن
بين 8/1990 ـ 3/1991

 

 

بورتريت    المؤلفات الشعرية     المؤلفات االنثرية     ترجمات     الموسيقى      الفن التشكيلي     حوارات     يوميات    اللحظة الشعرية    بريد الشاعر

English        French         Sweden       Poet's mail