فوزي كريم 

Fawzi Karim

 

من مجموعة أرفع يدي احتجاجاً

(دار العودة، 1973)

من مجموعة أرفع يدي احتجاجاً

(دار العودة، 1973)

 

 

وطن الأسرار



كانَ الشارعُ مدْهوناً
بمياه الفرحِ، وبالدهْشَةِ والحبْ.
والشارعُ، كان عجيباًَ، بالدمْعِ السّاقطِ
من حبّاتِ القلبْ.
ورأيْنا الشارعَ كالعذراءِ، رأيناهُ بريئا
ولأنَّ دُخانَ السّنةِ الأخرى يتَسرّبُ من شُبّاكِ
الحُلمِ بطيئا،
كُنّا نتأهّبُ للسّحرِ المخبوءِ وراءَ السّاعَة،
وصَريرِ عقَارِبِها، كنّا
كالطيرِ المُثْقلِ بالأفْراحْ،
كالطيرِ المخبولِ، يَشطُّ، يشقُّ مَضيقاً
بينَ جَناحٍ وجَنَاحْ.
لكنّي وحدي
كنتُ أري وجهَ الثعبانْ،
يتلصّصُ بين وريْقاتِ الكتبِ المُلْقاةِ بخوفٍ؛
وحدي
يتكشّفُ وجهَ المحظورِ،
ووَجهَ العاثِرِ في طُرقُاتِ النورْ.
لا يجهلُ أن المُقبلَ والعابرَ غصنٌ،
والجسدَ النائمَ في دفء لذاذتِهِِ غصنٌ،
والأرضَ وصبوتَها غصنٌ
منْ أغصانِ الموت.

)
في الطريقِ إلى الفِراشِ المُفلس،
لحظَ المهاجرُ قطّتينْ؛
هرّا وقطةً، إلي الفراشِ المفلس
يُداعبانِ ظِلّهما المُلغى،
ويَتنفسان بكآبة.

كم هو شقيُّ هذا العالم
كم هو شقي...)

ومشينا الساعةَ، نترقّبُ فرحَ السّاعة،
نترقبُ طفلَتنا المحظورةَ،
كيفَ يمسُّ العاشِقُ فرحتَه!
ويُلملِمُ طوفانَ نوارسِِهِ المسفوحَة!
كيفَ يُلامسُ نهراً من زيتونٍ، نهرا من شُرفاتِ
الروحِ، ومن أبوابٍ مفْتوحَة!
ومشيْنا وطنَ الأسرارِ، وفوقَ قِبابِ الإشراقْ؛
وتحدْثنا في الريحِ عن الريح
وتحدثنا في النوم عن النوم،
ولهوْنا بأصابع غَفْلتِنا عن سَورةِ ماءٍ تنمو حول الأعناقْ.
ما كنّا شيئاً:
نُسبلُ أيدينا للمدنِ المهزومةِ،
نتَتبعُ أثرَ العاثرِ في ظِلِّه،
ما كنا شيئاً، لكنّا
كنا كالشيء العائمِ في طرقاتِ الأعماقْ.

وسَرينا، وسَرينا في أحراشِ الظُّلمةِ
في شهوتِها الحجريّة،
وبلونْا كل أزقّتِها الملغومةِ بالأكْفانْ
وسَرينا كالمهْزومينَ من الفُرسانِ، سرينا
نتعثّرُ في وهم براءتنا المنسيّة.
ما بينَ صلاةِ الواحدِ ونواحِ الآخرِ ثُعبانْ
يتلصص بينَ وريْقاتِ الكُتبِ الملقاةِ بخوفٍ.
لكنّي وحدي
كنتُ الضاحكَ، أغسلُ أسناني بمياهِ الأشواقْ
وأشمُّ ندىً بجناحي
فأدورُ، أدورُ، أحلّقُ، أتوجّعُ، أُصغي
وأحطُّ على قمرِ الليمونِ،
على ورَقٍ مغسولٍ بالأمطار.
بينَ الأطفالِ أُغادرُ نفسي، أمشي
في الطرفِ الحائرِ، أتوزَّع في الحبِّ
أشفُّ من الدمعِ، أصفِّقُ
(في الطريقِ إلي الفِراش
تتسرّبُ الظلالُ كدعابةٍ بيْضاء.
في الطريقِ إلي الفراشِ المفلس
هرٌ وقطةٌ ينامانِ معاًَ في الكآبة
حيثُ تنْدثرُ آخرُ خُطواتي.)


بغداد 1970/1/1

 

 

 

 

تمرٌ ورغيفٌ… وأموتُ



1

وتُهاجرُ
نحوَ حنينِ الثلج!
لا الصحراءُ لهيبُكَ يا وطني بين الجُنْحينِ
ولا هَمساتُ الماءْ!!
من دونِ دليلٍ يُقفرُ من وقْعِ خُطاكَ البحرُ
ويجفُلُ رملُ الصحراءْ.
ويجسُّ الملحُ جروحَكَ، يتهامسُ بينَ الفخِذَين
:
أيملكُ ما يُخصِبُ هذا الرحِمَ المعطوبا؟!
هل تُنْجِبُ منه الأرضُ سُلالَتها،
فتُضيءُ بفارِسها الظلماءْ؟!
وتمرُّ ظلالُكَ، تلمسُني، فتُعمِّدُني
وتُعيدُ الجسدَ الهاربَ من رمْضائكَ مصلوبا.

يا وطني الهاربَ خُذني دون هُويّة
كشفَ العرّافُ دمي الكاذِبْ.
أتأبّطُ شراً،
أُبصر، حيثْ مشيتُ، القاتلَ في جَسدي،
وأنا المقْتولْ.
يا وطني الهاربَ خُذني، فأنا مثلكَ هاربْ
عاشرني الحبُّ فضيَّعني،
لكنّي لم أُلقِ الحبلَ علي الغارِبْ،
لم أمسحْ عن عتباتِ البابِ حصى الغائبْ.
يا وطني خُذني، جَمعَ الشرقُ حوافِرَهُ
وتخطّي كل عِنانٍ مخذولْ.
وبكيتُ عليك؛ ومن خللِ الدمع بكيتُ
لأني
لا أجْهلُ أنّ القدمَ العاثر فيكَ
هو القدمُ المهزولْ.


2

مِنْ أينْ
لكَ هذا الحزنُ.
وهذا الفرَسُ الجامحُ في العيْنينْ؟!
منْ أينَ لك الصَبواتُ الخضراء،
يا من غرَّبتَ وضاعتْ
كلُّ عواصمِ خُطواتِكَ بينَ القدمينْ؟!

وتركتُكَ، في حلُمي، ومشيتُ، أمسحُ أذيالي
بغصونِ الفرحة، أتوحّدُ فيها
وركضتُ، ركضتُ
كأنَّ الفرحَ يجاذِبُ أعماقي فيُعرّيها!
كمْ كانَ جميلاً أنْ أمحو
من أثَري الخطوةَ وأفوتُ،
أتنشَّقُ سِحرَ ضياعي، وأغنّي:
يا وطني، الغُربةُ، يا وطني
تمرٌ… ورغيفٌ … وأموتُ
.


بيروت 1970




ثلاثة مقاطع في الماء



1

ساءلتُ دمَ الثوّارِ عنِ الثورَة،
وسألتُ الثورةَ عن جسَدٍ يطفو في الماءْ،
عن عُشبٍ يغرقُ في رملِ الصحراءْ،
عن بلدي الصامتِ في وجهِ الأعداء،
عنْ كلِّ دم آخر
ساءلتُ خُطي الهجرةِ عن بيتي،
عنْ دمعةِ وجهٍ غادرَ وجهي،
عنْ إصبعي المسحوبِ من الأخطاءْ.
ورأيتُ دمَ الثوّارِ علي ورقِ الثَّورة
ورأيتُ الثورةَ سِفْراً يحمل ثبْتَ الأسماءْ.
نشَّرْتُ شراعَ الزورقِ، حينئذٍ
وتركتُ يدي للريحِ.
و حينَئذٍ وقَعتْ فوقعْتُ،
وغرقِتُ أنا والزورَقُ في الماءْ
.



2

بينَ الصامتِ والصامدِ
ضاعَ الوجهُ
انقلبَ الوجهُ
تَغيَّر
يا وطني
لا تمسحْ رملَ الصحراءِ عن المُدنِ المسحورةِ
بالصحراءْ.


3

رأيتُه استقرَّ واستَسْقي
من بيِتنا الخبزَ وبئرَ الماءْ
ـ والبئرُ في قربتنا نجمةٌ
يُخفي بها العاشِقُ أحزانَه ـ
حتى إذا سقيتُه في يدي
وفاضَ منه الماءْ،
رأيتُ بئرَ الماءِ في عيونِهِ مُلْقى.
رأيتُ أْحزاني على بابهِ
تلهثُ، تسْتَسْقي، ولا تُسْقى
.


 

 

 

آخرة الوحشة
إلى هدي



أبني معكِ الليلةَ باباً
كيْ ندخلَه، في آخرةِ الوْحشَة.
نمتدُّ به ظلّينْ،
ونسْمحُ للنورِ العابرِ
أنْ يوقِفَنا، نحنُ الاثنينْ.
نتلمّسُ رْعشَتنا بأناةِ المخذولَيْن،
وبقايانا
ليبُلَّ الواحدُ منّا عطَشَه.
نتلمسُ لائحةَ الموتى،
ـ هلْ نحنُ هُنا؟!
طرفُ السبّابةِ ضيّعنا.
نرتدُّ دوائرَ، مأخوذَينْ
بِجاه الخوف،
لا يجد المُتعَبُ منّا متكأً إلا نعْشَه.
وأراكِ صدي
يتخبّطُ في أحشاءِ التيه:
الطارقُ
والبابُ المطْروقُ… أنا
فأحنُّ إلى بابٍ أبنيه
كي أَدْخلَه، في آخرةِ الوْحشَة
.

بيروت 1971



 

قراءة للوجه الآخر



في برَدَى،
(كأنَّ بغداد تبلُّ وجهي
في طرَفِ الرملةِ، من دجلةَ، بين الماءِ والمقْهى)
أوْمأَ شخصٌ آخرٌ غريبُ
من ملكوتِ الماءْ
يشفُّ تحت الطُّحْلبِ المُخمَلِ،
والزيتِ التُّرابيِّ،
فمنْ يُجيبُ؟!
أومأَ لي
فَضِعتُ بينَ وجههِ الفاتنِ
واسْتِدارتي إلى الوراءْ.
لكن قاسيون
سَاءلني، بين ظلالِ القصبِ اليابسِ
والحجارةِ الصمّاءْ
عنْ وجهي الآخرِ تحتَ الماءْ
فلمْ أُجبْ.
وهكذا، بكيتُ كي أسكرَ في گاردينيا ،
بينَ كؤوسِ الخمرِ والثورَة،
والقهوةِ المرة
.


 



قراءة للوطن



أنمو على ظمأ، ولي وطنٌ
أصطادُ في جردائه البَللا
يشتاقُني، فيمدُّ لي فرحاً
كفّيهِ، إذْ أرتابُه وجِلا
وأشمُّ رغبتَه تقرّبُني
حتى إذا ما مسّني اشتَعالا!
من دونِ زادٍ إذْ تَوهّمني
حرفاً على شفتيهِ مُبْتهلا
أعطى الرياحَ خُطاه، فاتحةً
للنفي، ثم أشارَ وارْتحلا
!

 

 

بورتريت    المؤلفات الشعرية     المؤلفات االنثرية     ترجمات     الموسيقى      الفن التشكيلي     حوارات     يوميات    اللحظة الشعرية    بريد الشاعر

English        French         Sweden       Poet's mail