فوزي كريم 

Fawzi Karim

 

الشاعر فوزي كريم في «آخر الغجر» تجربة في التشرد..ولغة حنين إلى الماضي

دمشق
صحيفة تشرين
ثقافة وفنون
السبت 18 آب 2007


ماجد السامرائي


أحاطت بعض المعاجم والموسوعات «الغجر» بهالة شبه اسطورية، وإن كانت قد اتفقت على أن الغموض يكتنف أصلهم، فهم أقوام في ترحال أبدي..

وهم لم يكونوا شعباً حقيقياً، وإنما عصبة من المتشردين، والسحرة، وقارئات الكف، امتازوا بلونهم القهوائي (الذي يرتبط اكتسابهم له بواقعة منها أقرب إلى الاسطورة).. وهم يتحدثون لغة خاصة بهم أوجدوها بأنفسهم كي لا يتعرف أحد منا على أسرارهم. ومن الأفكار الشائعة عنهم أنهم اشتغلوا جواسيس للتتار، ومن بعدهم للأتراك العثمانيين.

بين «الهاجس» الذي يداخل إحساس الشاعر بالأشياء ويجلو موقفه من العالم، و«النداء» الذي يداخل صوته بمضموناته.. تقف قصائد المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر فوزي كريم «آخر الغجر» (دار المدى ـ 2005). وفي الحالتين نجده يواجه مشكلات وجوده هو، واشكالاته الذاتية كما هي متعينة في غير صيغة وموقف: ‏

ـ فمنها ما يأتي في صيغة تفارق وافتراق:

(أبيتَ أم شئتَ، ستمضي إلى

«مرتفع التلّ» وحيداً، ومن

مرتفع التل ستلقي على/المدينة الزائلة

نظرتك العاجلة). ‏

ـ ومنها ما يجيء في صورة من صور الاحساس بالغربة:

(تمضي الرسائل من طرف واحد.

ويواصل صمتك من طرف،

وتراوح بينهما دورة الأرض،/والشمس.

حتى التواريخ تكتب باسمهما،

وتدول الدول). ‏

ـ ومنها ما يتمثل في غير صورة (وصيغة) للحنين، والتذكر، واستعادة المشاهد الزائلة..

(رائحة التوت على أرداني ما زالت

لكن التوت تلاشى: والأسماك

ما عادت تخترق التيار.

بل صارا ينحدران معاً للبحر/ كما تنحدر الأنهار). ‏

ـ ومنها ما يعبّر عن تمزق روحي بين أكثر من خيار يجد الشاعر نفسه أمامها/ في مواجهتها.. (ما بين العالم كابوساً/ والعالم، ماءً وظلالاً). ‏

ومنها جميعاً يستخلص الشاعÑ(أو قارئه) موقفه من العالم، وفي هذا العالم ـ الذي نجده عالماً لا يدفع بالشاعر إلى مشاركته حالاته وأوضاعه بقدر ما نجد هذه الحالات والأوضاع تدفعه إلى اختيار العزلة عنه وهو يواجه «ضغائن الناس»:

(إن قلبي خال من الحب، يا ربّ

وهذي ضغائن الناس تسعى،

مثلما تنشد السلاحف ماءَ البحر). ‏

وقد تكون القصيدة التي تحمل عنوان «تراكمت على ردائي»أكثر قصائد المجموعة تعبيراً عن هذا «الجو العام» الذي يسود موقف الشاعر فيها، فهي قصيدة محملة بنوعين من التراكمات: فهناك تراكمات الواقع الذي يعيشه الشاعر (إحساساً في الغالب)... وهناك التراكمات على النفس مما تتلقاه عن هذا الواقع..

(تراكمت على ردائي محنُ الماضي،/وما تهرأ الرداء.

الآن كل ما ارتكبته من الأخطاء

صار من الرقّة خيطاً في نسيجه). ‏

وتتباين هذه التراكمات "مصدراً» و «تأثيراتٍٍ»: فهي كما تبدأ من «الخارج» ومما هو فيه، متمظهرة في صيغ شعرية تقترب من إدراك المتلقي...نجدها، أيضاً، تنبعث من «الداخل ـ داخل الشاعر»باتجاه«خارج» تعود إليه لتتشكل فيه..

(لذا فإني شاعرٌ أرقّ من مدينة محاصرة،

ولي فم بلون قطعة الجليد

يقطر حرفاً، ثم إذ يجمد ذاك الحرف في الهواء/

يقطر آخرÇً، فلا تلتحم الأحرف..). ‏

كما يندمج الاحساس بالواقع وما هو واقعي فيشكلان الفكرة (التي هي إحساس عديد القصائد في المجموعة..

(أقول للشواهد التي على امتداد بصري: انتشري، انتشري

فحيث تلتقين

من الظلال فهو حقلي!

أنا/ مشرّد في حقل حكمتي، وقد/ أتلف حكمتي الجراد!). ‏

أما أسئلة الشاعر فهي ليست أسئلة الحيرة التي قد لا تجد جوابها اليقيني متحققاً..بل هي، غالباً، أسئلة انقسامات الرؤية ـ رؤية الشاعر ـ للأشياء، والمواقف، والحالات، وهي تجتمع عنده متمثلة فيما يشكل (هكذا نرى) دفاعاً عن الذات. ومع كل ما قد تحتشد به قصيدة من قصائد المجموعة من تساؤلات، فإن «اليقين» الذي يواجهها به يظل واحداً (كما في قصيدة: لاتَعِدِ النفس).. ذلك أن افتراق النظرة/ المنظور بين "الآمل" و "المتأمل" هو ما يحدد مسار الأشياء، والمواقف أيضاً.. (ما أوسع هذه الدنيا في عين الآمل،/ ما أضيقها في عين المتأمّل!). ‏

في قصائد أخرى من المجموعة يتجلى الزمان على نحو يظل موقف الشاعر فيه قائماً على ثنائية الاتصال/ الانفصال.. إلا أن التوتر يظل في الحالتين قائماً ومتمثلاً في "فجوة" هي فجوة الفراغ الذي يحسه الشاعر و (يعيشه وجداناً) بين «ماضٍٍٍ» تحتشد ذاكرته بكثير من تفاصيله، وحاضر لا يُقدّم له شيئاً، بل كثيراً ما نجده يدفعه في اتجاه التذكر والاستعادة..

(عند الباب المغلق من واجهة كاردينيا

رجل، بقيافة كهل متقاعد،

ينتظر. أنا الآخر،

بقيافة كهل عاد من المنفى تواً،

قرفصت على بعد ذراعين

منه، ولم أمهله: أتعرف موعدها؟"

ـ "خمّارة كاردينيا كانت/ مرتادي قبل الحرب، ولي فيها

زاوية وندامى.

بعد الحرب طواها النسيان.

وأنا أرقÈåÇ مكاني منذ زمان،/ أنتظر الموعد"...). ‏

وللماضي في قصائد المجموعة حضوره القويّ، حتى إنه يبدو، لكثافة حضوره، وكأن لا علاقة للشاعر بزمان آخر سواه. وهو، هنا، ماضٍ قائم على المصالحة/ التصالح مع الذات، مشوب بالرضى، له مع "الذات" كينونة مشتركة. أما الحاضر فهو، كما يظهر، متعثر الخطا، وبعيد عن هذا كله. حتى ليبدو الشاعر، في غير قصيدة في المجموعة، وكأنه يتقاسم المصير مع ذلك الماضي. وفي ضوء هذا يثار السؤال عن الانسان الذي تعانيه القصيدة، طبيعة وموقفاً انسانياً؟ لنجد، في هذا المستوى ثلاثة عناصر تجتمع لبناء الرؤية الشعرية عند الشاعر، وفي تكوين قصيدته: ‏

ـ فهناك الماضي الذي يعاينه الشاعر معاينة حنين.. يدعوه إلى استعادته في كثير من تفاصيله.. ‏

ـ وهناك الحاضر الذي يبتلع أحلام الشاعر، ويدمرها (حتى ليوشك"صوت المغني" أن يكون نذيراً) ـ ولأن هذا الحاضر معقود عنده على رؤية واهية (بالقياس إلى قوة الماضي، حضوراً ودفعاً)، نجد الشاعر، في قصيدته هذه، يختار الهرب، بديل الوقوف والمواجهة.

(أأنا شاعرٌ،

وإذا كنتُ، من يختبر قدرتي/ في احتمال الخسارة واليأس؟

ÊÖحíتي حفنة من قصائد أندب موتاي فيها،

وعلى كاهلي يقف النسر أحدب،

Ãäåßå الطيران بلا هدف...). ‏

ـ وهناك الانسان الذي يحلم، وإن كان حلمه المتصل بالمستقبل(افتراضاً) يعود به، فيما يشكل من صور، إلى ذلك الماضي ثانية ـ وكأنه وحده الذي يمثل "حقيقةالوجود"، فضلاً عما يتولّد عنه من "حقيقة شعرية" تكتسب قوّتها من ذلك الماضي المعرّش في النفس والقائم في الذاكرة، لينعكس منه ما نجد فيه إضاءة داخلية لأشياء وعلاقات خارجية. ‏

هنا نقف على ضرب من الادراك الفردي للتناقض الواقع بين وجود الانسان (الشاعر) ووعيه، حيث يكون استسلامه الأكبر لما نرى فيه "وعياً كلياً لما يرى فيه "وجوداً كلياً" ـ يمثله ذلك الماضي الذي تكون له تجلياته الشعرية. ‏

بتعبير آخر: إن الشاعر، هنا، يضع "الماضي ـ الذات" موضع احتفاء، في حين يبدو الحاضر باهت الظلال لا يؤطره شيء، كبير أو كثير، يمتّ إلى هذه "الذات" بما ندعوه "صلة عميقة". ‏

وإذا كنا لا نجد للمكان ـ في عديد القصائد المكانية ـ بنية ومعالم واضحة، ومشخصة وجوداً، فلأن هذا المكان تحوّل، في القصيدة، إلى "بعد زماني" بحكم انصهاره في الذاكرة ـ أو بتعبير أقرب: لقد انحل هذا "المكان" ضمن بنية "الذات" فيما لهذه الذات من تاريخ شخصي، مكاني ـ زماني، تتحرك عبره، وتحركه ضمن تفاعلات وفاعليات خاصة ترتدّ بين زمن وآخر. ‏

إلا أنه في القصائد الأخيرة في المجموعة يتحول إلى ما يشكل إدراكاً لزمانين في آن معاً.. أحدهما "يموت"، والآخر "ينهض" أو "يجيء". فإذا ما وجدنا الشاعر مع الزمان الذي يموت ممتلكاً يقينه من موته، فإنه في الزمان الآخر يبدو غير متيقن من شيء ـ وهنا يواجه الشاعر (ذاتاً) ما يمكن أن نعدّه "اجهاضاً مأساتياً" لأزمنة منتظرة. وفي هذا/ ومن خلاله تثار أمام القراءة النقدية للمجموعة إشكالية العلاقة بالمكان في بعده الزماني، لنجد تجليات العلاقة بالمكان في بعده الزماني الغابر هي ما يفرض "حالة النص" و "يحدد توجهاته"، ويعيّن علاقته بـ"لغة التعبير" أيضاً. ‏

ولعل الشاعر وهو يوالي "التوقيع" على مثل هذا "اللحن الذاتي" إنما يجد شيئاً من المتعة بفعل اطراد ذاتيته في مثل هذا المسار/ التوجّه الذي يضاعف إحساسه بالغربة، فهو، هنا، يستعيد المكان الذي أقصاه بما له من ركائز ذاتية فيه...

(أقول للأرض التي هجرتها:

يا أرض، يا سيئة الطالع، يا منفضة الرماد،

تقبلي واحتضني وليدك الذي إليك عاد،

فهو مدين لك، ما عاش، بهذا القدم العاثر). ‏

يقودنا هذا إلى اللغة في قصائد المجموعة (التي لاتختلف، أو تتباين، كثيراً فيما لها من حضور وتمظهرات عما هي عليه في مجموعات أخر له قبلها).. وأول ما نخرج به من انطباع عن هذه اللغة هو كونها "لغة مدركة". فهو لا يعني بأن يجعل لها بنىً جديدة، كما أنها لا تحمل من الدلالات أبعد مما "تشير إليه" أو "تعيّنه". فهي لغة تعني شيئاً محدداً عبر عملية الخلق الشعري.. ‏

بين احتمالين: قد يبرأ المرء أو يبتلى!

آه من حكمة لم تزن ثقل موتك!

معنى حياتك في أن تُبّرأ مãÇ Ãصابك¡ أم في ابتلائك؟

ما الشعر، قل لي؟

لماذا يحاوله منذ عاد، ويأبى على المنشدين؟!) ‏

فهو لا يخرج في شيء على الدلالة السياقية للصيغة الكلية في لغة معروفة ببنيتها المرتكزة إلى قيم اللغة ومعاييرها المتعارفة، من غير خروج على هذه المعايير أو خرق لقوانينها..فهناك بنى لغوية متطابقة مع ما هو "تراثي" ـ في بعد من أبعاد هذا التراث. ‏

إلا أن هذا لا يعني أن الشاعر، هنا، ينسج على نول تقليدي. إن عديد العبارات في غير قصيدة في المجموعة تفيض بشعرية عالية، غنية إحساساً ومشاعر. ‏

من هنا نستطيع القول: إن أهم ما تقترحه قصيدة فوزي كريم على قارئها هو أن ينظر إليها بوصفها«ظاهرة ذاتية» متكاملة، تجمع بين « الرؤية» التي تحددها منطلقاً وتوجهاً، و«اللغة» التي تشكل مبناها الكلي، و«أسلوب التعبير» الذي يستند ـ عنده ـ إلى ما هو«ذاتي ـ خالص الذاتية»، سواء ما كان من هذا الذاتي «حالة»، أو« توجهاً لمقصد»، و «تأكيداً لموقف» أو تعييناً لعلاقة الذات بالوجود ـ فإن السياق الذي تقع فيه ليس واحداً.. إذ نجده، في قصائد،يرتفع تعبيراً.. وفي قصائد أخرى يتدنى في لغة التعبير حتى تغدو لغة عادية، تكاد تكون مفرغة من بعدها الشعري.. (كما في قصائد مثل «التاريخ»، و«السحلية»، والمقطع الثاني من قصيدة «المدينة الغائبة». وقد تأخذ القصيدة أيضاً صيغة تقليدية، مضموناً وشكلاً ـ كما في المقطع الثاني من قصيدة «مسرى الدموع»..). ‏

تبقى الإشارة إلى «شكل القصيدة» في هذه المجموعة، فهي قصيدة تميل إلى القصر والتركيز إلى الحد الذي تقترب فيه من أن تكون «فكرة» أو متشكلةمن «لمحة» أو «ومضة».. ‏

حتى أنها، بكلية قصائدها، جاءت أقرب إلى ما نرى فيه «يوميات شعرية».. ولعل ما يقترب بها من هذه الفكرة هو التسلسل الزمني لها.. فالقصيدة الأولى في المجموعة تحمل تاريخ(8/3/2002). وتتابع القصائد والتواريخ لتحمل الأخيرة فيها تاريخ (16/6/2004) وعلى أساس هذه «التواريخية»، في ما تمثل من «حالات يومية» ـ وإن يكن الشاعر هو بطلها بلا منازع!.

ـ يمكن قراءة المجموعة على أساس ما تمثله من «حالات» أو تعكسه من تمظهرات.. وكذلك فيما تنطوي عليه من علامات تحوّل: في الرؤية، والموقف، والعلاقة بالواقع والأشياء.. وردود الفعل وانعكاساتها على «صور التعبير».. سواء ما تمثل من ذلك في صور الضياع والتشرد (أنا محترف الÃنفاق..)، أو الانتصارات المؤجلة (سيزهر التوت، ويحلو الثمر،/ والنارنج يستلقي على أسوار بيت الجارِ،/ كالأقمار)، وهي تقترب به كثيراً من العوالم الرومانسية. ‏

ـ فهل يشكل هذا كله مغزى عنوان المجموعة:«آخر الغجر». ‏

 

بورتريت    المؤلفات الشعرية     المؤلفات االنثرية     ترجمات     الموسيقى      الفن التشكيلي     حوارات     يوميات    اللحظة الشعرية    بريد الشاعر

English        French         Sweden       Poet's mail