|
|||||||
قصيدتان
جاسم محمد
(ترجمهما الشاعر عن الأصل السويدي)
حياة برتقالية
ينأى الليلُ بالجزيرة قطعةً فقطعة أصواتُ الحافلاتِ تتلاشى وأغاني الطيورِ تصمت الطائراتُ تحلقُ أعلى فأعلى عابرةً إلى البعيد ولا أبوابَ تفتحُ دعاءُ رحمتي يمضي دون أن يحركَ جفناً في أي وجهٍ كان أحلِّقُ عذراءَ في الفضاء الأخضرِ، لا أكُفٌّ ولا حتى نظرةٌ عابرة تصطادُ جسدي كل ما أتوقُ إليه الآنَ أن أُعصَرَ بين صفينِ من أسنان فضة أن أخضِّلَ شفتيهما أحيلهما من صحراءَ قفرٍ إلى فِردوس
هذه حياةٌ لا يتوقُ إليها بشر وُلِدتُ كي أُلمسَ وأَلمسَ خذني كرةً إن أرَدْتَ دحرجني بنطحةٍ أو ركلةٍ. أَمْقُت أن يدورَ ظلي حولي. أحيا حين تطرحني على لسانك وإن فيه هلاكي إمضغني بدافعِ ضرورةٍ أو لشوقٍ فيك! الاكتفاءُ الذاتيُّ لا وجودَ له، كذبةٌ كسواها.
بعيونٍ تحدقُ أتدلى في دفءِ الصيف وأسمعُ خطواتٍ غريبةًٍ تدنو، خطوات تختفي ـ كلمات تتخبط في فراغ. أُدنُ مني ولا تدعْ ظاهري المتألقَ يُعميك! فأنا الآن أجفُّ من داخلي. ضمني بيدكَ كي تسمعَ كيفَ يكونُ نداءُ الأعماق لا أصدُّ أحداً مشرعةٌ أبوابي لمن يأتي، حتى لسكين
فُرِّغْتُ من كل ما يطيلُ مكوثي في فمك أسَمَّى الآن بلا نوىً كي على عجلٍ تزدردَني لكن لا يزالُ، كلُّ ما ترى، يرقدُ في مائي أنا لغتكَ الأم. الانفاس الأخيرة لكلب يموت عند البحر
1 حديدٌ على حديدٍ. مَرْساةٌ هائلةٌ تعلو لتحيي، برشقةٍ من هديرٍ، انتصارَ الإنسانِ على البحرِ. جلجلةُ غرور هذا المركب الكبير على الأرجحِ آخر ما يدركني من هذا العالم ـ ممشى الشاطئِ الطويلِ يكمُّ الأنفَ كأنه جدارٌ من ضبابٍ ولا أرى صفَّ المصابيحِ الغارقةِ تحتَ الماء كلُّ المسافاتِ في نهايةِ حياةٍ تَختزلُ ذاتها إلى نقطةٍ لا غير ككلِّ الكلماتِ ذاتَها إلى جملةٍ واحدة: "أذهبُ الآنَ إلى أهلي" فليس لغيرِ الأحياءِ حاجةٌ إلى النقطةِ ألف والنقطةِ باء لا يلفظُ الإسفلتُ القاسي جسدي نحو أنثى أو مهرب أستلقي وسطَ الطريقِ بانتظار الرحلةِ الكبيرةِ لو كنتُ أعلم أني سأوقفُ طابورَ حافلاتٍ هكذا لَلَصَمْتُ كمتحضرٍ أنفي بيدي أستمتعُ الآنُ بكلِّ لحظةٍ فلا " أغرب!" تلاقي إطلالتيولا حجرٌ يئزُّ نحوي ذَنَبي يمتدُّ خاوياً من حاجةِ الهزِّ لأحدهم جذلاً واللسانُ لا يقوى على لعقِ يدٍ شاكراً على كسرةِ عظمٍ هذا هو البحرُ الحقيقيُّ وأنا أغرقُ فيه
هكذا تبدأُ رحلةٌ على البياض.
2 المرساةُ تعلو. أمواجُ صوتِ الأعماقِ تعلو أيضاً ترتطمُ بباطنِ الجلدِ تتكسرُ على الأضلاع. كانت حياتي كرقصٍ على الزهورِ وُلِدْتُ دونَ حضورِ قابلةٍ أو أقارب شارعٌ كان قدري عبر القلب من أفقٍ إلى أفق حملَ لي رائحةَ سعادةٍ محمَّصةٍ وعطرَ أحزانٍ نيئة لم ينظرْ إلى قلبهِ بعينِ القلب ولم ينظرْ إليَّ بكلِّ قلبهِ قاتلتُ حدَّ الإدماءِ لأجلِ كلِّ كسرةٍ ذقتها عَضضتُ وعُضِضْتُ، غارت جروحي... أوجعتني فمن لم يتألم لا جسدَ لهُ، لذا الصليب.
حُرِمتُ الجلوس حولَ مائدةِ المساء وقلما كان الأمرُ سيانِ لي لكن هكذا خَلَصْتُ من كلِّ "معاً" أرقَّ من قميصِ طفلٍ أنيقٍ ماضٍ إلى صلاة الأحد من ذمِّ قسِ القريةِ وزوجةِ المختار من بزةِ العرسِ وهدايا أعياد الميلاد العطورِ والملابسِ الداخليةِ من حسدِ سواي على بقرةٍ أو قصر ما منحتني الحياةُ أبهى من كل الأشياء: سماءً عارية وعنقاً بلا قيد.
عشتُ لحظةً فلحظة، بلا تقويمٍ وساعةٍ منبهة أنفي قادني عبر الأيام، كما تقودُ نجمة بدوياً عبر التيه. زاويةُ الرؤيةِ لا تضيع، طالما يمليها الباطنُ كسرةُ عظمٍ كانت كلَّ الهدف كانت المستقبلَ والحاضرَ. الماضي كان اليدَ التي رفعت يوماً ما بأطراف أصابعها عظْمةً من أطباقِ العشاءِ الخاوية لم يدبَّ فيَّ يوماً ولو حتى هاجس أن أخونها ألعقُها بكلِّ تواضعٍ إن شاءت التكبرُ مثرمةٌ هائلة، تبتلعُ كلَّ ما يدنو منها. لقد رأيتها تطحنُ صروحاً وممالكَ مخلفةً بقايا، كِسَراً حتى أنا أتعففُ عن لعقها.
في الليل سرتُ بصمتٍ من باب إلى آخر تلوّى الناسُ في المنام عالياً كان صوتُ البحرِ الذي تموّر فيهم وأفاق ما خدّره النهار: الحياء، الشعور بالذنب وتأنيب الضمير. حياة كل ما هو خطأ متكامل من لا هيئةَ له.
3 هناك نهرٌ صغير ليس نهراً في الحقيقة إنه جدولٌ صغيرٌ. جدولُ الحزنِ. يجري على سفحِ جبلٍ باتجاهِ البحر. خفي على العين. تغطيه أشجارُ تينٍ وجوزٍ يُحبَسُ ماؤه في النهار ويُطلَقُ في الليلِ كي يخرخرَ حراً حينها يهبُّ نسيمٌ على البيوت ويعزفُ في أوراقِ الأشجار نغمةً لا تفهمها الأذنُ في وقت آخر لا تغلقُ الشبابيكُ حين تسمعها! كي لا يغزوَ الأمواتُ الغرفةَ ويملؤوها بنباحٍ زائف.
|
|
||||||
|