موقع ألف ياء-8/8/2006)
فوزي كريم والإفاضة
في الكلام
آخر الغجر يقدم لنفسه والناس الأسى
جورج جحا
بيروت 6 أغسطس
آب
/رويترز/ - عنوان مجموعة الشاعر العراقي فوزي كريم
آخر
الغجر يفيض في الكلام عن
أوضاع
كثير من العراقيين شعراء وغير شعراء ممن شردتهم في
أنحاء
العالم سنوات الأسى
المتتالية في بلادهم.
العنوان يجعل -ومن قبيل المجاز- العراقيين المهجرين عن بلادهم
أو
الشاعر نفسه في هذه الحال
آخر
الغجر بمعنى الذين لا وطن لهم فهم في ترحال دائم يطرقون
أبواب
أناس
العالم باستمرار. الا ان الصورة التقليدية للغجري المغني والراقص
المرفه عن الناس لقاء ثمن طبعا لا تنسجم مع صورة هذا الشاعر العراقي
لان
آخر
الغجر هذا لا يقدم لنفسه وللناس فيما يغنيه سوى الأسى.
فهذا
المشرد هو واحد من غجر الأحزان..
عراقيي هذا العصر والشعراء منهم بصورة خاصة.
كثير من قصائد المجموعة يصور فعل الزمن والأحزان
والغربة في الانسان. فالعمر يمر ويترك وراءه شيبا في الرؤوس وتجاعيد في
الوجوه وانحناءات قاسية في الأجسام
تنذر بعجز قادم بعد خطوة
أو
خطوات.
اشتملت المجموعة علي 39 قصيدة وردت في صفحات متوسطة بلغ عددها 102 ورسم
غلاف بريشة الشاعر نفسه. صدرت المجموعة عن دار المدى للثقافة والنشر في
دمشق حيث يبدو ان الشاعر
أقام
مدة من الزمن.
قصيدة
"آخر
الغجر"
التي أعطت اسمها للمجموعة قد تكون مثالا واضحا لتلك السمات التي ميزت
قصائد المجموعة وجاءت كأنها رثاء للذات بل لعالم ولعصر ولآمال
وأحلام.
يقول فوزي كريم:
علانا المشيب
ولم تعد الريح ترعي ضفائرنا
وأفراسنا سمنت
ومراقد من مات صارت مزارا .
وينتقل الى
مجال
آخر
يذكرنا فيه بأجواء
تي.أس
.اليوت في قصيدة (الرجال الجوف) فيقول
"كلما
فاجأتنا رياح الهضاب -
أصتنا
كأنا عظام مجوفة."
و بلجهة
أبي
العلاء المعري صارخا خفف الوطء يقول الشاعر:
"ليس
يجرؤ ذئب على سحنة الليل فينا
ولا الشمس تدخل
آبارنا
غير أنا
بذات التواتر لم نبطل النسل...
أيها
المتحاشون منا اقترابا
خففوا وطأة الحذر
قد ترون مرابعنا طللا وهياكل
لسنا ضحايا وباء مضى
ووقود حروب جرت
بل مرايا لكم .. ."
في قصيدة لا تعد النفس أجواء تساؤل ميتافيزيقي يبدأ في حيرة وبتساؤل
قديم جدا على غرار ما دار بين الإلهيين
والدهريين لينتهي في شيء من الاستسلام المنسوج من خيوط قدرية وصوفية.
يقول في القسم الأول:
"لا
تعد النفس بما لا
ترى
من نعم الا على راحتيك
فأنت
يا هذا مدين ولن
تعرف ما عشت من الدائن
الرب ..
أم
هذه الارض التي تأكل
أبناءها
..
أم كائن فيك يعزيك في مخاضة التاريخ بالأسئلة.
."
أما النتيجة التي توصل اليها فهي لا تقتصر على
إنسان
معين في منطقة محددة لكنها أزلية أبدية وفحواها ان الانسان في كل حال
وحيد مسكين يموت وفي فمه
أسئلة
كثيرة يخلفها لمن يأتون بعده ليتركوها بدورهم لمن يخلفهم.
يقول أبيت ام شئت ستمضي الى-مرتفع التل وحيدا ومن - مرتفع التل ستلقي
على - المدينة الزائلة - نظرتك العاجلة .
أما
الزمن الذي يلتهم الانسان وأحلامه
فمن المفجع انه يسرق الأعمار
دون ان يعطينا ما وصفه المتنبي بأنه
الحلم والتجاريب. فهو عند كريم بخيل قاس لا يقدم حكمة لقاء ما ينتزعه
من الانسان.
في القسم الأخير
من قصيدة
"تراكمت
على ردائي"
يقول الشاعر:
"أقول
للشواهد التي على امتداد بصري
إنتشري
إنتشري
فحيث تلقين من الظلال فهو حقلي وأنا
مشرد في حقل حكمتي وقد
أتلف حكمتي الجراد
."
وفي الدورة الدامية تتحول الحياة الى عملية قتل دائمة ..إعادة
إنتاج
مستمرة والقتيل والقاتل يتبادلان الدورين بانخداع مفجع . يقول كريم:
"أعوف
مدينتي لكمو
وأخرج
هاربا بدمي
فكم أدمت ثيابكم الشعائر و الطقوس
وها انتم على
عجل
تعيدون القتيل بهيئة القاتل
وما أن تنضج الثمرات حتى ينضج القتلى
بهيئة قاتلين،
وإذ
يحين قطافهم يستبدلون بهيئة القتلى...
بذا تقضي الفصول تعيد دورتها ولا تبلى .
في قصيدة في انتظار الأعداء
يتحول الانسان بفعل الخوف العتيق الذي يتآكله
الى حالة رهاب وشعور بالاضطهاد. ما يطرحه الشاعر يزيل الحدود النظرية
بين تلك الحالة النفسية وبين الواقع ليصبحا واحدا. يقول:
في الليل
أنتظر مجيء
الأعداء
أكتشف ضياع الوقت
من
بين
أصابع
كفي ... منذ سنين
والساعة لا تتردد في وقع خطاها البلهاء
وأنا
أتمثل خطوتها في نبض وريدي فأجن
وألوذ كأي عراقي بالخمرة.
منْ
يربكني،
يربك هذا الرتل من الأحياء
في جسدي نحو الهوة غير مجيء الأعداء
.
أما
القصيدة الصغيرة في المحطة فهي نموذج عن نتاج كريم الحافل بأحزان
الغربة. هي تعبير تصويري موح عن حالة التأرجح
بين البقاء في الوطن على رهبة ما في هذا البقاء وبين مغادرته على ما في
ذلك من الم ووحدة ووحشة. يقول:
تحت وقع المطر
ورائحة الخشب الرطب
ما كان متسع للمسافر بين لفافة تبغ وأخرى
سوى ان يعيد النظر
في احتمالين:
أن ينحني لرياح القدر
ويعيد الحقيبة للبيت،
أو
في احتمال السفر .
وعلي رغم الأهوال
والفواجع القديمة يبقي الأمل
يرافق المشرد في غربته فلا وطن بديلا عنده حتى بعد تشرد ربع قرن.في
قصيدة سأعود يوما يقول الشاعر:
سأعود غدا
أو
بعد غد
وأعيد السمك من الحوض الراكد
لمياه التيار
وغنائي من منفاي الى الخمارة.
يا خمار
عريني من وطاة ذاكرتي،
عري الفتيان
من وطأة موتاهم
...
ما أطول درب العودة يا بغداد
ما أعمق رائحة الجلاد
ما بين غضونك
ما أطولها سنوات المنفي من دونك
طمعني ربع القرن بأن اختلق بديلا عنك،
فهلّ رماد
من رأسي .
|