كـم نحـن بحاجـة الى رؤية ثياب الامبراطور
جريدة الصباح، التاريخ: Saturday, June 25
اسم الصفحة: ادب
منصور عبد الناصر
هل هنالك ثياب للامبراطور؟سؤال ليس من السهولة ان نجيب
عليه اذا ما عرفنا او اكتشفنا اسئلة اخرى تشتق منه او
ينبغي تحديدها منها مثلا من هو الامبراطور؟ هل هو
تجسيد لنموذج واقعي ام هو تجريد لحالة تاريخية ثقافية
شاملة؟هل هو مرتد لثياب حقيقية فعلا؟ ام انه بلا ثياب
اصلا؟اي انه ممثل لحالة لاانسانية(كمفهوم ومصطلح) تقرب
الى الغريزية والحيوانية؟ما هي الامكانية المتاحة
لنا(مثقفين؟) للبوح علنا(وليس العمل)بحقيقة ما يحصل؟
ومن سيسمح بذلك؟
اسئلة خطيرة ،لكنها اساسية لا بد من
الاجابة تفصيليا عنها فالقضية الخطيرة التي يطرحها
الكتاب لا تتعلق بمسألة الحداثة المزيفة التي انشغل
بها المؤلف بل بامر اخطر بكثير، فالامبراطور رمز سلطوي
وتعسفي ومضطهد ولاغ لكل امكانات الرقي والتطور والرؤية
الواقعية للامور. هو اذن ليس حالة مجسدة طالما رأينا
نماذجها عبر تاريخنا فحسب بل هو نتيجة منطقية لوعي
وثقافة تمتد تاريخيا واجتماعيا في ابعد تفاصيل ذاكرتنا
الجمعية. نعرف جيدا ان لدينا اصناما كثيرة ينبغي
اسقاطها فالامر لايتعلق كما يتوهم(او يتمنى)البعض
باسقاط صنم واحد لم يكن لنا دور حاسم في اسقاطه(وهذه
معضلة اخرى) كذلك لم يكن لنا دور (وهذا امر اسوأ) في
الحرص على عدم اتاحة الفرصة لانتصاب صنم اخر وهذه
الحالة يمكن تأكيدها بسهولة وذلك من خلال الكتاب الذي
نحن بصدد قراءته فنحن لم نجد في الصحف والنشريات
ووسائل الاعلام الاخرى تغطية حقيقية بادنى درجة معقولة
لما يطرحه الكتاب بشكل يبدو وكأن هناك نية مقصودة
لاهماله والقفز على ما جاء فيه وهذا القفز والتجاهل
يعني ان اكليروس الثقافة والادب باعضائه المتسلطين
لايرغبون مطلقا في اعادة النظر باي شيء ربما لاسباب
تتعلق بثيابهم الامبراطورية الخاصة ومصالحهم وعلاقتهم
التي لا يرغبون (ولايتيحون الفرصة) بتدميرها.
وهكذا صارت الحداثة التي ينتقدها فوزي كريم زيا او
شكلا بلا مضمون يمكن التأسيس عليه واقعا.
حتى صارت الكتابة بعدها ادبية بالمعنى المتعارف عليه
اكاديميا وبامكان اي هاو او متطفل معرفة بعض التراكيب
والافعال والصيغ للدخول في (حومتها).
والادعاء بما يشاء غير ان فوزي كريم حين نجح في انتقاد
دعوات الحداثة وفضح نتاجها الثقافي الادبي عبر السنوات
الخمسين التي مضت لم يستطع المضي ابعد من ان يخترع
مضادا معاكسا لها..وهو حين اخترع هذا المضاد اختار
نموذجا مندثرا حضاريا وانسانيا واجتماعيا ميزته
الوحيدة انه متمكن شعريا وابداعيا من ادواته لا اكثر
وهو في الحالة هذه ينتخب او يحبذ ما تراكم عبر الاخطاء
(الامبراطورية) وانتج عبرها نصا او شعرا او روحا
فالامبراطوية بالنسبة لفوزي في الكتاب امبراطور لغوي -شعري-ادبي-روحي
مفارق كلاسيكيا بالدرجة الاولى ومما يساعد على هذا
الامر الروحية والذائقة المحافظة التي يحرص على
انمائها شاعرا وكاتبا وناقدا ..وبالرغم مما يشاع عن
شخصيته العبثية والكارزمية وقد تكون على عكس ما يظنه
البعض مؤشرا لثقافة عباسية قديمة لاحداثوية مستجدة.
فالتجربة الروحية او المدرسة البغدادية هي في النتيجة
مشروطة بوجود الامبراطور ذاته لا الغائه كما تدعو اليه
الحداثة (في معناها الجوهري المفترض) من هنا يصبح فوزي
خاسرا في الاتجاهين. في اتجاه تحبيذه للمدرسة
البغدادية (الروحية) وفي اتجاه المدرسة
الشامية(الزخرفية والبلاغية) فالاتجاه الاول اتجاه
شئنا ام ابينا كلاسيكي محافظ لكنه روحي ! اما الاتجاه
الثاني فاتجاه محافظ ايضا لكنه بلاغي!
اين ذهبت الحداثة التي يحارب مشروعها فوزي اذن؟
والمفارقة في هذه الحالة تكمن ايضا في ان ممثلي
المدرسة البغدادية(بالرغم من وجود ممثلين لها مثل
المعري وعبد الصبور غير البغداديين،والمتنبي
وغيره،البغداديين والممثلين للمدرسة الشامية) استعاروا
واشتغلوا وتأسسوا اصلا من خلال الحداثة كمشروع ثقافي
ورؤية جديدة مختلفة ازاء تاريخها اللغوي والمكاني.
وعليه لايمكن لنا التعكز على المقولات الاساسية لما
يطرحه الكتاب الا في جانب واحد فقط هو الجانب النقدي
لمشروع الحداثة في عالمنا العربي ووجوهها التطبيقية
ادبا وفنا وفكرا ..وهو في هذا الجانب اي فوزي يقدم
جردة حساب دقيقة وصريحة وكاشفة الى حد خطير لما قامت
به من دور تعميمي وعدمي وغامض في واقعنا العراقي
والعربي على مدى عشرات من السنين التي مضت وافرزت لنا
اجيالا وطبقات شبه معزولة عن مجتمعاتنا التي تمثلها
الى الحد الذي لم يعد فيه بامكان اي مواطن عادي معرفة
اسماء رواد وتلاميذ هذه الحداثة او الحداثات ونتاجهم (وحتى
في حالة معرفته ببعضهم فلا يعدو الامر اكثر من السماع
باسمائهم المتكررة اعلاميا لا اكثر).
من هم اول الحداثيون اذن؟ ماا لذي قدموه لارضهم
وتاريخهم وواقعهم وبما يتناسب عموديا او افقيا؟
لاشك ان ما يقوله فوزي بحقهم يكتسب الكثير من
المصداقية والموضوعية فهو قد استطاع فضح ادعاءتهم
وافراغها من المحتوى والمضمون اللازمين لاي شكل فني او
لغوي بحجة الحداثة المستوردة الخادعة التي استطاع
ممثلوها السيطرة على الكثير من مفاصل حياتنا ويومياتنا
الثقافية وانتجت في النهاية اوساطا ادبية متطفلة
وفارغة (بنسبة غالبة) ساهمت مع مدعين آخرين على
المستويات الاجتماعية الاخرى من سياسيين ومفكرين
وباحثين في الاستحواذ على سلطات واسعة وشاملة على كل
شيء.
هكذا يصير السؤال عن ثياب الامبراطور المفقودة سؤالا
شاملا ومصيريا لابد من الاجابة عليه بشكل جماعي وعلى
جميع المستويات وليس على المستوى اللغوي الشكلي الذي
يركز عليه الكاتب وهنا تجب الاشارة الى ان المبرر
الروحي-البغدادي الذي يعتبره فوزي بديلا للشكلية
واللغوية هو ممثل مثالي في الحقيقة لها..فالروحية او
الروح مضمون غامض لا يستطيع احد الامساك به وهو بحاجة
ماسة دائما لشكل ولغة للتعبير عنه وهي اي الروحية (البغدادية
وحتى الشامية) روحية لا حداثية قديمة لم يستطع ممثلوها
ايا كانوا الخروج من جدار عزلتها اللغوية الخانق
والتقليدي والمفتعل.
وفق هذه القراءة يصبح السؤال مختلفا عن ثياب
الامبراطور التي لم يرتد منها هذا الامبراطور قطعة
واحدة. فهو يعني اولا واخيرا ثيابا مستوردة وذات بهرجة
لامعنى لها (وبعمق تاريخي شامي)مقابل ثياب اخرى
تقليدية ذات طابع روحي بغدادي يمتلك عراقة وتواصلا من
ايام ابي نؤاس وحتى السياب ..هما في النتيجة ضمن مستوى
واحد شكليا ومضمونيا يستعير احيانا من الاخرين ما يراه
مناسبا له ويفضل ضمن الاطار نفسه (التاريخي المتشابه
في منطلقاته الاساسية رغم التباعد الزمني بين
ممثليه)مرة الشكل السائد على المضمون او العكس في مرات
اخرى.
فحين نذكر أبا تمام مثلا فلا نذكر فقط قدراته البلاغية
المبتكرة بل قدراته الشعرية اولا التي لا يمكن توفرها
بمثل هذه القوة لولا احتوائه على مضمون وصنعة ممتازين
وهو في هذا الامر قريب الشبه بادونيس .وكل ما في
القضية يعود اصلا الى انهما يستخدمان تقنيات واساليب
بلاغية ماهرة في اسلوبيهما بشكل ظاهر للعيان بقوة لكن
هذا لايعني عدم احتوائها على روحية بغدادية فيما
يكتبان ويضع الامر بشكل معاكس ايضا على من يصفهم فوزي
بالبغداديين.. على اية حال نعود للتأكيد على ان اهمية
الكتاب تكمن بالدرجة الاولى في نقده لمشروع الحداثة
غير ان الكاتب لايتفرغ كليا للمضي ابعد في النقد بل هو
يتراجع ليتلهى بمتوازيات تاريخية ومعاصرة بين الشعراء
الممثلين لهاتين الفترتين.
فنجد في الجانب التاريخي العميق ثنائية (ابي نواس-ابي
تمام)اما في الجانب التاريخي الحديث ثنائية (السياب -ادونيس)
ولايعود القارئ يفهم حقيقة ما ينتقده فوزي من حداثة
مستوردة حين يقوم باعادة ربط ادونيس بعمقه الشامي
الممثل بابي تمام وكذلك ربط السياب بابي نواس فالمبرر
لنقد الحداثة لا يعود يخص ما استجد منها غربيا وتمت
ترجمته حديثا للعربية بل انه ينشطر الى موضوعين
منفصلين لا رابط زمنيا ومكانيا بينهما .وتنتقي بذلك
الحجة المقامة على الحداثة القادمة من الغرب على
اعتبار انها هي الحاضنة الاولى التي ادت لكتابة النص
الادونيسي الذي ظهر فيما بعد انه نص قائم على مبادئ
مدرسة شامية عريقة في القدم ويعود زمن ابرز ممثليها
الى فترة العصور الوسطى.
اين هي ثياب الامبراطور التي يريد الكاتب تعريتها؟ ومن
هو هذا الامبراطور في الحقيقة سوى اللغة القاسية
المفتعلة التي استخدمها الشعراء والكتاب وحتى رجال
السياسة قديما وحديثا؟ وهل يمكن اعتبار تجربة ابي نؤاس
الغريزية -الجسدية روحية؟ او ان تكون افكار ورؤى ابي
العلاء الذهنية المصاغة على شكل ابيات موزونة شعرا
روحيا؟
ما الفرق بينهما اذن والمتنبي البليغ الذي استخدم
الطريقتين وان كانت بطرق واشكال اخرى؟
يبدو ان ثقافة فوزي الكلاسيكية تغلبت اخر الامر على كل
شيء عداها(وليس في هذا ما يعيب ولا في كون ادونيس
شاميا ايضا).
واكبر دليل الهدوء الذي يلف امواج قصائده غالبا
وجديتها العالية التي تفتقد اغلب الاحيان روحية العابث
والمجازف والمغامر -الشاعر.
الحقيقة الاخيرة التي توصلت اليها في قراءتي الخاصة
لهذا الكتاب هي ان الكاتب لم يعد الامبراطور تماما بل
اكتفى بتعرية النصف الذي لايعجبه منه وابقى لنا النصف
الاخر ومن خلال هذا التصنيف الاولي انطلق بعدها فوزي
لايجاد كل الحجج اللازمة لاثبات صدمة نظريته.. واوصله
بحثه الى ادونيس ومن ثم الى الحداثة الذي هو ابرز
ممثليها غير انه ونظرا للسياق النقدي الذي انطلق منه
نسي ان يفصل بين الحداثة الغربية البعيدة كل البعد عن
منطلقاته الاولى وبين ادونيس لكنه فضل ابقاء هذه الحجة
القوية لتعضيد الحجة الاصلية الاولى والعائدة اساسا
للمدرستين الشامية والبغدادية كما يعتقد المؤلف .
مع هذا فان الفصل الخاص بنقد الحداثة في شكلها الغربي
اوضح لنا بما لايقبل الشك الكثير من سوء الفهم الذي
عبرت عنه كتابات ونصوص الابداعيين العرب في النصف
الثاني من القرن العشرين وفضحت ايضا الاوهام القاتلة
التي ادت الى اخفاق كبير داخل الواقع الثقافي والفكري
لمشروع الثقافة العربية المقترح وعزله بالتالي عن
صيرورة الواقع والحياة داخل مجتمعاتنا