|
|||||||
حصاد المحــرر: الحصاد الموسيقي
كوابيس غويا
كاستيلنوفو ـ تيديسكو1895–1968 موسيقي حديث آخر، ولكن في حقل موسيقى الغيتار، الذي برع فيه الاسبان. ولكن تيديسكو إيطالي، التقى العازف الاسباني سيغوفيا، والمؤلف مانويل دي فاليا عند زيارتهما إيطاليا عام 1932. والتهبت قريحته في التأليف الموسيقي في حقل الكونشيرتو، وموسيقى الغرفة، وحقل الغيتار المنفرد. في الفترة الفاشية هاجر إلى أمريكا، كاليفورنيا. وهناك انشغل بالتأليف الموسيقي للسينما. والعمل الذي أصدرته Naxos، والمستوحى من مجموعة أعمال حفر للفنان غويا(1746-1828)، وضعها في أتون الحرب النابليونية على اسبانيا، يُعتبر أبرع أعماله. 23 لوحة تحيطها بالتأمل 23 مقطوعة موسيقية أكملها تيديسكو عام 1961، تلاحق غموضها، حيناً، وحيناً رمزيتها، وثالثة سخريتها الكاريكاتورية المريرة.
عزلة الكورال
ما الذي يشدني لموسيقى الكورال والحنجرة البشرية؟ مع أن الكورالات الكنسية لاتينية النص في معظمها. وهذا يعني أن النص الذي لا أُحسن فهمه، ومتابعته، لا يُسهم في هذه الجاذبية. لا شك أن الحنجرة البشرية هي عماد الموسيقى مُنذ خُلقت. وما الآلات إلا ضرب من المحاكاة لها. والإنسان بدأ الغناء قبل العزف. وإذا ما سمع أصوات الطير والحيوان فطرب، فإنما سمع حنجرةً، لا آلة مصنوعة. وحين بدأ هذا الإنسان يتأمل في حيرةٍ أسرارَ الكون، والقدرة الجليلة وراء خلقه، وأحس بحاجة إلى التعبير عن هذه الحيرة، كانت تراتيله أولى الأسس للموسيقى الدينية، التي عرفتها شعوب الأرض دون استثناء. أحيان كثيرة أُعرّج على مركز هندي للتسوق قريب من البيت، طمعاً في سماع تراتيل هندوسية لا تختلف عن الأغنية، التي تتناوب بين المغني الفرد والكورس. باستثناء أن التكرار الذي تعتمده يوحي بأن هذه موسيقى مكرّسة. شيء شبيه، ولكن أكثر تعقيداً، سمعته من حلقة منشدين داخل أبهاء جامع القرويين بفاس. أكثر تعقيداً لأن المنشدين فيه بطبقات منفردة، ومتفاوتة التنوع. كلُّ صوت له منحى لحني منفرد. وبذلك تتقاطع الألحانُ بنسيج هارموني غير شائع في الموسيقى العربية. على أن القاعدة المشتركة تظل ثابتة في الإنشاد الكورالي: الغناء الجماعي يسهّل من جهد المنشدين. التراتيل الكنسية في الغرب نالت حظاً أوفر من الحرية في تطورها. كانت هناك بضعة منغصات من بعض البابوات في العصر الوسيط، الذين عارضوا التلوين اللحني، والهارموني في الأداء، أو عارضوا مشاركة الآلات الموسيقية، خشية من الافتتان. ولكن حركة الحضارة كانت أصلب عوداً. ولذلك يملك الميال إلى هذا الضرب الموسيقي ثروةً من هذا الموروث لا تُقاوم. في المرحلة المعاصرة، بدأت المواهب الشابة تحقق التفاتة مؤثرة إلى الخلف، في حقول الفن والأدب، والموسيقى ضمناً. تعاود الخطى، التي كانت ضالة، على الطريق الموصول بالموروث. تمتحن قدراتها من جديد في التعامل مع الإيقاع، اللحن والهارموني. وتستلهم ينابيعها الفياضة أبداً. وموسيقى الحنجرة المنفردة والجماعية في مقدمة ما استلهمت. في الموسيقى الإنكليزية أكثر من بارع في حقل التعبير الديني هذا. ولكن James MacMillan (مواليد1959) أكثرة إثارة اليوم. آخر إصدار له بين يديّ عن دار Naxos عملٌ بعنوان "الكلمات السبع الأخيرة"، التي تُروى عن السيد المسيح. وضع لها هايدن، قبل أكثر من مئتي سنة، عملا كورالياً شهيراً، كثيراً ما يُعيد صياغته الموسيقيون أوركسترالياً، أو على آلات رباعية وترية. ولكن هذا العمل معاصر، فتيّ، ميال إلى تعبير أكثر تعقيداً، وأوسع أفقاً من الحدث التاريخي. إنه صرخة أذى يتعرض لها إنسان هذه الأرض، حيث يكون. تنفرد الوتريات حيناً، وحيناً المنشدون، وثالثة الحنجرة المنفردة، وكأنها جميعاً تحاول إحاطتك أنت بمزيد من الإضاءة. أنت وحدك المعرض للضوء الكاشف. وهذه واحدة من أروع عناصر "حداثة" العمل.
عن دار النشر ذاتها صدر عملٌ من فن "القداس" لأمريكي يدعى "روبيرتو سييرا (مواليد1953). وضعني ثانيةَ مع صوت معاصر، متآخٍ مع الموروث. في مناخ يغلب عليه الإيقاع، الذي يشي بتأثيرات الموسيقى الكاريبية السوداء. موسيقى الجاز، التي تطل راقصة رقصة أسى، عبر صوت الكورس، السوبرانو، والباريتون. وهذا العمل لا يقلّ عن السابق إضاءة لذات المستمع. الأوبرا تعتمد عناصر الحنجرة المنفردة والكورس هي الأخرى. ولكن الحدث الحكائي يجعلها أفقية بالضرورة، حتى لو كانت بعمق أوبرا فاغنر. في حين أن غيابَ الحدث، وغيابَ النص بفعل لاتينيته، يقرب موسيقى الكورال من الموسيقى الصافية، المجردة. يجعلك أكثر حرية في أن تعرّض ذاتك لإضاءتها. بأنك منقطع لهذه الإضاءة الكاشفة. وبأنك والإضاءة في عزلة تامة. هذا يحدث مع الكورال الغريغوري المبكر، مع باخ، هايدن، موتسارت، بيتهوفن. كما يحدث مع المتأخرين من معاصرينا.
مقتطفات كافكا
"مثل ممر في الخريف، ما أن يُكنس بمشقة، حتى يُغطى ثانيةً بالأوراق الجافة." "هناك مخابئ لا محدودة، وخلاصٌ واحدٌ لا غير. ومرة أخرى، هناك من طرق للخلاص بقدر ما هناك من مخابئ." "أحِطْ بمعطفك الطفلَ، أيها الحلم البعيد." "نائمٌ، يقظٌ، نائم، يقظ، حياةٌ بائسة." ""خيّاطة تحت مطر غزير." "ثمة هدف، ولكن ما من طريق إليه. ما نسميه طريقاً ليس إلا تردد." "في الصراع بين ذاتك والعالم، انتصر للعالم." هذه عينة من مقتطفات، انتخبها الموسيقي الروماني Kurtág جيورجي كورتاج (1926-) من يوميات، رسائل، انطباعات لفرانتس كافكا ، ووضع لها الألحان المناسبة لتشكل عملاً موسيقياً متكاملاً، يعتمد الصوت البشري(سوبرانو) بصحبة آلة الفايولين، المقاربة لهذه الطبقة. وعنون العمل بـ "مقتطفات كافكا"، ويتوزع على أربعين أغنية، تمتد لساعة كاملة. العمل ليس يسيراً على الأذن، وعلى النفس، شأن معظم أعمال كورتاج. وهو لم يكن يسيراً عليّ بالتأكيد. ولكني روّضتُ النفس على التعامل مع الجديد باعتباره درساً. ولذلك تابعتُ الأغنيات، التي لا تتجاوز إحداها الدقيقة الواحدة، والتي تبدو لي أحياناً حشرجةَ حنجرةٍ مختنقة، بأناة الدارس. محاولاً مُطابقة جملة كافكا، التي لا تخلو من ابتسار أحياناً هي الأخرى، مع الجملة اللحنية. ولم تبخل علي الألحان في إضاءة العالم الداخلي للموسيقي، وهو يحاول أن ينتفع من كل جملة لكافكا لصالح إضاءة ركن من عالمه الداخلي هو، مُستعيناً بالبيانات الخاطفة. على أني لم أكف عن مساءلة النفس إذا ما كانت المحصلة على قدر الجهد. ولي في هذه المساءلة خزينٌ من قراءاتي الشعرية، والفنية. وعادة ما كنت أجدها كذلك. لأن العمق في الثقافة الغربية عادة ما يرتبط بالجدية. وما من شيء اعتباطي، ومجاني. إن جمل كافكا بدل أن تكون حكائية، تحاول أن تمنحنا ومضات في لحظات فريدة. حتى ليبدو الذي كان لا يستحق التفاتاً واستعادةً مركزَ انتباهنا. وغيرُ المسموع، واللامرئي ملأ علينا السمع والبصر. والغريب أني بدأت أتلمس كلَّ هذا في الجمل اللحنية. لأن التلوين الصوتي، والتشويه الصوتي معاً، إلى جانب الإسهام المشابه لآلة الفايولين، أعطى للعمل مسحة درامية عالية. ولكنها دراما لا تعتمد الحدث الخارجي، بل قوى المشاعر والأفكار الداخلية. والعملُ، إلى جانب أنه دراما، يبدو للمستمع منذ ترداد "لن يحدث بعد اليوم، لن يحدث ثانية…" رحلةً في طريق منفىً، وفقدان كامل لكل شيء عزيز. ولكن على مقربةٍ من النهاية، يترددُ صوتٌ آخر: "ثانيةً، ثانية، المنفيّ بعيداً.." يُصبح المنفى أمل حياة جديدة، والاحتمالات تجذبنا قُدماً باتجاه مستقبلٍ واسعٍ، مجهولٍ، عصيّ على التنبؤ. كان كورتاج يحب مقاربة الموسيقى والشعر، ولقد استعان بالشعر الروسي الذي كان يميل إليه (أخماتوفا، ألكسندر بلوك، وشفيتاييفا)، ثم استجاب للتساؤل الذي وجده مُلحاً، في قصيدة صمويل بيكيت "ما هي الكلمة؟"، ليضع آخر أعماله. إنه، وخاصة في أعماله الأخيرة، كثّف من لغته الموسيقية واختصرها إلى ومضات، محاولة دائمة منه لأن يمسك بالتعقيد الهائل وكذلك البساطة المذهلة للوجود. ولد كورتاج من عائلة هنغارية تُقيم في رومانيا، ثم انتقل إلى بودابست عام 1946، حيث درس في أكاديمية ليست الموسيقية. كانت خمسينيات القرن الماضي شاقةً على موسيقيي هنغاريا، حيث ضُربت عليهم العزلة، بسبب السفر الممنوع، عن التطورات الهائلة في الحياة الموسيقية الغربية. في عام 1993، بعد انهيار الأنظمة الشمولية، ترك كورتاج هنغاريا وقد احتفظ طيلة حياته هناك بعُدة الموسيقي، لا في القدرات بل في الانتساب للنفس الموسيقية التي لم تنحنِ للتيار. ثم أقام في برلين حتى اليوم. في موقع YouTupe الكثير من أعمال العزف الحية لهذا الموسيقي، خاصة عمله "أشباح كورتاج" الموزع على حلقات عدة، لمن يرغب.
تشللو القرن الجديد
كونشيرو التشلو أبلغ عاطفة من فنون الكونشيرتو الأخرى. لأن آلة التشلو ذاتها بالغة النبالة في التعبير العاطفي كذلك. الذين وضعوا أعمالاً من كونشيرتو التشلو معدودون: هايدن، شومان، دفورجاك، ألغار، ديليوس.. في القرن الواحد والعشرين عطاء موسيقي ثري يكاد يكون غير متوقع، في شتى فنون الخلق الموسيقي. في فن كونشيرتو التشلو المتأخر جداً صدر عن دار harmonia mundi الفرنسية CD يحتوي على أعمال طليعية ثلاثة، لفرنسيين يبلغ أصغرهم عمر الخامسة والثلاثين: Bruno Mantovani (مواليد1974)، Philippe Schoeller (1957)، Gilbert Amy (1936). كونشيرتو الأول يمتد 18 دقيقة في حركة واحدة، تذكر بكونشيرتو شومان. الأوركسترا لا تقوم بدور المصاحبة الميلودية للتشلو المنفرد، بل تحاول تفكيك لحنه والاتساع به في أفق أوركسترالي. الثاني يتابع برنامجاً مخططاً مسبقاً. ولكنه برنامج صوتي يعتمد طاقة الأوركسترا، موجات التشلو، الهدأة، والصمت الذي يراه المؤلف مادة في ذاته. طاقة خالصة. الثالث كثير الميل إلى التقنية الصوتية، وإلى الطاقة الإيقاعية. وليس بعيداً عن مؤثرات الموسيقى اليابانية.
هذا الانصراف الجزئي للموسيقى المعاصرة الطليعية، لا يربك الزمن الموسيقي الذي أصرفه مع الموسيقى الكلاسيكية عامة. الموسيقى التي الفتها منذ العصر المبكر حتى العصر الحديث. إن أعمال التشلو مع الأوركسترا هذه (وخاصة الأول منها) تبدو لي تكثيفاً للصياغة التعبيرية الكلاسيكية المعتادة. تكثيف يستحضر الآلة، أو الآلات الموسيقية وراءه بصورة ملموسة. كما يستحضر الصوت، كصوت، بصورة لا تقل ملموسية. تجربة تظل جديدة للأذن التي اعتادت موتسارت، وشوبرت.
|
|
||||||
|