|
|||||||
قطيعةُ المحارب عن الغرائبي في "كِران البَور"
فوزي كـــريم
معذرة عن التأخر لا استطيع أن اكتب أي شيء في هذا العالم الكابوسي.. قد يبدو عالم كافكا طيبا مقارنة به.. صدقني حاولت ولم استطع.. أرجو أن تكون بخير.. مع شكري العميق
حسب رسالة في 23 May
1
التقيت حسب الشيخ جعفر في تونس عام1997، بعد أكثر من عقدين من مغادرتي العراق. كان مهرجاناً للشعر أولا، ولا ثاني له. من العراقيين رأيت البياتي، وسعدي يوسف، وحسب الذي دُبر خروجه من عمان بمشقة بالغة. لم أتحدث مع حسب حينها إلا متأخراً، لأني كنت على قطيعة غير معلنة معه، لأكثر من سبب غير مباشر. في العراق كنت أضيق من عزلته عن الجميع، باستثناء حفنة من الكتاب البعثيين من أعضاء اتحاد الأدباء. وفي سنوات المنفى سمعت أنه أهدى مجموعة شعرية إلى صدام حسين. أمران كفيلان بجعلي على قدر من الاستياء. وقد كان استيائي نفاجةَ بالتأكيد. فقد كانت لدي جاهزية، مثل كثيرين، لسوء الظن، احتفاءً بالظاهر، والكسل الروحي عن الذهاب قليلاً وراءه. الأمر الذي تبينته عند، وبعد لقائي هذا. في يوم المهرجان قبل الأخير رجعت إلى الفندق متأخراُ، وفي بهو المطعم المهجور رأيت حسب وحده يجمع في منديل ورقي بقايا عنب، توفيراً لها لغاية لم أدركها في حينها. كنت أتأمله، وأتأمل فرصة أنْ أطرق بوابة هذا الكيان المغلق، الذي تكلفت معه لسنوات موقفاً غير عقلاني. التفتَ هو، ولم يجد أحداً غيري، فابتسم وتحدث. طبعاً لم أسمع منه ما يقول. لأن صوت حسب، لمن يعرفه، داخلي، ككل شيء فيه. أقتربت منه مستفهما، فسمعته يقترح علي الذهاب معه إلى غرفته من أجل كأس. جئت بقنينة ويسكي من غرفتي والتحقت به، وأنا أشعر كأني على وشك أن أتعرض لمشاعر ذنب مُهينة. فالرجل بادرني بالدعوة، غافلاً كلياً عن توجسي، وما كانت له دراية به على ما يبدو، وقد تحول بين يديه إلى خرقة بالية. لم يكن بيننا أكثر من متر، كفيل بمنحي فرصة أن أرى هذا الكيان عن قرب. ما من زيادة على الهيئة المركبة من عظم وجلد. رأس غاية في الرشاقة بفعل هذا التجرد من أي زيادة. مسحة رمادية بيضاء أعلى الرأس. عينان صغيرتان مدورتان كعيني طائر بري، تنظران جانباً إليك حين يُصغي. وحين يتحدث تواجهانك مباشرة. أنف بحجم ملحوظ يُعطي للوجه الصغير شيئاً من الحضور. فم صغير كفم طفل، بشفتين مزمومتين أبداً، تعبيراُ عن امتعاض دائم. وحين يتحدث يلوح سنان، أو بقاياهما، أحرقهما الدخان. الدخان الذي قدم له حسب ولاءه قبل أكثر ثلاثين عاماً: "دخّن، ودخّن، ليس غير الدخان....". تحدث كثيراً. كنت أسمع كلّ ما قال بوضوح لحسن الحظ، بسبب هدوء الليل، وخلو المكان. كان يخاطبني بلياقة زائدة عن الحد. الأمر الذي أدهشني. ولعل هذه الدهشة هي التي منحتني أول الفرص للذهاب بعيداً في فهم هذا الكيان الشاعر، التي شاءت نواقصي أن أتخذ منه موقفاً. أنا الذي طالما ادعيت الارتياب من اتخاذ المواقف. شعرت أن مخاطبتي بأستاذ، التي تبدو في الظاهر تأدباً واحتراماً، لم تكن إلا محاولة غاية في الرقة لتوفير حاجز أمان بينه وبين الآخر. تحدث عن الإجحاف الذي تعرض له على يد مثقفي البعث المسؤولين، مثل حميد سعيد وسامي مهدي، بالرغم من محاولات إرضائهم. ولاحظت أن مدار الشكوى معاشيّ، ولم يقرب الشعر. كان يذكرهما دون ضغينة. ويعبر على المظالم عبور من يُقر بها كقدر لا مرد له. لم أسمع منه شكوى، حتى وهو يتحدث عن منفاه القاهر في عمان. حين سألته عن مكان إقامته قال: "تهيّأت لنا، أنا وصديق، سقيفةٌ من الصفيح في بستان لرجل نعرفه. كانت إقامة لا تخلو من مصاعب، خاصة في الأيام الممطرة، بسبب ثقوب السقف الكثيرة." (راجع في هذا الشأن مقالة نصيف الناصري في هذا العدد) كنت أُصغي لحديثه، الذي بدا لي محض إدانة لجهلي المريع بما يخفي الظاهر. فهذا الشاعر العراقي قدم لي عينة متكاملة لقدر الشاعر العراقي داخل محفل الثقافة العربية، المزدهية بالنفس. كنتُ لا أجاريه بتلاحق الكؤوس، لا عن عفّة، بل عن خشية على صحتي التي لم تعد كما كانت. ولكنني كنت أُصغي بوعي، وكأني عبر كلماته الهامسة، أعبر من ضفة إلى ضفة. أعبر من موقعي إلى عالم داخل حلزون. إلى عالم العزلة التي ارتضت قطيعة مطلقة مع الحياة الفاعلة المحيطة، وقطيعة مع الحياة. عزله قوامها المخيلة والذاكرة البعيدة. كان يحدثني عن عاملة الفندق، التي تتكلف الدخول كل حين لغرض يستدعي منه ابتسامة رضا. أو خمارات موسكو. ولا شيء عن حياته المعاشية المزرية في بغداد وعمان. ولا عن الشعر أيضاً. هذه الأمور تستدعي شكوى، كما أتوهم. وحسب لا يُحسن الشكوى، ولعله لا يعرفها. هناك شيء قدري في الذي يحدث له. ولذا كانت العزلة والخمرة حصيلتين لا خيار له فيهما. وفي بئر العزلة والخمرة يكتب قصيدته المعافاة من كل ما هو تاريخي. حتى الماضي، الذي يبدو بالغَ الشخصية في ذاكرته، يفلت من الزمن التاريخي إلى زمنه الداخلي. ولذا يبدو بكل عناصر الحرمان، والبؤس، والفاقة أشبه بتميمة تحميه من شياطين التاريخ الدامي وأبالسته. أن قاموس قصائده الشعري، في المجموعات:" "نخلة الله"، "الطائر الخشبي"، "زيارة السيدة السومرية"، و"عبر الحائط ... في المرآة"، يفيض بأشياء وعناصر حياة الأهوار والجنوب الفلاحي الدنيا. وهو لا يخلو من شعور بالذنب، خشية فقدان تلك التميمة التي ترعى "طفولته البيضاء": "أنكرَني دخانُ الروثِ والكرَبِ المبلّل، أنكرتني النارُ والطينُ القديم. بحثت عن ثوبي الممزّقِ، وارتعاشة هيكلي المهزول، تنبحُني كلابُ طفولتي البيضاء .."! كنت أعرف ذلك في حسب قديماً. وها هو يؤكدها لي بجاذبية من يملك مفتاح الغياب، والمنفى، عن التاريخ الصاخب الدامي. كهفٌ يتغوّلُ فيه المرء ـ الصورة التي ستستهوي حسب في قصائده المتأخرة ـ، منقطعاً إلى ذاكرته ومخيلته. غادرته إلى غرفتي في الفندق التونسي، لألتقيه ثانية في عمان. هناك اختمرت قصيدة "حسب الشيخ جعفر (عن الحاضر الذي لا ينتسب لمكان)"، والتي هي واحدة من ثلاثة تخطيطات بالأسود. التخطيطان الآخران كانا لهادي العلوي وسعدي يوسف.
2
حسب الشيخ جعفر
عن
الحاضر الذي لا ينتسب لمكان
3
حين تنحرف مخيلة الشاعر، أو الفنان، باتجاه تشويه الظاهر، رغبةً في الكشف عن الحقيقي الخفي وراءه، لا تنحرف بدافع سايكولوجي داخلي فقط، وإنما بدافع الواقع الضاغط، والمحيط الاجتماعي، السياسي، الثقافي، والعالمي الذي يبدو عدائياً، ولا ينطوي على رحمة. الأمر يعتمد على طبيعة الحساسية لدى الشاعر، أو الفنان، إذا ما كانت ساعية أبداً لإعادة التوازن، أو غير قادرة عليه بالمرة. نتاج هذا الميل في المخيلة للتشويه، والمبالغة، عادة ما يعتمد الصورة، المشهد، أو الحدث. وعادة ما يشيع في الشعر، الفن، وأحياناً القصة. الدراسات الغربية تطلق عليه اسم The Grotesque، أو "الغرائبي"، إن صحت الترجمة. وتعرّفه بأنه الفن الذي يبدو فيه الشكل والموضوع منفصلين، أو بعيدين، عن الواقع الطبيعي، الاجتماعي، أو الشخصي الذي نحن جزءاً منه. صوره كثيراً ما تجسد تشويهات، مبالغات، جمع ما لا يُجمع بصورة تبدو لنا غاية في الغرابة واللانظام، وكأن العالم قد قُلب رأساً على عقب. إن الأعمال الغرائبية تستثير لدينا حاسة سقوط الكائن الإنساني. وإن عملية التشويه للأشكال الطبيعية في مظاهر الحياة الأساسية، مثل الولادة، الجنس، الموت، الشيخوخة، لا تفاجئنا وتدهشنا فقط، بل تستدعي خليطاً من المشاعر، متعارضة في الأغلب، حول الجانب الأكثر عتمة في الكائن الإنساني. الغرائبي لا يُذعر من الموت شأن كل كائن حي، بل ينفرد بالذعر من الحياة، التي تُخبئ الصادم والمفاجئ أبدا. والغرائبي، حين تبخل الحياة بالحوار الخارجي الطبيعي مع الآخر، وحين "يلتبس الإنسان على الإنسان"، بتعبير أبي حيان التوحيدي، ينصرف إلى الحوار الداخلي الذي لا يخلو من تأثير خانق. وهو يستريح للانتساب إلى هذا العالم اللامرئي، عالم الموتى أو الغائبين، أكثر من انتسابه إلى عالم الأحياء. ويجد في الفاعلية الجنسية، وحتى الدعارة منها، مصدر حيوية. حين نواجه ما هو غرائبي نشعر أننا عرضة لأن نُصدم ونُدهش دون حماية. عرضة للعبث والسخرية. حالة تستثير فينا مشاعر خليط من الضيق، الخوف، النفور، الاستثارة، البهجة، والذعر، حتى لنحار إذا ما كان ما نواجهه ينتسب لهذا العالم أو لعالم آخر. قد نضحك مما يبدو لنا كوميدياً، ولكننا لا نخفي ارتيابنا من مضامينه السوداء. نُفتن بجاذبيته في حين لا نخفي إحساسنا بمعاني التهديد التي ينطوي عليه. نشعر في أحكامه الاعتباطية بشيء من النذير، ونرى في مبالغاته وتشويهاته فرصة أن نُطل على حكمة ما. ضربٌ من العطاء ينطوي على ما هو شيطاني وإلهي في آن.[1]
شبحٌ من هذا النتاج الغرائبي نحيط به بوضوح في نتاج حسب الشيخ جعفر الشعري المتأخر، أو على الأقل في المجموعتين الشعريتين المتأخرتين بين يدي: كِران البور" و "الفراشة والعكاز". لم أقرأ لحسب إلا الشيء اليسير، منذ مغادرتي العراق في أواخر 1978، بعد مجموعاته "نخلة الله"، "الطائر الخشبي"، زيارة السيدة السومرية" و"عبر الحائط في المرآة"، التي اطلعت عليها في بغداد. كان مفهوم الشعر "الغرائبي" يحوم فوق قراءتي لقصائد الكتابين. وشعرت، وأنا أواصل، أن هذا المفهوم يلقي مزيداً من الضوء على عالم حسب المعتم، وييسر السبيل لتحمل الكثير مما يبدو في الوهلة الأولى عصياً على القراءة، في كتابه "كِران البور" بالغ الغرائبية، والذي ستقتصر هذه الدراسة عليه.
تمتد جذور الخيال الغرائبي، في الفن خاصة، إلى عصر النهضة الإيطالي، ثم انتشر في عموم الغرب. المتابع للفن يعرف أن رافائيل كان ميالاً لذلك، وأن بوش وبروغل كانا أبرز المعالم، ثم تابعهما غويا في مرحلة الحرب النابليونية على اسبانيا، وأن هذا الميل وجد مرعى خصباً في العصر الحديث على يد التعبيريين، والفنانين: مونك، فرانسيس بيكون، رينيه ماغريتّي. وعلى يد الكتّاب توماس مان، فرانتس كافكا، غونتر غراس، توني موريسون. ومن أجل أن لا يتم خلط في الطبيعة الإبداعية لهذه "الغرائبية"، عليّ أن أوضح مسألة غاية في الأهمية، هي أن هذه "الغرائبية" ليست نتاج رغبة أدبية لدى المبدع في استنفاد حدود الخيال. الأمر الذي عرفناه لدى السورياليين، والكثير الكثير من كتاب وفناني الحداثة وما بعدها. أذكر في الستينيات العديد من الكتاب الذين منحتهم مفاهيمُ الحداثة فرصةَ المغامرات الخيالية، أسوة بما يحدث في الغرب. من أمثال جليل القيسي، فاضل العزاوي، محمد عبد المجيد، يوسف الحيدري، موسى كريدي... ولكن كل تلك الاجتهادات الإبداعية، وليدة الرغبة الصاحية في الانتفاع من قوى المخيلة، لا تمت لمنحى "الغرائبية" بصلة. لأن هذه الأخيرة وليدة حاجة لا واعية في كيان كائن ملتبس، مفرط الحساسية، لا يستطع معه رؤية العالم إلا في مرايا محدبة أو مقعرة. إنها عميقة في الجذر السايكولوجي للشاعر أو الفنان. وليدة دامية لردّات فعل الضغوط النفسية الداخلية وضغوط الحياة الخارجية القاهرة، والتي لا مرد لها. نعم، توفرت ملامح هذا الميل لدى عدد من كتاب القصة في الستينيات والسبعينيات، على ما أذكر. أذكر منهم: عبد الإله عبد الرزاق ، عبد الستار ناصر، منير عبد الأمير، خالد الخميسي، جاسم الناصر.. والأسماء الثلاثة الأخيرة لا حضور لها اليوم. كتاباتهم لا تخلو من هلوسة معتمة داخل دوامة لا تحيد عنها: دوامة الرغبة في الانتحار، الجنس، الموت، والخوف من المفاجئ المجهول...الخ. في الشعر لم تحظ "الغرائبية" بمكانة واسعة لعاملين، الأول: له علاقة بعدم توفر الشاعر ذي الطبيعة المنسحبة، بالغة الرهافة والحساسية، وسهلة المكسر بالضرورة في محيط بالغ القسوة وانعدام التسامح والرحمة. ولقد كان السياب نموذجاً بليغا لهذه الطبيعة الداخلية الثرية بالحساسية، والضعف، وعدم القدرة على مواجهة حيوان المحيط الكاسر. والعامل الثاني يتعين في المناخ الثقافي والشعري الذي تنتسب إليه الأكثرية، والذي يتميز بغلبة الأفكار، والمواقف، والفعل السياسي والعقائدي. هذا العامل يعزز من عملية التضييق الروحي على الكيان الشعري الجافل، المرهف، العاجز عن المقاومة. وكأن الشعراء على طرفي نقيض: منتمون، مع فيض من إجابات جاهزة، ومساع مُضاءة الأهداف. ولامنتمون، يرزحون تحت وطأة الأسئلة التي لا إجابات لها, ومتاهات دون دليل. الطرف الأول يغطي الرقعة الأوسع من خارطة الشعر العربي، والثاني تمثله أصوات فردية كان السياب أبرزها بين جيل الرواد، ولعل حسب الشيخ جعفر هو النموذج الآخر الذي يليه. وإذا كان السياب قبله قد تعرض لظرف اجتماعي (الحرمان العاطفي، والحاجة)، وظرف سياسي (الأحزاب المتناحرة) خانقين، إلا من بعض فراغات تمنح الرئة فرصةَ أن تتنفس، فقد تعرّض حسب، هو والحياة في مرحلته، لقَدر هيمنة السلطة الشمولية المعتم الذي لا إضاءة فيه ولا متنفس. وإذا كان السياب وجد متنفساً في خندق هذا الحزب أو ذاك، وفي المشاكسات الكتابية البذيئة، لم يكن لحسب من ملاذ غير المخيلة، والخمرة، ونعيم الفقدان والعزلة اللذين توفرهما. ولقد توج انتسابه إليها بتسمية وليده الأول نؤاس، لكي يطمئن هو إلى كنية "أبي نؤاس"، التي عُرف بها.
حاول حسب غرائبيته مع اللغة أولاً، في مشروعه الشعري "كران البور". أرادها أن تكون لغة تنتسب إلى القاموس، لا إلى القصيدة. ليحقق أول قطيعة مع الأحياء (القراء). تشعر، في كل خطوة، أن حسب قد تعمّد ذلك، بدءاً بالعنوان المستعصي على الاستيعاب، بفعل دافع قد نحتاج إلى قدر من التأمل للتعرف عليه. إن إعجاب حسب بأبي العلاء المعري واضح في أكثر من إشارة في ديوانه هذا. ولقد سبقه أبو العلاء في التعمّد الملح لاصطناع لغة تعّمق الهوة بينه وبين قارئه. ولقد شاء حسب أن يجاريه، عن غير قصد المُجاراة، للدافع ذاته. حاول المعري ذلك في ديوانه الشهير "لزوم ما لا يلزم". ولكنه حاوله أكثر في كتابه النثري "الفصول والغايات". كان طه حسين في كتابه "مع أبي العلاء في سجنه" يقترح أن وراء مسعى أبي العلاء رغبةً بالتسلية والتهوين على النفس، لفرط ما أخذ به حياته المادية والعقلية من "التزام العزلة والإعراض عن النسل والانصراف عن لذات الحياة." وبالرغم من أن اجتهاد طه حسين يبعد المعري عن المنحى "الغرائبي"، إلا أن عبد القادر زيدان، في كتابه الممتاز "قضايا العصر في أدب أبي العلاء المعري"، يقربه من "الغرائبية" حين يرى بأن هذا الميل يعني: ".. أننا أمام صورة من صور الإيغال في العزلة، تبتعد بنا كثيراً عن فكرة التسلية المزعومة. وأن مثل هذه الأبنية التي شيدها أبو العلاء بحذق ومهارة متميزة، لا تعدو أن تكون رمزاً للإحباط الذي مُني به أبو العلاء في حياته العامة. ".. ربما لا نكون مغالين إن قلنا إننا أمام إنسان يعيش علاقة سمتها الصراع الحاد بين واقع أدرك ما فيه من قصور ومحدودية، وحقيقة متعالية تتأبى على التحديد، حتى صارت هي والعدم سواء. صراعٌ ليس له في محصلته النهائية سوى الفشل والإحباط. وأمام فشله ذاك، وفي مواجهته، نراه وقد أخذ يشيد من أبنيته، يُقيم فيها منفرداً "مع لغته، يجربها ما شاءت له التجربة الحرة والخيال الطليق بعد أن أضحت له اللغة في عزلته عالمه وحياته.."[i] بدر شاكر السياب، بين معاصرينا، عانق النزعة "الغرائبية" عبر المخيلة لا اللغة. وعانقها عبر موضوع الخوف من الحياة لا الخوف من الموت. ولقد فصّلتُ موضوع انتسابه إلى مملكة الموتى لا الأحياء في كتابي "ثياب الإمبراطور"، فصل "السياب: مياه أول الخليقة" بإسهاب.[ii] حسب الشيخ جعفر، منذ "نخلة الله"، لصيقٌ بالسياب، عميق التأثر به. حيث غذى لديه الأولُ نزعته تجاه المخيلة الجحيمية، وتجاه الحياة والموت، العنصر الحاسم في النزعة "الغرائبية". أكتفي بالمقطع التالي من قصيدة "قارئ الدم"، حيث يتدفق من أعماق السياب اللاواعية ينبوعٌ غرائبي لا ينتسب إلى أي حقل من حقول التعبير عن الغيظ الاجتماعي أو السياسي، الذي تدعيه القصيدة:
"إني أكلتُ مع الضحايا في صحافٍ من دماءِ، وشربتُ ما ترك الفم المسلولُ منه على الوعاءِ، وشممتُ ما سلخ الجذامُ من الجلود على ردائي، ونشقتُ ماءَ جوارب السجناء في نفَسِ الهواءِ، فشممتُ فيه دخانَ دارك واحتراق بنيك فيها وشواءَ لحم بنيك...."[iii]
هذا المقطع عينةٌ من مخيلة السياب الغرائبية. وفي قصائده أكثر من شاهد ينتسب لحقل الداخل المثير للروع. أما الخوف من الحياة لا الموت فشواهده تغطي مساحة أوسع. ولعل قصيدة "في الليل" الشهيرة، حيث يستسلم لعالم الموتى بعذوبة الآمن، خير شاهد. تعززها قصائد وفيقة، وقصيدةُ"أم البروم" حيث تهجر قوافل الأحياء مغانيها هرباً، في حين لا تفعل ذلك قوافل الموتى...الخ. سنرى لدى حسب الشيخ جعفر هذا المسعى ذاته تجاه تلك المخيلة، وتجاه عالم الموتى ذاك.
4
يكاد ديوان "كران العود" يكون عصياً على فهم كلِّ قارئ، مهما تمتع القارئ بغنى العربية، وغنى الشعر القديم، أو الحديث. أصدره حسب الشيخ جعفر في 122 قصيدة عام 1993، مرحلة الانهيار العراقي التام لكل شرط للحياة، يمكن أن يعتمده الإنسان. ولقد التزمت القصائد جميعاً بناءً شكلياً واحداً، نجد جذوره في الشعر العالمي لا العربي: ثلاث رباعيات، وخاتمة من بيتين. الرباعية الواحدة تلتزم التقفية: أ ب أ ب. والخاتمة تلتزم قافية واحدة. وهو ينتخب عناوين ملغّزة للقصائد، يتقصّد فيها التغريب عن النص. فليس من اليسير أن تتوفر على رابط بينها وبينه، إلا في النادر. وهذا الكم الهائل من القصائد لم يُفلتْ إلا بضعة منها من عنَت اللغة، وعصيان الصورة على الإدراك، ومن مراوغة الموضوع:
أي سِلكٍ سلك ابنُ السُّلَكة؟ أبنوْلِ الرِهْمِ أسربنَ له ضحضاحَ جمّة؟ أمْ بأيدي الزَوَعِ التفّ فتيلُ المِسلكة وبسِقْطِ الأضبُعِ التمّت من الأغرُبِ لُمّة؟
لغة قاموسية كهذه لم تخرج إلا من قصدية متحدّية، وراغبة في القطيعة. حتى لتجد كلمة قاموسية وحشية، كان يمكن للشاعر أن ينتخب بدلها أخرى بالمعنى ذاته، والإيقاع ذاته، أيسر وأعذب: (الضُركاء: الفقراء. الخدارن: العناكب. تشبو: تعلو. عثّن: دخّن. تعطّ: تشقّ....). بل هي تتلاحق بعناد من لا رغبة لديه في التواصل مُطلقاً. ولكنه عناد المحتج وقد دبّ فيه الخَرَس من وطأة أذى المحيط، ولا رحمته. على أن القراءة العنيدة، عناد حسب، قادرة أن تكشف بدأب عن الجوهر الممتع، والعميق، والرحب للقصائد. في واحدة من هذه القصائد الفالتة يتضح أذى الإنسان الناطق وراء النص الشعري، كما تتضح قدرته على الغيظ والتحدي:
صعد الفتى، ابن خُزاعةٍ، جبلاً فأعيا وانهدّ كالمغشي، من وهَنٍ، عليه متفصّداً عرقاً، حسير الرضفتين وجىً وسعيا فإذا ارعوى وأناب كوّر قبضتيه:
"يا طودُ ما أنا صانعٌ بك؟ ما سأفعلُ؟ ما احتيالي؟ هَبني ضربتكَ أو شددتُ عليك باليد والضروس أأنالُ منك؟ فإن شتمتُ، وإن صرختُ فهل تُبالي؟ فأنِخْ بلون البُرْصِ عندك للقيام من الرموس!
يكفيكَ يوم تكون كالعِهن الجبال للريح تُنفشُ أو تُبدّدُ نُهبةً للسيل يجري ملء الشِعابِ، وأنذاك يجر حوْليُّ النمال بعنانك العاني، وفي الثُغرات يسري!"
قالوا، وهشّم لي فمي الحجرُ الكؤود وعلى الكُدى أنا، إنْ ولدتُ، غداً (سأجترحُ) الصعود!
صعودُ الجبل ليس المُبتغى في هذه القصيدة، بل مقاومةُ جبروته القاهر. فالمتحدث فيها كيان مُستضعف، يهدر بشِقشقة سرعان ما يُخرسها الحجر الكؤود! وواضح أن الصوت يتطلّعُ إلى اليوم الذي يصبح فيه الجبل (الوضع القاهر الذي يحيط بالشاعر) عهناً منفوشاً. حتى لتتضح لهجة الغيظ المتشفية في:
"يكفيك يوم تكون كالعهن الجبال للريح تُنفش أو تُبدد نُهبةً للسيل يجري ملء الشعاب، وآنذاك يجر حوليُّ النمال بعنانك العاني..."
وقد تكون هذه القصيدة الوحيدة المحتجة، المتحدية بمباشرة ووضوح. قصائد المجموعة برمتها محاولة انسحاب هادئ، ولكن شديد العتمة، داخل الشرنقة. داخل خلية شعرية ذات طابع حكائي، درامي (دراما داخلية). يستمد مادتها من المخيلة، الذاكرة، أو الموروث العربي. وهذه المادة تأخذ شرعيتها من انتسابها إلى عالم: الموتى، الشوارع الخلفية، المجانين، المتصوفة، المشردين، الخمارات الدنيا، الملاهي الليلية، العاهرات... والسبيل إلى هذا العالم يسيرٌ، حتى أنه لا يخلو من دعابة حادة في أحيان كثيرة. ولكنها دعابة سوداء. في حوار مع حسب نُشر في مجلة "نزوى" يقول بشأن الشعر وأنواعه: "أنا أحبذ تقسيماً من نوع آخر وهو الابلوني والباخوسي ، وهذا التقسيم كان شائعا حتى بعد نيتشة. والأبلونيه تعني الإشراق والوضوح في طرح التجربة، بينما تعني الباخوسية الغموض والتشابك والفوضى . فعندما ننظر مثلاً إلى الشعر العراقي ونقسمه حسب هذين التقسيمين ، نقف في الأبلوني أمام قصائد سعدي يوسف لأنها تجربة صافية ومنسجمة وذات أبعاد واضحة ، ونقف في الابلوني (لعله يريد الباخوسي فحلت كلمة الأبلوني سهواً) أمام تجربة السياب والبياتي ، لما تكتنفه قصائدهما من تأمل وشرود وتحليق واجتياز آفاق غير واضحة المعالم. وتجربتي أنا أقرب إلى الأبلونية منها إلى الباخوسية."[iv] التفاتة على قدر من الأهمية، ولكن مضطربة، وغير دقيقة. فهذا التقسيم كان اجتهاد نيتشة بالدرجة الأولى، انتصر فيه للباخوسية، التي تعلي من شأن الغرائز الغامضة، ومواطن الأحلام. ورآها الجذر الحقيقي الذي نبتت منه شجرة الدراما اليونانية. ولكن حسب لا يُصيب في رؤية انتساب شعراء مثل سعدي، البياتي، السياب، وانتسابه هو شعرياً. إن عناصر "الغرائبية"، التي تحدثت عنها تكاد تكون متطابقة مع عناصر الباخوسية. فكلاهما ينطلق من مواطن اللاوعي الغامضة الملتبسة. من موطن الغرائز. في حين تنطلق الأبولونية، بالمقابل، من معايير التوازن، والدراية المسبقة بسبل بلوغ الهدف الأسمى، في المعنى والشكل. والشعر العراقي، بهذا المعنى، لا يرعى التوجه الباخوسي إلا في أصوات نادرة، انتسبت لعالمها الداخلي، لا للتاريخ. للرؤيا الداخلية المعتمة التي تقرب رؤى العالم السفلي، لا رؤى الخارج المضاءة التي تسعى لهدف بيّن. والحقيقة أن هذا الانتساب الأعم مُعزز من قبل طبيعة في موروث الشعر العربي، ومُعزز من قبل الظرف السياسي والاجتماعي، الذي أعطى للشعر مهمةً، قد تبدو لي ولبضعة آخرين، خارج مهمته الحقيقية. ولذلك يبدو لي وضع شاعر مثل سعدي في الخانة الأبولونية صحيحاً. بالرغم من أن سعدي مزدوج التجربة بصورة ملفتة للنظر. ففي أحيان عديدة تراه يتخلى عن الاستجابة للتاريخ، وينسحب، انسحاب "القنفذ" (عنوان واحدة من قصائده المهمة)، إلى مملكة داخلية، ممسوسة، نصف مضاءة، إن لم تكن معتمة. ولكن وضع البياتي في المنحى الباخوسي لا يتماشى مع تجربته الشعرية جملة. فهو شاعر "قضية" بيّنة على الدوام. على عكس السياب، الذي ظل أميناً لمملكته الداخلية، حتى في قصائده التي تبدو في الظاهر منتسبة إلى التاريخ، وقضاياه العامة. والغريب أن حسب يفضل أن ينسب نفسه إلى المدرسة الأبولونية، بالرغم من أن مواصفات " التأمل والشرود والتحليق واجتياز آفاق غير واضحة المعالم" التي يراها في قصيدة المنحى الباخوسي، هي مواصفات أقرب إلى شعره هو.
5 مناخ الخمارة والخمرة أحد أهم مناخات المسرح التي تدور فيه مشاهد القصائد. ولكنها ليست مجال أنس وسلوان، بل مجال "إحصاء ديون"(21)، و"حان ضياع"(25)، "يموت فيها الشاعر كالجرذ"(39)، و"يعب الراح ليلاً أو نهارا..ولا يصحو"(54)، أو يدخل فيها بحران مخيلة كابوسية:
أنا والأمطار جئت الحان فجراً أتهاوى قلتُ: (ضيفٌ يا أخا الكرم فمُر لي بالمدام) قال: (كَلَّ النُدلُ، والشَربُ النشاوى مذْ علا الديك تولوا فزَّعاً تحت الرجام) (الرجام: القبور)
قلت: (إني طائفٌ منذ انتصاف الليل فافسح في الأعالي منك أو في الزاوية) قال: (أغفى الصحب، والساقي وحيداً يترنّح تحت أثقال القناني الخاوية)
قلتُ: (أضوى الطارقَ الطاوي المسير بين أطيافك لي كأسٌ وركنٌ ودثار) قال: بان الصبحُ، والأشباح تطفو أو تسير وصحا النوَّمُ منهم، وتواروا في الجِفار) (الجِفار: الآبار الكبيرة)
هذا الوصل بين الخمارة، والخمر، وبين الموت والفناء له أكثر من مبرر داخل عزلة الشاعر المطلقة. هنا ترى الشاربين النشاوى يهرعون فزعين أول الفجر تحت ظل الموت، وترى الأشباح تصحو مع الفجر من نومها وتهيم، إلى أن تتوارى في آبارها. وترى الشاعر لا ملاذ له بعد أن أنهكه التجوال حتى في خمارته الأثيرة. في قصيدة "الحفار" بيان بالغ الغرابة، في وصل الحانة بالقبر:
قلت للحفّار في حان "المجرّة": (إن للكأس ارتطامَ الرفشِ في الصخر المُرنِّ!) قال: (دع عنك الشظايا، كوّمت في كل حفرة وارتشف واهنأْ فإنا، في غدٍ، رهنُ التظنّي) ... قلتُ: (رفقاً بي غداً إن جئتُ أُنعى واتئد، واذكر أنيساً، ما أضاء النخبُ حانا) قال: (إنْ أغدقت لي اليومَ فقد أحسنتَ صُنعا وغداً إن متَّ لنْ أسأل قرشاً يا أخانا)
قلتُ: (يا حفّارُ خفّفْ.. أثقلت ردماً عليّا رنةُ المعولِ في كفيكَ صُبحاً وعشيّا!)
إن لرنة الكأس صوتَ ارتطامِ معول حفار القبور. وفي آخر بيت تنتسب الرنةُ للمعول لا للكأس! أي اقتضاب بارع! ولكن في هذا الاقتضاب شيء من أصداء تُقبل من السياب. في مطولته "حفّار القبور"، وفي المقطع الثاني منها، نرى حفّارَ القبور داخل حانة على الطريق، "يشدّ على الزجاجة في اليمين، وكمن يُحاذر أو يخاف يرنو إلى الدرب المنقط بالمصابيح الضئال..". يشد على الزجاجة كما اعتاد أن يشد على المعول. ثم تأخذه التداعيات الحسية والجنسية إلى مدى بعيد، غير متوقّع:
" ..والحلمتان: أشدّ فوقهما بصدري في اشتهاء حتى أحسّهما بأضلاعي واعتصر الدماء باللحمِ والدم والحنايا... حتى تمصا من دماي وتلفظاني، في ارتخاء فوق السرير، وتشرئبا.. ثم نثوي جثتين."
هنا يرد الطرف الثالث من المعادلة السايكولوجية: الجنس. في قصيدة "الغناء" تفاجئنا نباهة حسب الشعرية الغريزية باقتضاب شعري بارع:
قلتُ: هات الصخر، لي في الصخر أوتارٌ وآي تتشهّى الأرضُ مُذْ أمس اشتهائي أودعت سُرتها كفيَ، فالتزّت يداي (التزت: التصقت) بالحصى والكلس بِدئي وانتهائي
أقفلت عنها السواري السبعُ أسواراً وبابا فتلوّت بين زنديَّ اغتلاماً وأنينا سأغطي القَشعَ بالنضح، وبالرشحِ اليبابا (القشع: ما تفلّق من الطين) وأفض البُرَّةَ العمشاء والطلعَ الجنينا (البُرة: حبة القمح)
فإذا اخضلّت وضلّت تتصابى الضفتين قلتُ: عودي تحت أهدابي وغابي! فتعود الأرض باليهْمور ملءَ الكفتين (اليهمور: اليهمور: الرمل) والحصى والكلس منها في الرَغابِ (الرغاب: الأمكنة الظمأى)
قلتُ: هاتِ الصخرَ..أودى بأغانيها التغنّي أنا تحت الصخر للصخر وفي الصخر أُغني!
مشهد بارع للمارسة الجنسية بين الشاعر وبين الأرض. ولكن لا يخفي الرغبةَ الحقيقية، الخفيّة، للمارسة الجنسية بين الشاعر وبين الموت، بعد أن تجسد الموتُ المجرد في هيئة الأرض بالغة الحسية والملموسية. لأن هذه الأرض هي أرض القبر: تعود إليه، حين يدعوها، بالرمل ملء الكفتين، تهلّ عليه مع الصخر الذي يطلبه لينام تحته. إن ما يؤلب على استنتاج كهذا إشارات في قصائد كثيرة ينعم الشاعرُ فيها بقبر تحت ظلّ كرمة، أو نخلة: "قال: (يُنبيك فمي العرّافُ بالفوز المؤمّل:/ لك تحت الكرم مثوى.."(74) والفوز المؤمل هو الموت المؤمل. وفي مكان آخر: "ولنا، وإن بعُد الطواف، جوارَ نخلته حفير/ سيحوز منا (حفنة) للرمل والنمل الخفير!"(77) في قصيدة "القعر" (189) ينتفع الشاعر من محاورة "فينون" لأفلاطون، يقول فيها سقراط كلاماً يشبّه نفسه فيه بطائر التم، وأن أغنية التم التي ينشدها عند موته ليست حزينة، كما هو شائع، بل مُهللة، مُستبشرة "بفكرة أنها وشيكة الانتقال إلى الله، الذي هي كهِنتُه، ولما كان الناس يُشفقون هم أنفسهم من الموت، تراهم يؤكدون افتراءً أن طيور التم، إنما تُنشد مرثية في ختام حياتها.." ولذلك، حين يغطّ الشيخ (بطل القصيدة) في النوم "..غطته الخيوطُ الناحلة/ هو والأرضَ القَطامَ القاحلة!" (القطام: الراغبة بمزيد من اللحم.) الشاعر الذي يطمئن لصورة الشيخ، الزاهد، السكير، المشرد، ساعٍ إلى الموت أبداً. وله أمنية كل شاعر سبقه في هذه الصورة النضاحة بالحكمة والرضا:
" فأجبتُ: (عفوَ العارفين، وما أنا منهم، ومالي في صحائفهم وصُحبتهم مقالْ أنا في شقوق الحان مُرْتَهنٌ، تجذُّ يدُ الفنا عنّي الطلاءَ، وترتمي بي في الهُوى الجُدُرُ الثِقالْ
فإذا مررتم مرةً، ورأيتموني وكما سيُعلنُ، تحت سدرته تؤرجحني الغصون وتحنّن النفَرُ العُفاةُ فأسلموني للأرض ترفقُ بي، فخُطّوا في الثرى العاري الحنون:
وكفتْ على الروض الغمائمُ في ضُحاه وحنتْ على العود المُعيدِ الغيدُ، وابتدر السُقاة!)
أي اعتذار، واعتراف، وطلب رفيق بهم وبالنفس! بالرغم من أن اعتذاره جاء على أثر دعوة "بني الحانات" في أن يسعى سعيهم إلى الطِلا والغانيات. ولكن الشيخ بلغ منتهاه، ولم تبق لديه إلا أمنية أن "يتحنّنَ النفر العُفاة فيسلموه للأرض ترفُقُ به" تحت ثراها الحنون. أُلفةُ الموت هذه، والرغبة في الانتساب إلى العالم اللامرئي، عالم الموتى والغائبين، هي أهم ما يميز إبداع "الغرائبي". فهو بالضرورة لا يستريح للانتساب إلى عالم الأحياء، بل يجد ملاذاً عنه في المخيلة التي تميل إلى الانتساب لعالم سُفلي، عالم الشوارع الخلفية، عالم فاقدي العقل في الجنون، عالم المتصوفة، والفقراء، ثم عالم الخمارات، والغانيات، والخمر حتى الفقدان. ويجد في الفاعلية الجنسية، وحتى الدعارة منها، مصدر حيوية، كما أشرنا في مقدمة هذه الدراسة. وإذا عزّ ذلك فهو يختلق له عالماً يليق بكابوس. في "كران العود" نلتقي بكل هذا، محمولاً على لغة لا تقل غرائبية. ولكن الكيان الشعري وراءها مدفوع بريح غير عاصفة. ريح عطوف، لا تعرف الكراهية، والانتقام من الأحياء. ريح ترغب بتوليد اللحن الغنائي المطرب، ولكن لا يتأتّى لها ذلك، بفعل عناصر للرؤية لا تنفك تولّد مشاهد، وصوراً تثير العجب، والدهشة، والذعر أيضاً. في قصيدة "مأوى"(76) لا نجد في ملاذ الشاعر، أو خمارته، غير البق، فله "في جنباته هزَج، وللسكرى طنين"، بحيث "تجد القنافذُ مجثماً" فيه، "وفي الظهيرة/ ترعى المنافضَ عينُ مصباح وحيد/ وتطيرُ أغطيةُ الموائد عن أرائكه الكسيرة/ ويغطّ ساقٍ، تحت ظُلّتها، وسكيرٌ شريد". وكذا الضفادع. والشاعر في النهاية لا يغفل أنْ يضيف: "ولنا...جوارَ نخلته حفيرْ/ سيحوز منا حفنةً للرمل والنمل الخفير!". في عام 1941 شنقت الشاعرة الروسية تسفياتيفا نفسها يأساً، بعد عودتها من المهجر. الشاعر حسب، الذي تشكل موسكو ولينينغراد طرفاً حاسماً من ذاكرته الشعرية، ألحق المشهد بجملة عالمه "الغرائبي". كتب قصيدة "مارينا أو أغنية بحر"(46) يفتتحها بالمشهد التالي:
"حبلٌ يشدُّ بجيدها للسقف في القبو الوطيء ويُذيلُ ثوباً للرحيل، تجسُّ هُدبتَه يداي (يُذيل: يجعل له ذيلاً.. فيغدو له كالحبل من الشراع. الهُدبة: خمل الثوب وطُرته.) وعلى الوجوه بظلّها الوجِمِ البطيء (الوجم: الواجم..) يطفو فلا يدري السكارى أو يرى أحدٌ سواي.
ثم صار شبح المرأة القتيلة شنقاً يلاحقه في أكثر من قصيدة ( يتكرر المشهد بتفصيل في قصيدة"خطوة في الضباب" (6)، "الجثة" (12)، "الموعد"(149) من مجموعته المتأخرة "الفراشة والعكاز"( دار جريدة الصباح، بغداد2007.) في قصيدة "رأس شهرزاد"(82) ترد خاتمة بالغة الغرابة لمشهد مقتل شهرزاد التي "احتزّ سيافُ العرائس جيدها في لمحتين". فحين ينقل الطست بين يدي شهريار:
"وتعتّبوا بالطست بين يديه، وانصبّ الضياءْ (تعتبو:وطئوا عتبة الباب) قال: (اكشفو عنه) فأبصر رأسَه تحت الغطاءْ"
كيف يمكن أن تُفهم هذه اللقطة الغرائبية إلا بهدف استثارة غامضة للذعر؟ في قصائد كثيرة يحلو للشاعر أن يواصل هذه الاستثارة مبطنة بدلالة رمزية. رغم أن الهدف الظاهر هو قلب الحياة الواقعية إلى أخرى خيالية، أو شائهة. في"الهُولة"(22) حكاية لقائه بامرأة الغار، التي استغولت بفعل عُزلتها وانقطاعها عن البشر. يُصبح هو أغول منها، ويقتطع رأسها:
"وتأبطتُ أنا الرأس، ولليوم أدور أنا والثور بغولٍ منه، نرحو ونخور."(نرحو: ندير الرحى)
الفارق بين عزلة المرأة التي صيرتها غولاً، وبين عزلة الشاعر الذي أصبح، بسبب عزلته، أغولَ منها، هو ابتلاؤه بتأبط الرأس، ودورته حول رحى الحياة. بدل الرأس يتأبط الشاعرُ في قصيدة "الكُنه"(104) السطرَ الغامض الذي يتركه له الشيخ الحكيم، وقد التقاه في حان يتدثّر النُدل فيه بأنسجة العناكب الكبيرة. أو يتدفّأ ويستضيء في تلهّب عيني البوم المتفتحة."الأيك والغصون".(209) ليس لحسب الشيخ جعفر في قصائد "كران العود" معياراً للمعاني الرمزية، أو معياراً لاستثارة مشاعر أو أفكار. بل القصيدة حرّة في رؤاها، مادامت هذه الرؤى مخمورةً داخل حان، لا تستعين بالسكيرين وحدهم، بل بالمتصوّفة، والممسوسين، وأشباح الموتى، والغانيات، والمسحوقين من فقراء قرى الأهوار داخل ذاكرة الشاعر التي لا تُطفأ. على أن الذاكرة، هنا، انتقائية. من مرحلته الروسية تستهويه، في لقائه العشقي داخل الخمارات، مُخيلةٌ منذرة للجنية تختبئ في الوجار، والعِقبان تُنشبُ أيديها في الرمم (60). وقصيدةُ بوشكين لُفّت بالدم الصادي (106). وهو وصاحبتُه يعلوان ظهرَ سَمّورٍ وفأرٍ للتحليق..(127). والحبل الذي شنق الشاعر يسينين يصبح أربطة عنق في الواجهات، "يزينُ حوذيٌّ بهن خيوله البيض"، ويلتففن به الساحرات..(192). أما من مرحلة طفولته في الأهوار فتنتخبُ ذاكرتُه المخلوقاتِ الانسانيةَ التي يشكل كيانُها الحلقة التي توصل الواقعي بالخيالي، والمعلومَ بالمجهول، مثل بتيّة، المرأة المجنونة التي غالباً ما كانت تجول هائمة على وجهها من قرية إلى أخرى، وقد بُح صوتُها بعد طول هذيان(18)، أو كربيت الخمار الوحيد في العمارة (29)، أو الغولة..الخ أكثر من مادة كامنة وراء هذا القناع المراوغ، قناع "كران البور". وأكثر من مادة ممكنة في قراءتي النقدية، حجّمها ضيق الوقت الذي يفرضه توقيت صدور هذا العدد من "اللحظة الشعرية". ولكن قطيعةَ المحارب الصارمة مع تُرّهات ثقافة المهرجان المحيطة تجعل حسب الشيخ جعفر على مقربة، وفي سكينة تمنحني أكثر من فرصة للقاء.
1 راجع كتاب The crotesques in art and letruter, 1997 eerdmans. 2 قضايا العصر في أدب أبي العلاء المعري، د. عبد القادر زيدان، الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 365 – 367. 3 ثياب الامبراطور، فوزي كريم، دار المدى 2000، ص143. 4 السياب، المجموعة الكاملة، الجزء الأول، دار العودة ص 443 5 مجلة نزوى: http://www.nizwa.com/volume11/p153_158.
|
|
||||||
|