|
|||||||
لغة الأحلام: حسب الشيخ جعفر وسُلالة الحالمين
حسن ناظم
حالماً بشيء مجهول، ساهماً أيضاً، يجلس حسب الشيخ جعفر في المقهى أو الحانة سيّان. يتكلم إلى الداخل، ويشحّ في الكلام إلى الخارج، أو لا يتكلّم، وإنْ همّ بالكلام أو تكلّمَ، تضيع كلماتُه في خفوت صوته القدريّ. لكنه متدفق وغزير في كتابة ’أشواقه‘ و’أحلامه‘ الشاعرة، تلك الأشواق التي هي أشواقُنا، والأحلام التي هي أحلامُنا، يَنطقُها حسب ويستنطقُها فتفيض بين يديه فوّارةً بما يعتمل في نفس كلّ مشتاق وحالم، وهكذا تمتدّ مع قصيدة حسب الأحلام والأشواق إلى عالم وزمن بعيدين، توقفا عند البواكير، عند البدايات، عند عتبات الاستكشاف المدافة بالأحلام والخبرات الطفولية. شعر حسب يتركز في استعادة هذه البدايات، في العودة إليها، والسكن فيها، ولذا يمطّ لغته "تدويراً"، لنواصل التصويت معه حتى نبلغ البواكير، وعتبات العيش تلك، فالرحلة إليها حلمية، وما في الأحلام من فواصل أو استراحات، إنها كقصيدة حسب نهر لا ينقطع وبلا سدود، بلا وقفات، فواصل، نقاط، والأَوْلى أن تُكتَب قصيدته بلا علامات ترقيم. فالصوت الممتد، الذي لا يكلّ، يدور بنا، وفي دورته نغرق، ونواصل الغرق حتى تتراءى النشأة الأولى بروائحها، وألوانها، حتى تتحقق العودة حلماً عبر قصيدة "مدوّرة" تطوّح بالقارئ في زمن الأوهام المحبّبة، وتأخذ بيده إلى زمن أثير، ليس بعده سوى اليُتْم والتيه والحزن. بهذا وحده أنجز حسب الشيخ جعفر معجزة العودة الموهومة بالزمن عبر الكلمات، وتلك هي مأثرته الشعرية. ليس التدوير بعداً إيقاعياً فقط، وإن كان اكتشافاً إيقاعياً عبقرياً داخل تقليد شعري عادةً ما يصمد الإيقاعُ فيه أمام محاولات حلحلته، التدوير تساوق دلالي بين مسعى الشاعر إلى تأسيس زمن شعري يعود به إلى البدايات لغةً وحياةً وتثبيت صورة حلمية عبر إيقاع الكلمات، وسأباشر معالجة هذا البعد الأساسي في شعرية حسب الشيخ جعفر فيما يلي من سطور. أعتقد أن الإنجاز الأهمّ للشاعر حسب الشيخ جعفر يتركّز في "الأعمال الشعرية 1964-1975" المنشورة ببغداد في العام 1985. وليست تلك "الأعمال الشعرية" سوى أربع مجموعات شعرية نالت من السمعة ما تستحقّ، وهي: "نخلة الله" المكتوبة بين الأعوام 1965-1967، و"الطائر الخشبي" التي احتوت قصائدَ كُتبت بين 1964-1970، و"زيارة السيّدة السومرية" التي كُتبت في الأعوام 1971-1973، وأخيراً مجموعة "عبر الحائط في المرآة" التي كُتبت خلال العامين 1974-1975. هذه المجموعات الأربع هي الانتصار الشعري لحسب الشيخ جعفر الذي لا يُنكَر، إنها الفورة التي لم تهدأ بعدُ، لأنها ظلّت ماثلةً تلازم روح كلّ قارئ استوحد معها ذات يوم. ظلّ حسب، وما زال، والسنون تحدو ركابَه، "يغوص في التوحّد" و"يبحث في التشرّد" عن روحه وسكينته، وسط حيرة عمياء، يبحث عن كنز مفقود. لقد أجملَ لنا ذلك في قصيدة "الكنز" (الأعمال الشعرية، ص157) وأجمل لنا النهاية بالفشل في الوصول إلى كنزه، رغم تضرّعه إلى قوى غيبيّة أن تأخذ بيده إلى ذلك الكنز الذي يقيه الضياع، ويبدّد يُتْمَ وجهه، ويمحو عنه علاماتِ الهجران والخذلان: "أغوص في توحّدي، أبحث في تشرّدي، عن نخلة ومسجد قديم، يأوي إليه مثلما العصفور وجهي الضائع اليتيم...". كتب حسب ذلك في موسكو، بين عاميْ 1964-1965، وسيظلّ متوحداً لعقود قادمة. لكن الفشل في العثور على الكنز تمّ تعويضه بالعثور على لغة تُكسبُ الأوهامَ واقعاً، وتنسج لها ثوبَ الحقيقة، الحقيقة الشعرية المبطّنة بأسرار هي آخر ما يكشفه الشاعر لينعمَ بشيء من طمأنينة مؤقتة. في حوارية متخيّلة عنوانها "عزلة"، يكتب حسب: - لماذا قصائدُ العزلة الطيبة ورباعياتها؟ - أنا وحيد وبعيد عن الآخرين. - أتريد أن تقول إنك رهين محبسٍ آخر؟ كان شاعر المعرّة رهين محبسين.. فأيّ محبس اتخذت؟ - أنا لم ألجأ إلي كهفٍ أو أربعة جدران مقفلة.. بل ألجأتني إلى عزلتي أسباب أخرى .. غير أسباب أبي العلاء.. لقد رحل الأصدقاءُ المرحون.. ولم يبق، في المدينة من معارفي إلا من هم منعزلون مثلي. - فلماذا لا تخرج إلى الناس؟ - لا جسر بيني وبينهم غير ما ينُشرُ لي هنا أو هناك. - ما هذا بعذرٍ يُقبل من مثلك. - إسمعني يا صاحبي جيداً.. قبل أن تغلق التلفون احتجاجاً.. الشمسُ توشك أن تغرب الآن، وأنا أراها، عبر النافذة، قبل أن تتواري وراء المرتفعات.. الهواء معتدل.. وأنا أكتب.. وهي ساعة خروجي إلى نفسي، طوال النهار وأنا أحاول الخروج إليها دونما طائل، وتريدُ مني الخروجَ إلى الآخرين؟[i] تحتفظ أشعار حسب الشيخ جعفر بموقف لا مراء فيه من الحاجة الماسّة إلى تجربة الحياة في الشعر، لكن عناصر هذه التجربة وهي تتحول إلى شعر يكتبه الشاعر حسب، تتّحد آناً وتفترق آناً بحيث تخلّف وراءها شعوراً غائماً، وغريباً، ومحبّباً، يدعو إلى الاستزادة التي لا تُشبِعُ أبداً، فشعر حسب لا يبلّغك ’النهايات‘ بالمطلق، لأنه ’يَشْرَعُ‘، وشروعُه دائم، ليبقى مراوحاً عند تخوم ’البدايات‘. أما القارئ فيواصل اللهث مستزيداً، محاولاً بلوغ الأَرَب حيث لا أَرَبَ يمكن بلوغُه، ولا غليل يمكن إرواؤه. فشعر حسب، دلالةً وإيقاعاً، لا يبلّغ النهايات، ولا إيقاعه يُوقفك على مرتكز، إنه التدوير، التساوق دلالي، الذي يبدأ ولا ينتهي، ومعه تشرع نوازع اللاوعي بارتياد الأفق ولا تبلغ منتهاه. والشاعر حسب الشيخ جعفر، مكتشف هذا التساوق الدلالي بامتياز، مهما قيل عن إرهاصات سابقة لدى هذا الشاعر أو ذاك (يوسف الخال في البئر المهجورة مثلاً)، لم يصل إلى اكتشافه هذا عبر تعمّقه في معرفة إيقاع الشعر وتلهّفه إلى خلق إيقاعه الخاص، هكذا يبدو الأمر لي، بل هذا الإيقاع التدويري جاء استجابةً لتلك النوازع اللاواعية في ذاته في واحد من أبعاده، ذاك التلهّف إلى العودة إلى زمن الأحلام، هي التي حدت به إلى خلق وعاء زمني قادر على استيعابها والتعبير عنها. وقد حدث أن كان هذا الوعاء الزمني مدوّراً، زمن راكض حتى انقطاع النَّفَس. ليس ثمة الكثير من كلام حسب على الشعر أو على تجربته، مع ذلك، قال مرة في حوار لمجلّة: "الانطلاق من التجربة الشخصية أساس الشعر العظيم، ولكن يجب أن يحاذيه خلق لمفردات ورؤى جديدة، تستطيع أن تقرب الأحاسيس وترقى بمحتوياتها".[ii] ولتأكيد هذه النقطة الجوهرية، لابدّ من إعادة القول إن كلّ شيء في تجربة حسب يخضع لمبدأ الإخلاص للتجربة الذاتية. فهناك، بين السطور، تشعُّ خبراتُ الشاعر، أطيافه، وأشواقُه، بحثُه في الشعر عن مخرج من ورطة انفلات الزمن، وهرب أشيائه، ذكرياته، موئله الأول، أوائل كلّ شيء له مساس بشخصه وشخصيته، مثل الحبّ الأول، البيت الأول، القبلة الأولى، والروائح الأولى، الطبيعة الأولى، ومعها ارتيادها الأول، والاستكشاف الأول لدروب الفطرة وهي تحتضن المحسوس والملموس من الأشياء والمشاعر.
الاحتفاء بالمحسوس يتيح التدويرُ خلقَ تكرار غير مألوف في الشعر، تكرار لهواجس وأفكار تعاود الظهور في كلّ سطر وجملة. فهي تتخلّق وتأخذ صورة تحافظ على ملامحها رغم تغيّر الفضاء الذي تتشكّل فيه، إنه من النظام في الفوضى، أو العكس. ومثل مَنْ تطوّح به نشوةُ الخمر، وتدبّ إلى "موضع أسراره" حيث لا سبيل إلى وقفها ـ بخلاف ما يرتئيه أبو نواس؛ أحد أساتذة الشاعر الذين يقرّ لهم بالفضل، وصار سَميّاً له في الوسط الثقافي العراقي ـ تطوّح نشوة التدوير بالقارئ، وتخلق فيه، فضلاً عن المتعة، صورة مترائية، غير مكتملة، وهمية، محبّبة تقوده إلى الأماكن السّرّيّة من عالمه الماضي، وتُطلعه على الأسرار التي غادرها ولا سبيل إلى العودة إليها إلا بالعيش في ذلك الوعاء الزمني الخاص، زمن الأحلام، المتأسس إيقاعياً هذه المرة على أساس تدوير القصيدة. يستبطن تتابع القراءة تدويراً، بلا فواصل، ومدّ الصوت إلى حيث لا منتهى، خلق أفكار متشابكة وغامضة تخيّم على فضاء القول برمته، وتستبقي القارئ داخل هذا الفضاء دافعةً إياه إلى التقدّم في القراءة مهما كان الثمن، فهي لا تتيح التروّي أو التأنّي، إذ ما أن تنتهي صورة ما حتى تبدأ أخرى بالتخلّق لتخطف ناظريك إليها، وحين تصبح على وشك الاكتمال تسيح على لاحقتها التي تبدو أمام القارئ كانبعاث من سابقتها، وهكذا دواليك، لننظر في هذا المقطع من "الرباعية الأولى": ... إلهي لو أعودُ، أعودُ طفلاً في رذاذ الريح يخفقُ ثوبيَ البالي، معاً نعدو وراء التلّ طعمُ الخبزِ والرَّشّاد في شفتيّ .. طعمُ القُبلةِ الأولى، البروقُ الخضرُ تخطفُني، أقصُّ عليك شيئاً من كنوز الجنّ؟ يُحرقني شحوبٌ في يديك أتفهمين؟ الماءُ والسّفنُ الثقيلةُ والنخيلُ الماء يجري، الفجرُ كان مدثّراً بالسّحب كان شممتُ عشباً يابساً وندىً يشعّ، شممتُ عشّاً دافئاً في الفجر، أنكرَني دخانُ الروثِ والكرَبِ المبلّل، أنكرتني النارُ والطينُ القديم بحثت عن ثوبي الممزّقِ وارتعاشة هيكلي المهزول تنبحُني كلابُ طفولتي البيضاء .. (أزرقَ كان وجهُك في زجاج الريح، مرتجفاً أراك، يداك تلتقطان ريشَ البطّة المذبوحة البيضاء، أسمع كالصدى الخابي عويلَك واصطفاقَ الريح والسعف، الشتاء يحطّ قربك لقلقاً ويفرّ، بيتٌ من حجار ضمّنا بيتٌ وراء النخلِ نبنيه ويهدمه اللصوصُ، النارُ تسهرُ فوق وجهك .. لعبة الصبر القديمة في يديّ تحطّمت، وجهي على لهب المرايا وردة تبتلّ حين أراك تبكي، البطة البرية البيضاء، من يدري، أتخفقُ في ضباب عيونِك الساهي القديم؟ تلمُّ عن شعري بقايا القشّ حين نعود نحجل..) أنكرتني الريح، ... من الصعب مقاومةُ مثل هذا التدفق الساحر، وكنتُ أودّ لو أثبّت نصّ هذه ’الرباعية الأولى‘ (1970) كاملاً أمام القارئ، وأنا بالكاد أستطيع التوقف عند هذا الحدّ. فهنا مثال على التتابع اللانهائي، على التدوير إيقاعاً ودلالاتٍ بصور تتناسل إلى غير نهاية مراوحةً بين زمنين: زمن الأحلام القديم؛ الزمن الذهبيّ الذي يسكُنُ كلَّ إنسان في هذا العالم، والزمن الكابي (الحاضر) الذي يفشل في الاستعادة حالما تتنكّر له وتُنكره محسوسات زمن الذهب كـ"دخان الروث، والكرب المبلّل، والنار والطين القديم، والثوب الممزّق..."، وهي مفردات تهيمن على شعر حسب، في هذا النكران وهذا البحث فشل باتّ في العودة بالزمن ونجاح باهر في صياغة الحنين. والمفصل بين الزمنين مفصل وهميّ أيضاً فهو أيضاً يُبقينا سابحين في الفضاء نفسه، فكرة تولّد فكرة، وهاجس يخلق هاجساً، والوشيجة مؤكدة بينهما، وشيجة الوفاء للمحسوس والملموس من الأشياء الماضية وهي تُتّخذُ ملاذاً من غربة الروح وسط أشياء الحاضر. قد يُغلقُ التدوير النصّ على نهاية ما، لكنه سرعان ما يفتحها على بداية ما. شيء يُشبه اندياح الأمواج صعوداً ونزولاً، مثل أن تطير العصافير في مستهلّ النصّ وتسقط في نهايتها، ليكون الطيران بدء القصيدة والسقوط خاتمتها. بالأحرى، ينسجم الشاعر مع إيقاع قصيدته المدوّرة، فلا يقول مثلاً "تطير العصافير"، هل يذكّر هذا بـ"تطير الحمامات"؟، كإنذار بفتح النصّ على أفق معيّن، بل يقول: تدور العصافير في آخر الليل في البار، يهبط أخضرَ أسودَ في وجهه النار والعشب ... وهكذا حتى يعلن قتل العصافير بالبار نفسه، في آخر القصيدة والليل: العصافير في آخر الليل في البار تُقتَل.[iii] هذا النمط من الفهم للتدوير يبتعد عن جذره الإيقاعي المحض؛ لماذا؟ لأن التدوير هنا، بحسب فهمي، تدريب على التأقلم مع الألم، تدريب على الحياة بقلب مُعْتَصَر، وتمرّن على الزوال؛ زوال كلّ شيء. لن يعود أيّ شيء، ومادامت الأشياء تتفلّت من بين أيدينا إلى حيث نهاية لا عودةَ منها، فلابدّ من مواجهة ذلك الخُسران بخلق بداية لا نهاية لها. وكأن ’منطق الشعر‘ يتحوّل في التدوير إلى حكمة تقول إن الكائن يتخطى عتبة الزوال الحتمي بالسّكَن في البداية، وبالبقاء فيها دائراً من أجل مقاومة النهاية. وتدوير قصيدة حسب الشيخ جعفر تكفّل بهذه المهمة، لأنها لا تبلُغُ، ولا تبلِّغُ القارئَ، غايةً ما. إذ كان لا بدّ من خلق فَلَكٍ لدوران الأشياء الأبديّ، ومستودعٍ لتأبيد خزنها، والاحتفاظ بها مراوحةً بين الذاكرة والنصّ. في الذاكرة تكون مصدرَ وجع، وفي النصّ تتحوّل إلى ضرب من ضروب التأقلم مع الفقدان. لقد شعر حسب، إذا شئنا الحديث عن بُعدٍ شديد الذاتية في التدوير، أنه بحاجة إلى مساحة يسعى فيها إلى تصوير انعفالاته العنيفة، وترويضها في آن، والتدوير كفيل بامتصاص هذه الانفعالات، مثل ثور يدوّر ناعوراً فتخرخش أجراسُه، ويحتكُّ معدنُه بخشبه، وحين تخور قواه، يجد نفسه منهكاً من البدء أبداً. أصبح التدوير هنا ضالّةَ كلِّ منسحقٍ حتى الأعماق، كان ضالّة الشاعر حسب الشيخ جعفر، مكتشفِها، وضالّة قارئه، المتنعّم بهذا العقار المبهج، إنه يجعله أكثر حريّةً بعد التخلّص من ضغط النوازع، هذا التدفق الطاغي يمارس دور محرّر للقارئ، بعد لأْيٍ، من انفعالات مماثلة أو غير مماثلة قاساها الشاعر: ... على البحر تُلقي بزائرها في القرارة من كلّ فجر، لقد كنتُ آخرَ أسرى القبائل، طوّقتُها دون أن أدخل الكهف، لمّا تزلْ تأخذ الزينة الملكية، لمّا أزلْ واقفاً قرب أفخاذها، البارُ ملآن كالعادة، القيءُ في أَوْجِهِ، قلْ لراقصةِ البار هل ترتضي القرويّ عشيقاً لخمسِ دقائقَ؟ يطفو على الحائط الرطب جوربُه الرثّ راية عصرٍ يعلّق في واجهات مخازنه الحجرَ القمريّ، انتظرنا على السُّلّم امرأة قبلنا اصطحبوها إلى الشّقة، النار في الغابة، السرْو يحنو على مرمر امرأة في الضواحي، المحطّة ملتفّة بالصنوبر، في آخر الليل تأوي إلى عشّي الحجريّ الكلابُ الهزيلة، يأوي ابن آوى الهزيلُ، الفنادق أقفلت الآن أبوابَها، الخدمُ الأمراءُ المهازيل في نومهم يرقصون، اخترقنا بغُبرتنا جاذبية أطمارنا وانحدرنا إلى مطعم مثقلٍ بالثريات، طعم النبيذ الفرنسي في شعرها أيها اللقلقُ: الروثُ والكربُ الرطب في النار، تأتي الصبايا النحيفات: (في السيسبان القديم ابتنينا منازلنا الحجرية، عبر السهوب انتشرنا نلمّ لنيراننا الروثَ، يطفو بجنّيّة الهور قاربها الذهبيّ ...[iv] هذه الوحدة الدائرية تقي الكائن من التبعثر، ألمْ يُسَمِّ الشاعرُ حسب إحدى قصائده بـ"إطار الصورة المتناثرة"؟، بلى، وقد حكى فيها عن تبعثره وتجمّعه. إطار الصورة هو دورة القصيدة، والتناثر تناثر الشاعر فيها. ألمْ يكررِ الشاعرُ القولَ "أتجمّعُ"؟، بلى، في بار مثلاً كما في القصيدة نفسها[v] حين نجح في لمّ ذاته: "أتجمّعُ في بار". لكنه أيضاً فشل في لمّ ذاته في نصٍّ آخرَ، حين أعلن: (... إنني الآن أبحث عن غرفة فالمحطات مكتظّة لم أجد مقعداً واحداً أتجمّع فيه إلى الفجر ..)[vi] عنوان هذا النصّ تحديداً كان "في الحانة الدائرية"، وهو يبدأ بكلمة ذات مرجعية دائرية: "أكوّر شيئاً من الطين ..."، كلّ شيء دائري في هذا النصّ، وفيه من التبعثر، والتكسّر، والانتشار، والانهدام ما يُنبئ عن الفشل المنوّه به قبل قليل: أكوّر شيئاً من الطين، أكسره كلَّ يوم أحاول أن أجد الألقَ البِكْرَ، منتشراً في الزمان، القرى تتبعثر في الشمس والقشّ، أيتها الوردة انفتحي في الغبار القديم، القرى تتبعثر في الظلّ، ينهدم الجرف بالنخل، يطفو النواح الجنوبيّ في صالة البار، موج من الطين يخفق في ثوبي، الطير في العشّ منذ انحنى الطفل، مرتعشاً، يتجرع شيئاً من الألم الفذّ في البار، أيتها الوردة انفتحي في الغبار القديم، المدينة تبتلّ، ...[vii] وفي آخر النصّ، في اكتمال دورته، يعود التبعثر أيضاً، والانتشار والانهدام والتآكل: انتشري في الزمان، القرى تتبعثر في الشمس والقشّ، ينطرح الظلّ، أهبط سُلّمي المتآكل، ينهدم الجرفُ بالنخل، أيتها الوردة انفتحي في الغبار القديم ...[viii] هذا الوضع هو ما يفتتح، أيضاً، نصّ "الرباعية الثانية" (بغداد 1970) حين يصبح الضياع وجهاً مبعثرَ الخيوط، هو وجه الشاعر، الضائع، الذاوي مثل "أوراق خسّ": ألمّ الغبارَ القديم، ألمّ الصدى عن تصاويرِ وجهي، الليالي هوادجُ فارغة والجواري لهنّ الأراجيح والظلّ، ينظرن لي باشتهاء ويغزلن وجهي خيوطاً تبعثرها الريحُ، تلقي بها في مقاهي الدخان وحاناته، كلَّ فجرٍ بعينيّ هاتين أبصرُ وجهي قشوراً وأوراق خسّ يلمّونها عن موائد بار، ويلقى بها في البراميل، وجهي الجرائد تكنسُ، وجهي اصطفتْه المليكةُ، أدلستُها، ذات قرن بحِجْري، وحدّثتُها عن أبي والشقوق التي خلّفتْها المناجلُ في راحتيْه ...[ix] على الرغم من ذلك، لم يكدَّ الشاعر في اكتشاف هذا الكنز، لا لأنه بحث عميقاً في أزمة إيقاع الشعر العربي منذ شعر الجاهلية، ولا لأنه استهلك منه العمرَ، وأخذ منه الضنى كلَّ مأخذ، بل لأنه كان حاجة ملحّة لكلا مسيرتيّ الشعر والحياة، فقد عثر عليه الشاعر في البواكير، في الأحد عشر عاماً تلك، 1964-1975، أعوام المجموعات الأربع ’المجيدة‘. فبواكير حسب الشيخ جعفر هي الخواتيم في رأيي، وليس في هذا نعي لشاعرية الشاعر، بقدر ما هو أولوية نقدية بحتة، البواكير هي الخواتيم عند حسب، لأنه حينذاك كان يواصل بتكثيف عالٍ مهمّةَ استلام ’الشعر‘ الذي يهزّ أركانَ الكائن وعملَه ورؤيتَه ورؤياه بدفق عجيب، متتابع، بلا انقطاع، مدوّر، حيث لا قدرة للشاعر على قول ’ما أنا بشاعر‘ ويعجز القارئ عن القول ’ما أنا بقارئ‘، ولأنه أيضاً، وهذا أساس، كان يتسلّم "أمانة السيّاب" التي استودع فيها عبقرية النسل والسُّلالة الشعريين بالعراق. وكان عليه أن يحفظ استمراريةَ هذه السُّلالة وجعلَ ديمومتها أمراً ممكناً. كان حسب الشيخ جعفر مأخوذاً بجملة من الحالمين[x]؛ ثُلّة من الأولين؛ خمسة شعراء عظام: امرئ القيس، وأبي نواس، وأبي تمام، والمتنبي، والمعري، واختزل الزمان ليجعل سادسهم محمد مهدي الجواهري، وأردف إنه شيخ شعراء العربية في القرن العشرين، وقليل من الآخرين: السيّاب على رأسهم، لا لأنه وصفه بأنه "شاعر عبقري"، ولا لأن حسب شخّص موضع عبقرية السيّاب بالقدرة على اكتشاف "السر القابع في أعماق الوحشة الأرضية الهائلة"، بل لأنه شعر بأن دينَه للسيّاب أبديّ، لا يُرَدّ، وأنه مختوم وموشوم بروحه التي تكتبُ نفسَها في كلّ شعر أصيل. هناك أيضاً جبران، عبقري آخر رفعه إلى مصاف حافظ شيرازي وطاغور، وهناك نازك الملائكة. نازك هي "المعلمة الأولى" و "أخت الروح"، كتب حسب يقول عنها بإجلال بادٍ. وبتبجيل كبير أشار لعميد الأدب العربي طه حسين، وتوفيق الحكيم رائد المسرح العربي، وصلاح عبد الصبور رائد المسرح الشعري الحديث، الذي طمح مثله إلى القبض على "حفنة الصفاء الأزرق".[xi] ليس هذا حَسْبُ، فقبل ذلك كلّه، ثمة ما يسميه "ثلاثة أعمدة شامخة: القرآن الكريم ونهج البلاغة وديوان المتنبي".[xii] فأسلاف حَسَب الذين سعى لاكتشافهم منقوشون في نصوصه الشعرية أيضاً، قبل أن يكتبهم في مقالة عابرة. إنهم موجودون في بحثه الشعري، فقد وضعهم صُوىً في دربه الممتد إلى الأعماق المظلمة، وضعهم قبساتٍ شعريةً تهديه إلى أقوم الطرق الشعرية الباحثة في عالم الداخل الغنيّ، البِكْر، الذي لا تُستنفَد كوامنُه. في هذه القبسات الوفيرة، يقف أبو نواس، وأبو العلاء المعري، وجلال الدين الرومي، ورابعة العدوية، وريلكه، وهولدرلن، ودستويفسكي، وأوفيد، ونيتشه، ودانتي، وغوته، وسترندبيرغ، وألكسندر بلوك. لقد حبّذ حسب، مرةً، تقسيم الشعر إلى سلالتيّن: السلالة الأبولونيّة والسلالة الباخوسيّة. وقال إن "الأبلونيه تعني الإشراق والوضوح في طرح التجربة بينما تعني الباخوسية الغموض والتشابك والفوضى. فعندما ننظر مثلاً إلى الشعر العراقي ونقسمه حسب هذين التقسيمين، نقف في الأبلونيّ أمام قصائد سعدي يوسف لأنها تجربة صافية ومنسجمة وذات أبعاد واضحة، ونقف في الباخوسيّ أمام تجربة السياب والبياتي، لما تكتنفه قصائدهما من تأمل وشرود وتحليق واجتياز آفاق غير واضحة المعالم".[xiii] فهل انتمى حسب منذ البدء إلى السلالة الباخوسية، سلالة الغموض والتشابك والفوضى، سلالة السيّاب؟ يُنصتُ حسب الشيخ جعفر إلى هذه السُّلالة الفذّة من الشعراء المتناسلين، ويحاول أن يقبض على السرّ، السرّ الذي ينضمّ به إلى السُّلالة الفذّة، وأن يكون مقبولاً ومعتَرفاً به منها، إنه يعرف أين يكمنُ السرُّ، ولكن الوصولَ إليه يقتضي منه رحلةً إلى الأعماق، أعماقِه هو، حيث يجوب العالمَ عارياً إلاّ من اللغة، والسُّلالة الفذّة من خلفه، تحاصره بقدر ما تعينُه على الرحلة، وتنفيه بمقدار ما تحتضنُه وتشجّعُه على الاقتراب، بينما هو يكافح من أجل العثور على شفرته الوراثية المنقوشة في ذاته ولغته معاً. في رأيي، احتاج حسب الشيخ جعفر أحد عشر عاماً (1964-1975) من البحث الشعري ليفكّ أسرار شفرته الوراثية، وليقدم إلى السُّلالة الفذّة شهادة ميلاده الجديدة التي تؤكد انحدارَه منها. أحد عشر عاماً ابتكر فيها أسلافاً وانضمّ إليهم، فالشعراء "يبتكرون أسلافهم" كما قال بورخس. قام حسب بأربع رحلات مضنية من أجل هذه المهمة، بدءاً من العام 1964 حتى العام 1975، وأنجز المهمّة ـ الوعد حين وافانا بـ"نخلة الله"، و"الطائر الخشبي"، و"زيارة السيدة السومرية"، و"عبر الحائط ... في المرآة"، أعظم أعماله الشعرية.
[i] حسب الشيخ جعفر، محاولةٌ أخرى في (الكتابة) - هل يبحث الشاعر عن الهدوء أم العاصفة؟ جريدة الزمان، العدد 1407 التاريخ 17-1-2003: http://www.azzaman.com/azzaman/ftp/articles/2003/01/01-17/699.htm [ii] حوار مع الشاعر حسب الشيخ جعفر في العدد 11 من مجلة (نزوى): [iii] حسب الشيخ جعفر، الأعمال الشعرية 1964-1975، ص280-284. [iv] المصدر نفسه، ص239-241. [v] المصدر نفسه، ص307. [vi] المصدر نفسه، ص322-323. [vii] المصدر نفسه، ص319-320. [viii] المصدر نفسه، ص325. [ix] المصدر نفسه، ص234-335. [x] انظر: حسب الشيخ جعفر، ذاكرة إبداعية، مقال في جريدة الزمان، العدد 1713، 19-1-2004. http://www.azzaman.com/azzaman/ftp/articles/2004/01/01-18/699.htm [xi] حوار مع الشاعر حسب الشيخ جعفر في العدد 11 من مجلة (نزوى): [xii] المصدر نفسه. [xiii] المصدر نفسه.
|
|
||||||
|