|
|||||||
حسب الشيخ جعفر والحداثة الشعرية
هيثم سرحان
ينطلق الباحث بنعيسى بوحمالة([i]) من حكم نقديّ أوّلي مُفاده أنّ تجربة الشاعر العراقيّ حسب الشيخ جعفر تُعدُّ من أبرز التجارب الشعرية العراقية والعربية لما تتسم به من طموح حداثيّ كبير. فحسب الشيخ جعفر، حسب الباحث، من أبرز جيل الستينات في الشعر العراقيّ المعاصر تمثيلاً وكفاءة. ويرى بوحمالة أنّ شعرية حسب الشيخ جعفر تمتاز بكونها مسكونة بهاجس القطيعة الشعرية وانفصالها عن الثوابت الأدائية لشعرية الريادة وآفاقها الرؤيوية. ذلك ما تبرزه أعماله الشعرية بدءا من "نخلة الله 1969"، ومرورًا بـ"الطائر الخشبيّ 1972"، و"زيارة السيدة السومرية 1974"، و"عبر الحائط .. في المرآة"، ومرورًا بـ"في مثل حنو الزوبعة 1988"، و"جيء بالنبيين والشهداء 1988"، و"أعمدة سمرقند 1989"، و"كران البور 1993" وانتهاء بأعماله النثرية، وترجماته الشعرية. وسوف يقارب بوحمالة أعمال حسب الشيخ جعفر الشعرية الأولى تلك التي تضمها الأعمال الشعرية بالإضافة إلى ديوان "في مثل حنو الزوبعة"، أما الأعمال الموالية فهي لا تنتمي شعريًّا إلى الرؤى الشعرية الأولى المبدوءة بـ"نخلة الله"؛ فديوان "وجيء بالنبيين والشهداء" ينتمي إلى "قصيدة الحرب"، أما ديوان "أعمدة سمرقند" فينتمي، من حيث الشكل الشعريّ، إلى نظام السونيتة الإيقاعيّ، وينتمي، من حيث المضمون الشعريّ، إلى المحكي الحيواني وخاصة أقاصيص الشاعر اليونانيّ إيسوب وكتاب كليلة ودمنة لابن المقفع. وأما ديوان "كران البور" فيطابق في بنائه الشكلي ديوان "أعمدة سمرقند" وإنّ كان يستمد دلالاته من الأرصدة الموضوعية في الدواوين السابقة إلاّ أنّ ما يميز هذا الديوان قيامُه على معجم شعريّ مستمدٍّ من غريب اللغة وشواردها. هكذا يسوّغ بوحمالة انتقائيته النقدية؛ فالنصوص الشعرية المثبتة في الدواوين الخمسة تتعالق شعريًّا وتتواشج رؤيويًّا مما يتيح لها الكشف عن خصوصية تجربة حسب الشيخ جعفر ومن ثمّ مكانة هذه التجربة في صنع هوية شعرية لجيل الستينات تلك الهوية التي برهنت على قطيعتها عن شعرية الروّاد. ورغم المحاذير التي يعيها الباحث فإنّ تجشّم بحث هذه التجربة الواسعة يتيح للدراسة رصد المكوّنات الكلية التي تتضمنها هذه المجموعات التي تتنازعها قصائد ونصوص لا تتوافر على بنيات لغوية وشعرية متطابقة. فإذا كانت القصيدة الواحدة مجالاً نصّيًّا متعدد الوجوه فإنّ الفضاء النصيّ الذي تتوافر عليه الدواوين الخمسة، والذي يربو على ستين قصيدة، أشدّ تعقيدًا. بيد أنّ ما يسوّغ للباحث خياره طموحه الاستقرائيّ الذي يسعى إلى القبض على خصوصية تجربة حسب الشيخ جعفر والقبض على جمالياتها الشعرية. ويستمدّ الباحث بوحمالة عتاده المنهجيّ من بحوث الناقد الأمريكيّ مايكل ريفاتير المعروفة بـ"الدلائليات الشعرية"، وذلك في محاولة منه لإنطاق البنى الشكلية والدلالية والأسلوبية. إنّ "الدّاليّة" هي الهدف الذي تسعى مقاربة بوحمالة إلى رصده وكشفه تمهيدًا لتعيين بذور التجربة الرؤيوية الشعرية المتشكلة نتيجة تفاعل بنيتين متعالقتين: فاعلية الشعريّ في الأسطوريّ، وفاعلية الأسطوريّ في الأسطوريّ. وحسب الباحث بوحمالة فإنّ تجربة جيل الستينات، استنادًا إلى تجربة حسب الشيخ جعفر، تمتاز بقطيعتها الرؤيوية إذ استطاعت أنْ تخلق رؤى شعرية تتمثل في ثلاثة أنساق هي: الرؤية البروميثيوسية، والرؤية النرسيسية، والرؤية الأورفية (نسبة إلى أسطوة أورفيوس) بلاد من الرؤية الدموزية "التموزية" التي وسمت تجربة الريادة. إنّ الشاعر حسب الشيخ جعفر من أكثر شعراء جيل الستينات (العراقيّ والعربيّ) استثمارًا للخيال الأسطوريّ الحداثيّ. ولعل اتكاء حسب على الرؤية الأورفية يعدُّ مشروعًا شعريًّا لتقويض الأسطورة الدموزية وتجاوزها لتعيين لحظة جديدة ومفارقة في مسيرة الشعر العربيّ المعاصر. وإذا كانت الرؤية الدموزية تحيل على الخلق، والولادة، والانبعاث، والاستبشار، والإمكان فإنّ الرؤية الأورفية ترتبط باليأس، والقنوط، والاستحالة، والموت. ولا يعني ذلك أنّ حسب الشيخ جعفر يستبدل بالأسطورة السومرية أسطورة إغريقية بل إنّ هذه الاستراتيجية الرؤيوية تهدف إلى تجاوز الرؤية السومرية وإشباعها معالجة وكشفا وتوكيدًا لمأساة الإنسان واغترابه ومحنته. [i] بنعيسى بوحمالة، أيتام سومر في شعرية حسب الشيخ جعفر، جزآن، ط1، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2009.
|
|
||||||
|