في
"السنوات
اللقيطة"
شيء أكثر من الحزن
علي شمس الدين
لزمني قراءة نصوص عديدة من <<السنوات اللقيطة>> آخر
ديوان للشاعر العراقي المقيم في لندن، فوزي كريم، الصادر له عن دار
المدى في دمشق العام 2003 لكي استعيد ملامح هذا الشاعر الذي لمع اسمه
ونصه في سبعينيات القرن الماضي بين شعراء العراق، وشكّل وعدا حقيقيا
لتطوير قصيدة الرواد العراقيين، بدر شاكر السيّاب وعبد الوهاب البياتي
وبلند الحيدري، يليهم سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر وفاضل العزاوي. في
الامكان ترتيب فوزي كريم زمانيا بعد هؤلاء مباشرة، وقد امتاز عنهم
جميعا بالعصب الجديد النزق للقصيدة، واللمعة الشعرية الآسرة. وما زلت
اذكر حتى اليوم، ملامحه في ذات مربد من مرابد السبعينيات المنصرمة...
الأرجح كان ذلك العام 1974، في خرينه، وبدع ان اوصلنا قطار الليل من
بغداد الى البصرة (كم كانت جميلة تلك الايام!)، جالت بنا في اليوم
التالي (نحن شعراء مربد ذاك...) سفينة مخرت بنا شط العرب.
لفت انتباهي من بين الجمع، فوزي كريم بقيافته وعينيه اللامعتين
السوداوين، ولحيته البوهيمية، وكان يقف اثناء تحرك السفينة، على درجة
خارجها، ممسكا بالصاري كقبطان، او كقرصان... والسفينة تمخر بنا المياه.
وجاءت قصيدته لتحمل شيئا من ملامحه... منطوية على شيء من الطرافة وشيء
من الصعلكة او البوهيمية، وكأنه كان ينظر لذاته لاحقا في الزمان
وشريداً وبعيداً عن الشط والنخيل والأب والأم والعراق... هل نقول منفيا
في لندن؟ أم نقول مهاجراً وحاملاً منفاه من مكان لآخر... من مكان كان
اسمه الوطن والبلاد، لمكان لا يمكن ان يحدد من خلاله انتماء الشاعر...؟
ألهذا السبب سمى مجموعة اشعاره الأخيرة <<السنوات اللقيطة>> فاللقيط من
لا يعرف له أب وأم ويرمى به على رصيف... ثم يلتقطه المارة، فهو لقيط
...
وحين يعد الشاعر على اصابعه عقود عمره، في قصيدة <<العقد الخامس>> يشير
في العقد الرابع منها الى رمادية هذا العقد (العمر) في لندن، والى جدار
علّق عليه ملامح وجهه الفوتوغرافية بالأبيض والاسود، والى عجزه كدمية،
عن رد سؤال صغيره... عماذا؟... عن ندامى مائدته الموتى... يحدث معه
الماضي، وهو في لندن، لكنه ملزم ثمة ان يعايش الموتى.
لا يضغط الوطن على فوزي كريم، كشعار، ولكن كفقدان، كمعطى مضرج بدمه،
وكأخوية للخسارة واليأس. ليس ثمة من فرح ولو كبصيص امل يطل برأسه من
قصائد هذا الشاعر... وتحس انه هناك، في وقت ليس هنا فيه كافيا. لذا
يتناثر الشاعر شظايا ويظهر كإنسان من زجاج مكسور. وهو، ليس كسعدي يوسف
في قصائده الأخيرة،
بعد ان تولدت لديه
أحاسيس
وربما قناعات، انه بالفعل
أصبح
إنسانا آخر في مكان آخر... ففوزي كريم كالهارب من الزمان في الزمان،
ومن المكان في المكان... كالهارب من نفسه في نفسه، ما يلبث ان يرتطم
بذاته كيفما ارتحل
أو
تحرك. ويقترن حين يتباعد، ويدور على نفسه وهو يرتحل وينأى.
"اكتب
يومياتي كي اهرب من
أيامي"
يقول . هناك شيء ما (قلق عظيم) ينبش مثل الدودة في ارقه، والشاعر،
كمريض، لا يشفيه الشعر... الشعر الذي يقول عنه في اولى قصائد الديوان
"يوميات
الهروب من الأيام":
"شعري
مثل الجرذ يداهمه
تيار الماء الآسن في المجرى التحتي...".
ويشكك فيه
أيضا...
فهو
أباطيل
ما دام غير قادر على ستر عريان... فإذا اكتسى الشاعر بشعره، فيما الناس
حوله عرايا، فما النفع والجدوى؟ يلقي فوزي كريم خيباته التي يعرفها
جيدا ويعيشها، علينا. يقول <<سأكتب شعرا للفانين>>. فأين الأحياء؟
بل
أين
النضارة والحضارة، لشاعر ينتسب لسلالة البدو،
أبناء
السُرى والمهْمَه المعقود في الأظلاف:
"عمدنا
مراقينا الى آبائنا الأجلاف
بالنزف الملح من الضحايا"
(من قصيدة
أقدارَ)...
وأراني وكأنني
أتتبع
في النصوص خطوات الشاعر، وانكأ جراحه... في كلامه عن اخوته في الخسارة
واليأس، المهجرين المستباحين، ساكني الخوف، شركاء المائدة الفقيرة...
الغربان، والغرباء المحتاجين في المنافي الى ترجمان... المعبئين برائحة
الماء والنخل وإن تباعدوا وتشتتوا... إنه العراقي البعيد... العراقي
الشريد. يقول:
"ما
إن مددت يدي كي
أعانق/
حتى رأيت يدي ارتفعت للوداع"
(من قصيدة
"كيف
لم التفت؟")
وهو
أيضا
العراقي الأكيد:
"...وهذي
الكف كيف امتدّ فيها العظم
حتى
أصبحت
عكّاز؟".
إنهم يتعكزون على عظامهم ويقتاتون بقهرهم، ويتكئون على الحلم حتى ولو
كابوساً انهم العراقيون... يحتكمون ايضا للنهر والنخلة والينبوع،
ويصغون في الكون المكفهر وفي دوامة الكوابيس، للنشوء... <<للكونِ
البديل>>.
<<حلقت دون ان يكون لي/جناحان ولا مخلب/فمن اضاء رغبتي بسطوة النسر/
وأعطاني مذاق الأفق/ بيتي من زجاج/ كلما داهمني الإحساس بالنفي/ وبُعدي
عن سرير النوم/ أختضُّ/ ويبتلُّ جبيني.../ ...>>
المنفى
عماء المنفى سِلك يسلك قصائد فوزي كريم. وهو يصوّره بأكثر من صورة،
ويقتحم عليه المعنى والإحساس
في وقت واحد... يقول:
"حين
فاجأنا النفي
كان بثوب الجراحة
عالجنا بالمشارط،
طهّر من ورم الحلم
أعضاءنا
ثم أقحمنا كي نؤدي له دورنا الثانوي/
بآخر فصل على مسرح الظل.
من نحن؟.. إلا استشاطة أعمى
يُقادُ بخيط المتاهة،
نَرْدّ على صفحة الليل يُرمى،
وما من صدى
لتَدَ حْ...
رُجِهِ...".
الشاعر هنا، هو شاعر اللمسات الخفيفة، والشفيفة، التاركة في الذات
حزنا... بل شيئا ما اكثر من الحزن، تعتوره المرارة، وكأنه ندم على
الحياة نفسها... على كل شيء فيها، على الأم، والبيت والصديق الميت
والنخلة والقطار ومدن الشفق، والقمر المنقطع الوصل والمختلي
بالسحابة... ولماذا دائما الصديق ميت، والأم ميتة، والقمر محجوب،
والنهر مقتول:
"أتطلّع
من نافذة الباص أرى الشرفاتْ
تتخاطف لون الشفقِ،
لي معها ذكرى تشغلني لصديقٍ... مات".
وبالتالي، فشعر كريم، شعر تأملات، وأسئلة في
أكثر
الأحيان،
مبتورة... السؤال غصّة... ما الحب؟ آه والموت؟...
أي
معنى لهذا الشراع؟ وهو شاعر مقتصد في العبارة، إن لم نقل في الإبانة...
يضمر
أكثر
مما يُبدي، وتراه في تقنيته التعبيرية، غالبا ما يقطع السياق بكلمة او
بنقاط... ...
"أيها
الشعر..."
"سأمشي"...
"ومالي
سوى ان أسارع..."
وكأن النص الذي تغلقه الكلمة الأخيرة،
تفتحه في الوقت نفسه على مجرى آخر. وصنيعه الشعري
أشبه
ما يكون بإشارة،
فكرة، كحصاة ترمى في صفحة ماء وتترك دوائرها تتسع على امتداد الصفحة
والمخيلة... وتارة يقول الشاعر الحكمة، وطورا تحسّه يشرع في حكاية ثم
ينتهي لإغلاق ما شرع فيه، ليترك فسحة مولّدة للتأمل.
"لو
أنني في داخل الزهرة
أقدر ان أمسك بالأصابع العشرة
بداية الخيط الذي أفلت من
أصابعي
مرة".
ثمة قصائد تكتظ بالحكمة... جمل تتوالى وتحمل نكهة التأمل، وجمل المقطوف
من الحكمة كما في قصيدة
"قارئ
مثلكِ يكفي شاعرا مثلي.
يقول:
"قلتِ
لي: إن جدار البيت لا يستر عارا.
وكذا العمرُ إذا كان مُعارا.
قلت لي: إن دم الشاعر قد تسكنه رائحة الذئبِ،
وقد يسكنه الثلجُ،
وقد ينزف حتى يتوارى.
قلت لي:
كم شقي الشاعرُ إذ خوّض في وحل معانيه مرارا.
قلت لي: لا تسكنِ النفس،
فكم يذبل في السكنى
ربيع!..."
الموسيقى أساس المدماك الشعري عند فوزي كريم، اللبنة التعبيرية
المختصرة، والمنطوية على الصورة/ الفكرة. فهو شاعر صورة وتأمل
بامتياز...
أما
الموسيقى فهادئة... بطيئة، وربما دمج تفاعيل متنوعة من
أوزان
متنوعة في نص واحد. لجهة الايقاع البطيء والمزدوج، نورد النموذج
التالي:
"حلّقت
دون ان يكون لي جناحان ولا مخالب
فمن
أضاء
رغبتي بسطوة النسر
وأعطاني مذاق الأفق.
إني شاعر أسكن في الماضي
وأستلقي تماماً مثلما كان أبي".
ففي هذا المقطع من قصيدة
"أيها
المُسَرْنمون
أيها المسرّحون".
وزنان متواليان على التوالي <<حلّقت دون ان يكون لي...>> على وزن
<<مفاعلن...>> و<<أسكن في الماضي وأستلقي تماما مثلما كان
أبي>>
(فعلاتن... فاعلاتن). وهذا الانتقال من تفعيلة وزن لتفعيلة وزن آخر،
سواء كان مقصودا او عفويا، منح النص تنويعاً
إيقاعيا...
لا يلجأ فوزي كريم للايقاعات والأوزان الغنائية، بل للتفاعيل البطيئة
<<فعولن>>
أو
"مفاعلن"
لينسجم الايقاع مع المعنى والحكمة والتأمل... لذلك فقصائده قليلة
الانفعال على الرغم من
أنها
مشحونة بطاقة الإيماء
والتأمل.
ولعل المقاطع التالية، توضع
أساس
بنائه الشعري، وتكشف عن
أسلوبه
المستند للصورة/ الفكرة،
أو
الصورة/ التأمل:
أنموذج I:
"أمي
التي لا تغادر لون الترمّل/ وجه كسير/ كعبّاد شمسٍ على صفحة الغيم".
أنموذج II:
"أنا
الذي خسرتُ كل رغبة من الجسد/ وهي تفيض كالزَبَد/ على فراشِ لا أحدْ.."
أنموذج III:
"مدينة
الموتى/ لها فضائل الزاهد/ يمسُّ
أطراف
ردائه الزمانُ وهو يُصغي/ والزمان دائم الرحيل".
أنموذج IV:
"..
إني/ كلّما احتلت على الحاضرِ بالأصباغِ/ والأقنعةِ احتالَ/ كأنّا بطلا
مهزلة تفتقد الجمهور...".
أنموذج V:
"من
يحاول عني الرِضا/ مثلما كنتُ حاولتُ/ يعرف ان القضا/ مثل جُرْذٍ على
ياقتي/ آهٍ بيروت، بيروتْ".
|