صحيفة الثورة ، صنعاء
فوزي كريم في
تهافت الستينيين:
رحلة مع أهواء المثقف ومخاطر الفعل السياسي |
2006-04-01 -
إبراهيم الحاج |
يقيم الشاعر والناقد والمترجم العراقي فوزي كريم منذ نهاية
السبعينات في العاصمة البريطانية لندن متفرغاً للقراءة
والكتابة، وأصدر مجموعة من الدواوين الشعرية والنصوص
النثرية وبعض الدراسات، فضلا عن مقالاته ومساهماته في
الصحف والدوريات العربية. من دواوينه الشعرية:
«حيث تبدأ الأشياء»، «أرفع يدي احتجاجا»، «جنون من حجر»،
«عثرات الطائر»، «مكائد آدم»، «قارات الأوبئة»، «السنوات
اللقيطة»، «آخر الغجر»، وغيرها. ومن أهم كتبه في مجال
النقد والدراسة: «من الغربة حتى وعي الغربة»، «مدينة
النحاس»، «ثياب الإمبراطور:الشعر ومرايا الحداثة الخادعة»،
«الفضائل الموسيقية»، «العودة إلى كاردينيا»، وغيرها، كما
أنجز بعض الترجمات من أبرزها ترجمة قصائد مختارة للشاعر
سلفاتور كواسيمودو.
«تهافت الستينيين: أهواء المثقف ومخاطر الفعل السياسي»، هو
كتاب جديد صدر له، مؤخرا، عن دار المدى (دمشق ـ 2006م)،
ورغم أن العنوان يشير إلى أن الحديث سيتناول مثقفي
الستينات في العراق، والآمال اليوتوبية التي كانت تكبر في
دواخلهم، والسمات الرئيسية لتلك المرحلة المهمة في تاريخ
العراق، غير أن الباحث لا يتقيد بهذا العنوان،
ففي الوقت الذي يناقش فيه موضوعه الرئيسي ببعض الإسهاب
والتحليل، فانه يذهب إلى ابعد من ذلك إذ يناقش قضايا
ثقافية وفكرية أثيرت في العراق والعالم العربي، فيتوقف
مطولا لدى مفهوم قصيدة النثر، والعوامل التي أدت إلى
انتشارها، ويناقش تاريخية مصطلح «قصيدة النثر»، وأهم
روادها في العالم العربي،
ويتحدث عن المفكر الفرنسي جوليان بيندا، وعن الناقد الأدبي
الأمريكي المعروف هارولد بلوم، وينتقد، في رد متأخر، دعوة
الناقد السعودي عبد الله الغذامي إلى «النقد الثقافي» بدلا
من «النقد الأدبي»، وتتمثل وجهة نظر الغذامي في أن النقد
الأدبي (العربي) أدى دوره في الكشف عن جمالية النص كفاية،
حتى «أوقع نفسه وأوقعنا في حالة من العمى الثقافي التام عن
العيوب النسقية المختبئة من تحت عيوب الجمالي»،
وإذ يرد كريم بأن هذه الصيغة اليقينية مملاة على الغذامي
من الكتب النقدية الغربية، فانه يضيف بان هذا «النقد لم
يؤد دوره كفاية، فكيف يدعو الغذامي إلى موت النقد الأدبي
أمام عشرات الشعراء العرب المحرومين أصلا من إضاءات ناقد
واحد، تسلط على حياتهم المنسية أو على شعرهم المهجور.
وأمام مئات القصائد الظامئة إلى قراءة صائتة واحدة من
حنجرة غير حنجرتهم».
في هذا الكتاب، يستعيد فوزي كريم، وبحساسية شعرية هادئة،
صورة الستينات العربية والعراقية، ويعود بالذاكرة إلى
سنوات «النضال الحالم» حيث كان المثقف يبحث عن التغيير،
وهو يعقد مقارنة بين ستينات العراق وستينات روسيا
القيصرية، قبل ذلك، بقرن كامل، ويستهل موضوعه بالحديث عن
رواية «الشياطين» لديستويفسكي، التي علمت المراقب بان
«مثقف الفكرة المقدسة المتعالية أو «الحلم الفردوسي»،
منشطر على نفسه، أناني بطبعه، وكاذب».
وإذا كانت روسيا قد حظيت بديستويفسكي، فإن العراق ـ كما
يرى كريم ـ قد ابتلى «بالكاتب الثوري الذي يرقب الظاهرة
ليمنحها، بمزيد من العواطف والخيال، شرعية وطأتها
كالصخرة». وهو يستعين، في هذا المقام، بما يكتبه سامي مهدي
عن تاريخ هذه المرحلة ليؤكد أن الأكثرية من كتاب الستينات
كانت تنتمي لتنظيمات حزبية، وأنها منيت بانتكاسات سياسية
ونفسية لم تؤد بهم إلى مراجعة النفس والحكمة، بل إلى ميول
وأهواء فكرية أكثر تطرفا.
ويقتبس من كتاب مهدي (الموجة الصاخبة) الفقرة التالية: «
فكان أن تسللت إليهم، بدرجات متفاوتة، الأفكار الوجودية
والعدمية والتروتسكية والفوضوية، حتى أن نفرا منهم أعاد
الاعتبار لتروتسكي وأفكار الأممية الثانية. وحين تألق نجم
الغيفارية صار أرنستو غيفارا نجما محببا لدى أغلبهم،
وراحت صور مقاتلي الجبال والأدغال تداعب مخيلاتهم، بل كان
بعضهم يحسد الكاتب ريجيس دوبريه على ما وصل إليه من شرف،
وحين انفجرت أحداث مايو 1968م في فرنسا كان هناك من عثر
على بغية أخرى، فصار أبطال هذه الأحداث من النجوم التي
يتطلع إليها، كان أكثرهم يبحث في هذا الخليط المتنافر من
الأفكار عن خلاص ما غير الخلاص الذي وعدتهم به الأحزاب
التي كانوا ينتمون إليها.
ويسخر كريم من كيفية تعاطي هؤلاء المثقفين مع التيارات
الفكرية، والفلسفية التي ظهرت في الغرب، فيقول «أسرنا
الكتاب الغربي وبواسطة الترجمة، تعلقنا بثقافة غربية على
ورق سيئ الطباعة، وكان أشبه بتعلق مراهق من «باب الشيخ»
بحسناء في فيلم أمريكي.
في اتحاد أدباء مرحلة أول ثورة تموز تعلق أدباء اليسار
الشبان بإضاءات همنغواي، وفي «مقهى السمر» بالمسافة بين
تروتسكي ولينين، وفي «مقهى المعقدين» بدخان الوجودية، وفي
«مقهى البلدية» بفضلات الشوفينية القومية الألمانية، كنا
في الهفوة التي يغفلها التاريخ.
هفوة لغوية، بيانية، وليدة وهن استثنائي في القوة
الإنسانية الحية»، معتبرا أن فاضل العزاوي في حماسه
الستيني، ابرع ممثلي هذه الهفوة.
ورغم أن حديثه يشمل الثقافة بمختلف تجلياتها، إلا أن الشعر
يكون دائما ميدانه المحبب، بوصفه شاعرا، إذ يشير إلى أن
الشعر العراقي كان قد «قطع، في مرحلة ما قبل الستينات،
شوطاً مثيراً في إنضاج صفتين متناقضتين، الأولى صفة الشاعر
المتسائل، الحائر: السياب، الملائكة، البريكان، الحيدري،
مردان، والثانية صفة الشاعر اليقيني: كالبياتي، مثلا.
ويرى كريم انه و«بعد انقلاب 1958م اضطربت القاعدة بعنف،
بحيث اندفع شعراء من موقع الحيرة إلى موقع اليقين،
وبالعكس. صارت نازك الملائكة ذات حمية قومية، ثم دينية على
اثر فزعها من المد الشيوعي. حسين مردان اطمأن لكذبه، وكذبه
ابيض ككذب الأطفال. بدر شاكر السياب تعرض لضغوط قاهرة هرست
قدرته على البقاء شاعرا رائيا.
بلند الحيدري فضّل الانتساب إلى الحياة العابرة، وجعل
الشعر ملحقا بها. في حين انتسب محمود البريكان للشعر وبقي
داخله حتى مقتله. بينما غامر البياتي مرات في التخلي عن
حقل يقينه، ودخل خبرة شاعر الحيرات بنجاح تجاوز فيه صوته
الآخر.
ويقدم الباحث في فصل تحت عنوان «قصيدة النثر ودربة الأذن»
مجموعة انطباعات بشأن قصيدة النثر في الشعر العربي، وهو
يقر بان هذه الانطباعات لا تزيل إرباكا، ولكنه يسعى إلى
تحاشي مضاعفة الإرباك، والتعتيم.
هو يسعى إلى تأمل الظاهرة التي يقول بأنها «اجتاحت كحريق
حقل شعرنا الظامئ، الشاكي من اليباس، خاصة في الثمانينات
والتسعينات»، ويسعى إلى تأمل تفرد هذه القصيدة في الساحة
الشعرية التي يزعم أنها ساحة «ثقافة إعلام» لم تسهم
المواهب الشعرية إلا في تعزيزها، ولذلك لم تكتسب هذه
المواهب صفة الفرادة والشخصية، بل صارت، تحت ظلها وفي غمرة
مناخها المفروض بخفاء، مواهب ذات صيغة جماعية، تنعكس
جماعيتها على تقارب النصوص، وعلى الخصائص المشاعة الموزعة
فيما بينها.
وبعد أن يسهب في شرح طبيعة الموسيقى علميا، وتأثيراتها في
النفس، والفرق بين الكلام المنثور والموزون، يستنتج كريم
بأن «ضعف الأذن موسيقيا يشكل أحد العوامل التي دفعت عددا
من الشعراء إلى خوض تجربة قصيدة النثر». وثمة من رأى في
قصيدة النثر البديل الحقيقي والضروري الذي يفرضه الانتساب
للحداثة، وسبب ذلك أن الشعر الغربي الحداثي إنجليزياً أو
فرنسياً أو ألمانياً إنما يكتب نثرا.
ويسترجع بنبرة وجدانية مؤثرة قصة صداقته مع هادي العلوي،
منذ سنوات «محلة العباسية» ببغداد وما تلتها من محطات لم
تستطع أن تفرق بين الرجلين رغم الخلاف الفكري، واحتدام
الأفكار بينهما حول العديد من المسائل.
غير أن الخبر الذي وصله في خريف العام 1998 م، والذي يقول
بموت هادي العلوي، كان مفجعا، وهذا الرحيل كان السبب
الوحيد الذي فرق بينهما، وبقي كريم مخلصا لصديقه فيدون هذه
الانطباعات، ويتحدث عن رجل زاهد عن الحياة ومباهجها، مؤمن
بقوة الفكر، ويتمتع بنزعة إنسانية رفيعة.
يكتب كريم عن لقاءاتهما في لندن، وكيف استأجرا معا شقة
أوائل الثمانينات في هذه العاصمة، ويقول بأن هادي العلوي
«كان يتعامل مع قوة الحياة عبر الشاعر والمتصوف فيه،
وينعكس ذلك في فيوضات نثره وشعره، ولكنه، مع واقع الحياة
المحيطة، كان يتعامل عبر العقائدي. وينعكس ذلك في نتاجه
السياسي والصحافي حتى أنه، هو الذي أشبعه الحرمان والعزلة
بالتساميات، ولّد من هذه الصوفية «عقيدة صوفية».
والتفت إلى التاريخ ليمد لها جذورا فانتخب لاوتسه، تشوانغ
تسه، وأبا ذر، الحلاج، النفّري، أبا العلاء، عبد القادر
الجيلي، وانتهى بالمحدثين:غوته، ماركس، تولستوي. ولو أن
العلوي أخصب تربته بهذه النزعة وهذه الجذور كشاعر راء، إذن
لحقق صوتا فريدا، ولكنه وظفها في غير حقلها فأعطت ثمارا
دامية، لا تختلف في شيء عن الثمار التي طلعت علينا من
معترك العقائد المشهود.
وبما أن الحديث يتناول المشهد الثقافي العراقي فإن كريم لا
يمكن أن يغفل عن اسم ترك أثرا عميقا على هذا المشهد على
مدى قرن كامل، انه الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي يفرد له
الباحث مساحة يتحدث فيها عن الجواهري، وأهم المحطات في
تاريخ هذا الشاعر، والمناسبات التي ألقى فيها قصائده
المشهورة مع شواهد كثيرة يقتبسها من تلك القصائد ويدرجها
في الكتاب.
عاش الجواهري قرنا كاملا ليكون شاهدا بالكلمة والموقف على
مرحلة مليئة بالاضطرابات، والخيبات والثورات فلم يكتف
بالتفرج على ما يحدث، بل لعب دورا فعالا في مختلف المسائل
والقضايا والمناسبات، وجلبت له قصيدته الكثير من الخصومات
والعداوات،
ورغم كل ما كتب عنه فإن ثمة سؤالا مشروعا يعاد طرحه في كل
حين يتمثل في: من هو هذا الجواهري الذي استطاع بصوته
الجهوري الهادر، وقصيدته الرصينة المتوغلة في بحار الفصاحة
أن يصنع صوتا شعريا متفردا انتزع إعجاب القارئ والناقد
معا، ليكون آخر الشعراء الكلاسيكيين؟.
هذه التجربة الطويلة والغنية يحاول فوزي كريم أن يسلط بعض
الضوء عليها، محاولاً تبيان السمات الرئيسية في شعر
الجواهري عبر رصد للمحطات الأساسية في هذه التجربة. |
|
|