مختارات من كتاب
الفضائل الموسيقية
(صدر عن دار المدى، 2002)
منذ قرابة ربع قرن وأنا أنضجُ ، داخل حقل المعرفة
الموسيقية ، كشاعر . أُصغي للموسيقي، وأقرأ عنها، حتي لتبدو كتبُ الأدب
والفن
والفكــرِ فروعاً وأغصاناً وأوراقاً من شجرتهــا . إلا الشعر ، فهــو
صنوهــا
التوأم . ولذا أري ولَهي الموسيقي وإحاطتي الموسيقية ثمرةً طبيعية
لهويتي كشاعر
..وما من شاعرٍ حقيقي بقادرٍ أن يُرجئ وجدانــه
الموسيقي الي حين ، أن يهجــرَ
المنشدَ المغني فيه ويُقبلُ علي اللغةِ والورقِ، لأن كل نسيجه لن يكون
إلا محض أدب
من لغةٍ وورق لا غيــر
!
حبُّ الموسيقي لا يشبه حبَّ قراءة الرواية ولا تأملَ
اللوحة . إنــه استثنائي . فالشاعرُ يرعي مُبدعــاً موسيقياً في
داخلــه . ولو
نمــا وكبُر هذا المبـدع الموسيقيّ وأخذَ حجــمَ الإنسان ، الذي هو
عليــه ، لرعي
بدوره شاعراً صغيراً في داخلــه . هذا النوذجُ نفتقده في ثقافتنا
الشعرية المعاصرة
.
وما من علّةٍ موجعــةٍ كهذا الفقدان
.
إن كلَّ فن يطمحُ أن يكون موسيقي ،
فكيف بالشعر الذي انفصل عنها ، وهو التوأم
!
هذه أحاديث يسيرة كتبتها عفو
الخاطرِ ، فهي ليست بحثاً . وهي موجهة أولاً الي الشاعر ، الذي يفتقد
الموسيقي .
ولا بأس أن تكون موجهة الي الموسيقي أيضاً ، الذي يفتقد الشعر . ثم الي
مثقف الأدب
والفن . ثم الي القارئ عامــــة . ألحقتها بنص هو أقرب الي فن المقالة
الأدبية ،
بفعل طبيعته الغنائية ، أقرأ فيه قصيدةً لي قراءةً موسيقية . ثم أعددتُ
ملحقــاً
يليه لشذراتٍ وقعت عليها في كتاب الأغاني ، الذي ألفتُ القراءة فيه منذ
سنين . هذه
الشذرات لا تحيد عن معاني الموقف النقدي تجاه الموسيقي والأغنية
وعلاقتهما الممكنة
بالشعر .
موضوعة الشعر والموسيقي في هذا الكتاب ستكون أولي الفضائل الموسيقية
.
عسي أن يمتد الحديث في المستقبل الي فضائلَ أخري لا
تقلّ أهمية .
فـــــوزي
كـــــريم
الشـــعـر
والموســـيقـي
1
في
مُفتتح سيرته الذاتية رحلــة غير منتهية كتبَ عازف ال÷ايولين الشهير
يهودي مينوهين
:
الإنسان الإعتيادي يُلقي علي الأرض ظلا ،إنسانُ
العبقريــة يُلقي ضوءا . مينوهين
أراد أن يتطلّع الي القامات التي صحبته عميقاً في مسيرةِ عزفه : باخ ،
÷ي÷الدي ،
هاندل ، هايدن ، موتسارت ، بيتهو÷ن ، شوبرت ، باگانيني ، شومان ، برامز
، مندلسون ،
بارتوك ، شوينبيرگ ، گريگ . فوجدها معبّأة بإضاءة تفيضُ أبــداً
.
لهذه الإضاءة
نتطلّعُ ، نحن الأقلّ شأناً بين القامات . علّ طيفاً من ضوء يجد بين
الأركان
المعتمة لأرواحنا مكاناً ومستقرا . فقد نضبت مصادر الضوء الموسيقي
لدينا ـ ومن يجرؤ
أن يقول : ومصادر الضوء الشعري أيضاً ! ، وأمست تنهدات معْبد وابن
سُريج وابراهيم
الموصلّي وابنه إسحاق وابراهيم بن المهدي وزرياب ، وتأملات الكندي
وإخوان الصفا
والفارابي والغزالي وأخيه محي الدين والسهروردي مفاخرَ لفظية في متحف
الأدب العربي .
كان المثقف لدينا ولدي العالم أجمع هو الوسيط المشروع والوحيد بين
الموهبة
الموسيقية وبين متلقيها . هو الذي يصلُ ، عبر لغته وحساسيته ، روحاً
بروح ، ويوسع
أفق الثقافة الموسيقية في حياة تأمل بالتقدم . إنه سيد الكتاب وكل
وسائل الإيصال
.
والموسيقي الجدية (الكلاسيكية ) ، شأن الشعر ،
والفن والفلسفة ، تحتاج الي وسائط
تنمية للذاكرة ووسائل دربة للأذن ومناهج للتربية الروحية . وما من أحد
يعلو علي
المثقف في أهليته للقيام بهذا الدور . ولكن المؤسف أن هذا المثقف اليوم
هو أبرز
الذين يفتقدون الي الثقافة الموسيقية والذائقة النامية والأذن المدربة
. فقد ألغي
بأسلحة حداثته اللفظية والشكلية كلَّ إمكانية أن تكون الموسيقي ، كما
كانت في العصر
الذهبي للحضارة العربية ، مصدراً من مصادر المعرفة والوعي وينبوعاً
للذائقة الروحية
.
جذور الموسيقي الجدية احترقت وجفت منذ أزمان . والأغصان التي نمت ،
لاطيةً في
الظلّ ، إنما هي حقول الإختصاص بين جدران المعاهد ، يردد أصداءها
الأساتذة
والتلاميذ . وهي غصون لا تؤمّن طبيعة حيّة لأنها مبتورة من حقل المعارف
الأخري ،
معارف الثقافة الفاعلة التي يُحسنها الأديب والفنان بصورة جد خاصة .
وحول هؤلاء
الأساتذة والتلاميذ يحتدم محيط موسيقي التهريج الصاخب ، الذي يستحدث
كلَّ يوم أسلحة
تخريب جديدة للإطاحة بآخر معاقل الموسيقي الشعبية ، التي لم تسلم علي
ريشها هي
الأخري .
ولكن المثقفين لهم مزاعم . فحداثتهم اللفظية والشكلية تأبي عليهم إهمال
الموسيقي كمصدر للوعي ، ولذا فهم يطعّمون كتاباتهم ، حيث يطيب لهم ذلك
، بأسماء
الأعلام والمصطلحات . وهي لا تتجاوز في أحسن حالاتها أسم موتسارت
وبيتهوُ÷ن ، أو
مصطلح السيمفونية و الهارموني و اللحن الأوركسترالي . ولكي تجعلهم هذه
الحداثة
اللفظية والشكلية فاعلين ، وبفعل مشاعر الذنب أيضاً ، تراهم يختلقون
ملحنين
وموسيقيين حداثيين يرفعونهم الي صفة الملحن المثقف والموسيقي المثقف .
ولكن بأي
السلالم ؟!
إنها محاولة اختلاق تكوين زائف والتخفّي وراءه . هذا الموسيقي المثقف
لا تعدو ثقافته استخدام نصوص شعرية من مصادر لا ترد علي بال أحد . من
الملاحم
السومرية علي سبيل المثال ، أو من ديوان الحلاج ، أو من أي متصوف يقول
شيئا يملأ
المستمع بالروع . وكأن جدية ( كلاسيكية ) الموسيقي تكمن في جدية نصوصها
الغنائية .
إن اتساع ظاهرة فيروز في وسط المثقفين إنما ينطوي علي شيء من هذا
الإيهام ،
الذي هو فعل المثقفين هؤلاء لا فعل فيروز . فقد انتسبوا اليها ونسبوها
لأنفسهم،
محاولةً منهم لستر عورة الجهل المريع لينابيع الموسيقي الجدية ، التي
تليق بالمثقف
كما تليق الرواية الجدية والمسرح الجدي وكل مصادر المعرفة الجدية
الأخري . ولعل
فيروز أخذت استجابتهم التسترية بصورة جدية ، ولها كل الحق في ذلك ،
واطمأنت الي
انتسابها اليهم . ولكن ، هل هذا الإنتساب الي ذائقة مثقفينا ، الذين لا
يعنون
بالموسيقي الجدية مطلقا ، والذين يفتعلون معني للجدية لفظياً وشكلياً ،
هو دليل
جدية فيروز ؟
إن انتساب فيروز الي الموسيقي الشعبية والي الناس في كل مستوياتهم
أمرٌ لصالح فيروز والموسيقي والناس . ووجودها كتعويض عن الموسيقي
الجدية أمر آخر
افتعله المثقفون لستر العورة .لأن الموسيقي الجدية ، شأنها شأن الشعر ،
ذات صلة
وثيقة بمصادر الوعي الأخري ، كالفن والأدب والفلسفة والعلم ...الخ
.
الإفاضة في
موضوع الجمال الموسيقي وعلاقته بالتمثيل الدلالي وبالمعني ، وكل ما
يحيط هذين من
اهتمام بالقيم الشكلية والتقنية ، كانت سمة الإهتمام النقدي في القرن
التاسع عشر
والنصف الأول من القرن العشرين . ولم يبرز الإهتمام بالعامل الإجتماعي
في دراسة
التاريخ الموسيقي ولا بالعامل الثقافي
Culture
إلا في العقود المتأخرة . وهذا
الإهتمام ينطوي علي سعة أفق يشمل كل مناحي الحياة ، التي أصبحت ، بفعل
حداثتها ،
واضحة الفاعلية . فهناك الموسيقي واللغة حيث علم دلالات الرموز و علم
الأصوات ، وهل
الموسيقي تعبر عن عاطفة كالحب أو التوق بصورة يمكن تخصيصها ، أم عن
العاطفة في
ذاتها ، حيث يستعصي التعبير عنها بلغة أخري ، ( شوبنهاور ) ؟ وهذا
الحقل من علم
الرموز الموسيقية كثير التعقيد والتخصص . لكن الحقل يتسع لإطلالة جديدة
علي علاقة
الموسيقي بالجسد الإنساني وبالرغائب الغريزية الغامضة ( التوق اللحني ـ
وصول الذروة
ـ الإشباع أو النهاية في بناء شكل السوناتا ) . وبالطابع التراكمي
للبناء الموسيقي
(
أنثوي ) ، وبالطابع الهرمي ( ذكوري ) ، وبعلاقة
الموسيقي بالعنصر الإنساني
(الإنسان
الأسود ، الإنسان الشرقي ...) ، كذلك يتسع لعلاقتها بالطبقات والشرائح
الإجتماعية ، وبالمعايير الجمالية التي تتحكم بالمواقف النقدية ،
وبمفهوم الموسيقي
الجدية ، موسيقي النخبة ، ومفهوم الموسيقي الفولكلورية أو الشعبية ،
ومتأخــراً
مفهوم الموسيقي الجماهيرية
.
إن المفهومين الأولين واضحا الدلالة وقديمان . أما
المفهوم الثالث فظاهرة حديثة نمت مع نمو ظاهرة ضخامة الإنتاج
والإستهلاك
الجماهيريين. وموسيقاه تهدف الي الربح . وهي الخصيصة التي تفصل بينه
وبين المفهومين
الأولين بصورة كلّية . هذه الموسيقي الجماهيرية إنما تُصنع لأسباب
استهلاكية ونتيجة
لذلك يجب أن تكون علي مقاس مصالح الإنتاج الضخم . وهذي الصيغة في
الإنتاج تؤدي الي
انفصال تام بين منتجي هذه الموسيقي وبين مستهلكيها ، بحيث يصبح
المستهلك ليس أكثر
من مادة سلبية تُستغل ببراعة وبلا ضمير من قبل منتجي هذه الثقافة
الجماهيرية . ولا
ينخدع المواطن العربي بالحديث عن هذه الطبيعة الإستهلاكية وكأنها خصيصة
غربية بحتة .
فنحن نملك القليل القليل من الموسيقي الجدية ،
وغياب تدريجي للموسيقي الشعبية
الغنية ، والكثير الكثير من الموسيقي الجماهيرية الإستهلاكية ، التي
بدأت تكتسح
بعجلاتها كل جذور الموسيقي الشعبية ، وتغطي كل منافذ الحياة العامة.
ولنا مثيلات
للإنتاج الغربي الضخم ومثيلات للإستهلاك الجماهيري الضخم ، ولنا إضافة
تعوّض عن
مواقع الضعف تتمثل في أجهزة الإعلام الرسمية الضخمة التي أخذت علي
عاتقها تسويق هذه
البضاعة بأرخص الأثمان ، أو تغذية الناس بها مجانا
.
الجانب التراجيدي في
الحكاية هو أن المثقف يُسهم بدور فعال في تهميش ما هو جدي في أي فاعلية
ثقافية .
بفعل مساهمته فيها أولاً . والمساهمة تعني التواطؤ والمصلحة . وبفعل
الفهم اللفظي
والشكلي للحداثة وما بعدها ، بحيث أدت مساهمته الدؤوبة الي إفراغ العمل
الأبداعي ،
أي عمل ، من أي دلالة روحية وفكرية جدية
.
المثقف ، مثقف الأدب والفن ، هو الذي
يشرف اليوم علي كل وسائل النشاط الإعلامي الرسمي وشبه الرسمي . وهو
الراعي لثقافة
الإعلام التي نشأت علي يديه منذ الستينات وبلغت أعتي مراحل نضجها هذه
الأيام .
ثقافة الإعلام التي تنطوي علي معظم ما نراه اليوم
من شعر ، حتي لو كان متمردا
حروناً ، ومن نقد للشعر في أكثر حداثاته تطرفاً . لأنهما حققا ما كانت
هذه الثقافة
تصبو اليه ، وهو طبيعتهما العضلية وفراغهما المتواري وراء الصنعة
اللفظية واللعب
الشكلي . ولقد انفردت بالشعر لأن الشعر العربي ، منذ الجاهلية ، هو
وسيلة الإعلام
الأكثر إغواءاً . وإذا التفتنا الي صنوه الموسيقي فسنجدها في الموقع
ذاته. الفارق
أن المثقف دحرها بالنسيان والغفلة ، أو التفت اليها بالتشويه والتخريب
!
خبرت
معرفتي بأكثر أبناء جيلي ، وبأكثر أعلام الجيل الذي سبقني ومواهب الجيل
اللاحق بي
فلم أعثر إلا علي القلّة القليلة القليلة ، والأشد قلّة ممن تورّدت
روحه مع تورد
أُذنه ، وألف الإصغاء الي هذا التسامي الذي تبطلُ دونه التساميات
.
في سنوات
الصبا كنت أتزوّد ، وأنا التهم الكتب التي تأتينا متأخرة من مصر ،
بصفحات تتحدث عن
الموسيقي . صفحات لتوفيق الحكيم ، يحيي حقي ، حسين فوزي ، زكريا
إبراهيم ، فؤاد
زكريا ، ثروت عكاشة وآخرين . وما كان أحد فيهم رجل اختصاص في معهد
موسيقي . كانوا
أدباء ومثقفين. ووعيهم الموسيقي كان دليلهم الي الثقافة الصحية . ولكن
أوراقهم تلك
سرعان ما طواها النسيان تحت عجلة ثقافة الإعلام ، التي أسسها انقلابيو
العقائد
الحداثية .
مع السنوات يتعالي ضجيج العجلات ، ومع تعاليه تبهت تلك الأوراق ،
وتذوي تلك الأغصان . ولا أمل في عودة الروح إلا بمعجزة . وهذه المعجزة
تطلعُ من
المقاومة الفردية ، من الجهد الذي يصبو الي الحقيقة صبوة القديسين
والشهداء .
فالشاعر يعرف أن الشعر بحث كل الخبرة وكل المعرفة عن إضاءة الإنسان .
ولا استقامة
لهذا دونهما . وأي مخاتلة واستخفاف إنما هي مخاتلة علي النفس واستخفاف
بها . فاذا
كان الشعر صنو الموسيقي ، وإذا كانت هذه العلاقة البدائية موضع شبهة،
فالشاعر أولي
من غيره في بحث وتأمل هذه العلاقة . لأن فيها شيئا من تلك الحقيقة .
وكذا الأمر مع
الخبرة ومع المعرفة
.
إن دربةَ الأذن ارتبطت لدي شاعرنا بالإيقاع الرياضي
المحسوب . حتي ضابط الإيقاع في موسيقانا الشعبية حاول هرْمنة ( من
هارموني ) إيقاعه
.
إلا أن الشاعر لم يحاول حتي ذلك ، بسبب الموات الذي
أصاب الأذن ، عبر السنوات ،
وطال الروح الموسيقية في داخله . وحين حاصرته أفكار ما بعد الحداثة ،
وهي أفكار
مجردة لا حياة فيها بسبب افتقادها للجذور الحقيقية وللمعرفة التي تسع
أربعة قرون
غربية ، وجد نفسه يتخبط في محاولة استجابة ، ولو شكلية ، لروح العصر .
من أجل تحقيق
إيقاع جديد ، غافلاً أو متغافلاً ، حقيقة أنه يحاول ذلك دون دربة أذن ،
ودون روح
موسيقية في داخله . لذلك بدت محاولته مثيرة للرثاء. واكتفي بالتسميات ،
فتوهم
إيقاعاً لا تدركه الأذن وسماه الإيقاع الداخلي ، واختلق لقصيدته تسميات
لا حصر لها
، ونسف الجسور بينه وبين الأوزان ، دون أن يدرك المعني الرمزي والنفسي
لعمله هذا .
فهو بهذا إنما نسف ، بفعل اليأس ، الجسور بينه وبين دربة الأذن والروح
الموسيقية
الي الأبد !
علي هذه الصفحات سأحاول إبحاراً وادعاً في محيط الموسيقي ، مستصحباً
معي الشعرَ ، علّ مراياه العميقة تعكس التماعات الأمواج ، التي تعكس
بدورها
الإلتماعات الغامضة في الكون الرحيب
.
2
ورد في كتاب الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني أن أحد تلاميذ الموسيقي ابن سُريج ، وهو أبو نافع
الأسود ،
قال : إذا أعجزك القرشي فغنّه غناءَ ابن سُريج في شعر عمر بن أبي ربيعة
فإنك تُرقصه .
وشعر عمر بن ابي ربيعة كان أكثر جاهزية للتلحين من
شعر غيره ، تماماً كما كان شعر
جرير أكثر جاهزية من شعر الفرزدق . علي أن الشعر العربي ينقاد الي
الموسيقي بيسر
بفعل غني الإيقاع الموسيقي فيه وتنوعه، في بحوره الصافية ، والغير
صافية علي الأخص
.
وجاهزيته هذه ليست إلا لموسيقي أيسر ما توصف فيه
أنها جديّة ، أو بليغة تلائم
بلاغته . إن عمر الماجن مقروء من قبل الشباب الماجن ورجال الحكمة
والمعرفة علي حد
سواء . فليس هناك شعر فصيح وآخر عامي ، وبالتالي ليس هناك لحن رفيع
وآخر شعبي ،
والإشارات التي ترد بهذا الشأن عند الموسيقيين ( راجع ملحق المختارات
في آخر هذا
الكتاب ) قد تكشف عن هوة بسيطة . ولعل شيئاً من معالمها بدأت تتضح فيما
بعد .
الموسيقي الغنائية صنو الشعر ، كلاهما وليد مستوي من الوعي ومن الذائقة
منسجم
ومتساوق في تلك المرحلة . وفي المراحل التالية للإزدهار العربي ، لم
تتغير هذه
القاعدة بل ازدادت نضجاً وتعقيداً ، بالرغم من أن الموسيقي بقيت أسيرة
الكلمة ولم
تستقل عنها لتنصرف الي نفسها والي ما نسميه بـ الموسيقي الصافية أو
الخالصة . ولكن
مع توفر الفاصل بين الفصحي والعامية في المراحل المتأخرة أصبح انقسام
الموسيقي علي
نفسها مشروعا . وأصبح انصراف الفصحي الي الموسيقي الرفيعة أو هذه الي
تلك متوقعا .
إن علاقة الموسيقي بالفلسفة ، وهو إرث شرقي ويوناني قديم ، وعلاقتها
بالتصوف
وهو إرث شرقي وعربي إسلامي فيما بعد ، عمق هذا الإرتباط المشيمي بالشعر
. بهذا
المعني يمكن لنا أن نتخيل الطابع الجدي للموسيقي التي كانت تعتمل داخل
مواهب ابن
سُريج ومعبد ، في هذه المرحلة المبكرة . ففيها لا نفتقد جذور الموسيقي
الرفيعة التي
أصبحت تعتمل بعقل رفيع كعقل الكندي والفارابي والغزالي وإخوان الصفا
فيما بعد .
ولكي نقرب تلك الصورة التاريخية للشعر وللموسيقي ، وكيف حققا لهما
المكانة
اللائقة في العقول الجدية ، لنطالع هذين الخبرين الطريفين اللذين
أوردهما صاحب كتاب
الأغاني ، الأول حول الشاعر عمر بن أبي ربيعة وابن عباس ، رجل الفقه
والعلم : بينا
ابن عباس في المسجد الحرام وعنده نافع بن الأزرق وناس من الخوارج
يسألونه ، إذ أقبل
عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين مورّدين حتي دخل وجلس ، فأقبل عليه
ابن عباس
فقال أنشدنا فأنشده
:
أمِن آل نُعمٍ أنت غادٍ فمُبْكــرُ
غداةَ غــدٍ أم
رائــحٌ فمُهجّــــرُ
حتي أتي علي آخرها ، فأقبل عليه نافع فقال : الله يابن
عباس ! إنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد نسألك عن الحلال
والحرام فتتثاقل
عنا ، ويأتيك غلام مُترف من مترفي قريش فينشدك
:
رأتْ رجــلاً إمّــا إذا الشمسُ
عارضت
فيخــزي وأما في العشــيّ فيخســرُ
فقال : ليس هكذا قال . قال : فكيف
قال ؟ فقال : قال
:
رأت رجـــلا إما إذا الشمسُ عارضت
فيضحــي وأمــا
بالعشـــي فيخْصُــرُ (أي يبرد)
فقال : ما أراك إلا وقد حفظت البيت ! قال : أجلْ
!
وإن شئت أن أُنشدك القصيدة أنشدتك إيّاها ... وكان ابن عباس يتسقّط
أخبار شعره
دائما ويقول : هل أحدث هذا المُغيري بعدنا شيئا ؟
الخبر الآخر عن الموسيقي ابن
سُريج ورجل الفقه والعلم عطاء بن أبي رباح إذ التقاه الأخير في موضع
عند مكــة
وعليه ثياب مصبّغة وفي يده جرادة مشدودة الرجل بخيط يطيرها ويجذبها به
كلما تخلفت ،
فقال له عطاء : يا فتّان ، ألا تكف عما أنت عليه ! فقال ابن سريج : وما
علي الناس
من تلويني ثيابي ولعبي بجرادتي ؟ فقال له : تفتنهم أغانيك الخبيثة .
فقال له ابن
سُريج : سألتك بحق من تبعته من أصحاب رسول الله ( ص ) وبحق رسول الله (
ص ) عليك ،
إلا ما سمعت مني بيتا من الشعر . وأنا أُقسم بالله لإن أمرتني بعد
استماعك مني
بالإمساك عما أنا عليه لأفعلنّ ذلك . فأطمع ذلك عطاءً في ابن سُريج ،
وقال : قلْ .
فاندفع يغني بشعر جرير
:
إن الذين غدَوا بلبّــك غـــادروا
وشــلاً بعينك ما
يــزال معينــا
غيّضن من أبصارهـنّ وقلن لي
ماذا لقيــتَ من الهوي
ولقينـا
فلما سمعه عطاء اضطرب اضطراباً شديداً ودخلته أريحية ، فحلف أن لا يكلم
أحداً بقية يومــه إلا بهذا الشعر ، وصار الي مكانه من المسجد الحرام ،
فكان كل من
يأتيه سائلاً عن حلال أو حرام أو خبرٍ من الأخبار ، لا يُجيبه إلا بأن
يضربَ إحدي
يديه علي الأخري وينشد هذا الشعر حتي صلي المغربَ ، ولم يعاود ابن
سُريج هذا ولا
تعرض لــه .
إن ثياب عمر وابن سُريج وافتتانهما بمباهج الحياة الدنيا سرعان ما
تبخرت داخل صرح الروح المتسامية والجدية ، التي تعتمل داخل ابن عباس
وابن أبي رباح
.
تبخرت لصالح الزبدة والجوهر ، الذي ينطوي عليه
الشعر والموسيقي . هذا الجوهر الذي
حقق صحبة رائعة بين شاعر مثل عمر بن أبي ربيعة وموسيقي مثل ابن سريج .
وأخبار
مغامراتهما الفنية في التأليف والتلحين تجدهما في ترجمتهما الموسعة في
الجزء الأول
من كتاب الأغاني . ولكي أستوفي حقهما وحق علاقتهما أقتطف هذه الحكاية
عنهما بشيء من
الإيجاز :
حجّ عمر بن أبي ربيعة في عام من الأعوام علي نجيبٍ له مخضوب بالحنّاء
، مُشهّر الرحل بقرابٍ مُذهّب ، ومعه ابن سُريج علي بغلة له شقراء ،
ومع عمر جماعة
من حشمه ومواليه وعليه حلّة يمانية ، وعلي ابن سريج ثوبان أصفران ، فلم
يمرّوا من
أحد إلا عجب من حسن هيئتهم، فخرجوا من مكة يريدون مِنـي ، فمروا بمنزل
رجل من بني
عبد مناف ، وأبصر عمر بنتاً للرجل فأسره جمالها ، وفي مقامه بمِني كتب
قصيدته التي
منها :
نظرتَ إليهــا بالمخصّبِ من مِنــي
ولي نظــرٌ لولا التحرّج
عــارمُ
وهو مطلع مقطع وضع فيه ابن سريج لحناً في الحال . ولم يصبر عمر علي لحن
ابن سريج الجديد ، فاقترح عليه أن يروحوا رواحاً طيباً معتزلا علي كثيب
معروف في
طريق الحاج فنبصر مرورهم بنا ونراهم ولا يرونا . وهناك علي الكثيب
المشرف جلسا ،
والقمر طالعٌ يضيء ، قال عمر لابن سريج : غنني صوتكَ الجديد ، فاندفع
يغنيه ، فسمعه
الركبان فجعلو يصيحون به : يا صاحب الصوت أما تتقي الله ! قد حبست
الناس عن مناسكهم
!
فيسكت قليلا ، حتي إذا مضوا رفع صوته ، الي أن مرت
قطعة من الليل ، فوقف عليه في
الليل رجل علي فرس عتيق عربي ، فسلم وقال : أيمكنك أن تردَّ هذا الصوت
؟ قال : نعم
علي أن تنزل وتجلس معنا . قال : أنا أعجل من ذلك ، فإن أجملت وأنعمت
أعدته ! وليس
عليك من وقوفي شيء ولا مؤونة ، فأعاده . فقال له : بالله أنت ابن سريج
؟ قال : نعم .
قال : حياك الله ! وهذا عمر بن أبي ربيعة ؟ قال :
نعم . قال : حياك الله يا أبا
الخطاب ! فقال له : قد عرفتنا فعرّفنا نفسَكَ . ولكن الفارس تجنّب
التصريح قائلا
:
لولا أني أريد وداع الكعبة وقد تقدمني أهلي لأطلت المقام معك ولنزلت
عندكم ، ولكني
أخاف أن يفضحني الصبح . خذْ حلّتي هذه وخاتمي . ومضى
.
في اليوم التالي ، تبينا
أنهما حلّــة وخاتم يزيد بن عبد الملك
.
3
صحبة
الموسيقي والشعر ، أو الموسيقي والشاعر في تاريخ الثقافة العربية ليست
إلا حركة
متأخرة تماماً . ولعلها متأخرة حتي في الثقافات الإنسانية ، لأن هذه
الصحبة لم تكن
إلا وليدة فصام قسري حدث في التاريخ ، ولم يكن لصالح كليهما . فهما في
البدء لم
يكونا صاحبين ، بل كانا واحداً . نعم ، هناك من يري بأن الأغنية طلعت
من الفعل
الإيقاعي للكائن البشري ، وبأن اللحن الصائت دون كلمات والراقص قد سبق
الكلمات ذات
الدلالة بمنظومتها الإيقاعية ، وأبو النضير الشاعر والموسيقي يقول
بوضوح بأن العروض
مُحدث ، والغناء قبله بزمان (راجع ملحق المختارات ) . إن قدرة تخيلنا
لهذه الفرضية
قد تكون محدودة . فنحن اعتدنا أن نضع الألحان والموسيقي لنص شعري متوفر
مسبقاً .
ولكن أن يضع الشاعر كلمات للحن متوفر مسبقا لا يحدث
إلا بسبيل المحاكات الساخرة ،
مع أن هذه العلاقة بين اللحن المسبق وبين النص قد وجدت لها أكثر من
صيغة لدي
الموسيقي العربي، ( اسحاق الموصلي مع لحن المؤذن ، وكذلك خبر الموسيقي
مالك بن أبي
السمح ـ المختارات ) . في حين أن في هذا الفعل ظلال حقيقة تاريخية خفية
. في إحدي
مقالاته كتب الشاعر إزرا پاوند : نحن جميعاً نؤلف الشعر علي هُدي لحن
ما . والباحث
باورا في كتابه عن الأغنية البدائية عزز خاطرة پاوند هذه
:
ما إن بدأت الكلمات
تُهيّأ وتُكيّف للموسيقي حتي أظهرت مزايا ما كانت متوقعة منها في
استعمالاتها
المألوفة والمعتادة ، فهي لم تُظهر خفّة وتوازنا بل نغمة ومزاجاً ...
إنها اختيرت
بحذر من بين أخواتها ، ذات قوة مؤثرة بفعل ما عُبئت به من معان مثيرة
للذكريات
والعواطف .
ولذلك لا تقتصر النظرة الموسيقية المتأملة الي النص الشعري علي
طبيعة الإيقاع المتواتر ، بل يجب أن تتجاوزه الي إدراك اللحن فيه.
تماماً شأن
نظرتنا المتأملة للعمل الموسيقي
.
إن صعوبة هذه المهمة اليوم لم تكن كذلك أيام
زمان . فأذننا المعاصرة تدرك الشبه الإيقاعي بين الموسيقي والشعر
ولكنها قد تعجز عن
إدراك الشبه اللحني . أُذن إنسان الحضارات الأولي ، علي العكس ، قد
تدوزنت كفاية
لتستقبل اللحن والإيقاع معــاً
.
ولكننا لو رجعنا خطوةً الي التساؤل حول
الأسبقية بين الموسيقي والكلام لدخلنا في متاهة افتراضات . إحداها تري
الأسبقية
للكلام . وآية ذلك أن الكلام ما إن يمتليء عاطفةً حتي يقترب ، بفعل
امتلاء الصوت
بشحنات نغمية ، من الموسيقي . إن أصوات الكلام المستثار تصبح بالتدريج
منفصلة عن
الكلمات التي صحبتها ، وبالتالي تحقق هوية صوتية مستقلة . والفرضية
الأخري ( فرضية
دارون ) تري الأسبقية للموسيقي ، فالغريزة الحيوانية تنغّم عدتها
الصوتية للأغواء
.
وهي حاجة مصاحبة للوجود الحيواني
.
جان جاك روسّو ، الذي كان موسيقيا أيضا ، لم
يُعن بفرضية الأسبقية ، بل حاول الإجابة عن سر حاجة الإنسان الأول
للموسيقي . كان
الحديث لدي هذا الإنسان حاجة للتعبير عن العواطف . ففي تلك المجتمعات
ما من فاصل
بين الكلام والأغنية . اللغات المبكرة كانت تراتيل وترنيمات تنحو منحي
شعريا ولحنيا
، لا منحي نثرياً وعمليا . والدافع للنطق كان بفعل اعتمال العواطف لا
بفعل الحاجة .
فالعواطف كانت تدفع الناس باتجاه بعضهم بعضا . في حين تدفعهم ضرورات
الحياة الي
إشباع الحاجة ، كلاً علي حدة . لم يكن الجوع والعطش بل الحب والبغضاء
والشفقة
والغضب ، الذي استنطق الإنسان أول مرة . البدائيون كانوا يغنون لبعضهم
البعض من أجل
التعبير عن عواطفهم ، قبل أن يبدأوا الحديث مع بعضهم البعض من أجل
التعبير عن
أفكارهم . إن هذه العلاقة بين حاجة التعبير عن العواطف والحاجة
للموسيقي لدي
الإنسان تجد صداها بصورة بدائية وعذبة في آن داخل المخيلة الأدبية
العربية ، فقد
أورد المسعودي في كتابه مروج الذهب حكاية تكشف ، كما يعتقد ، عن أول
بادرة لحنية
تخرج من فم عربي . كان مظر بن نزار يتميز بصوت جميل ، ولقد حدث ذات يوم
أنه سقط من
علي ظهر ناقته وكسرت يده فتأوّه صارخاً : وايداه . صوته المفعم
بالعاطفة جعل ناقته
تنشط تأثراً . وهذا مبدأ فن الأغنية لدي العرب ، علي هيئة ما أصبح يسمي
فيما بعد
حداءً . و الأغنية هي التي تستغني بها النفس عن غيرها من الملاذ في حال
سماعها ،
كما يقول الصفدي في رسالته علم الموسيقي
.
هذا الإرتباط بالمشاعر هل هو جوهر
موسيقي ؟ وهل نشأت الموسيقي ، حقا ، بدافعه الوحيد ؟ رسام الكهوف كان
دافعه عملياً
، فهو يخطط لطريدته في غيابها ، يحاول بإتقان الصورة أن يتقن السيطرة
عليها . وراوي
الحكايات والأساطير يعزز بها وحدة المجتمع ، لأن هذه الحكايات تجسد
القيم الموروثة
والمعايير الأخلاقية . ولذلك يبدو الرسم والأدب ذا معني ومقاصد وفائدة
. ولكن ما
فائدة ومقاصد الموسيقي ؟ نحن نعتقد أن الموسيقي لا تشحذ من مداركنا
إزاء العالم
الخارجي ، وهي لا تقوم بمهمة محاكاته ( باستثناء بضعة أعمال تبدو في
الظاهر محاكاة
مثل السيمفونية السادسة الريفية لبيتهو÷ن ، و الفصول الأربعة ل÷ي÷الدي
و السيمفونية
الفانتازية لبرليوز ) ، ولا تتعهد بتأسيس نظرية أو إيصال معلومة شأن
اللغة .
إنتوني ستور في كتابه الموسيقي والعقل يري الإجابة تتطلب معرفة بجذور
الموسيقي
في التاريخ الإنساني ، ومعرفة استخدامها ووظائفها في المجتمعات
المختلفة . إحدي
الإجتهادات لا تجد علائق طفيفة بين الموسيقي وعالم الطبيعة . فأصوات
الشلالات
والأنهار والسواقي مثيرة للمتعة ولكنها كأصوات غير منضبطة في درجات
محددة شأن
النوتة ، بل هي جلَبة غير منظمة . هذا إذا ما استثنينا أصوات الطيور
التي سننصرف
اليها فيما بعد . إن هذا الغياب للعلاقة مع العالم الخارجي يجعل
الموسيقي متفردة
بين الفنون . ولكن ارتباطها الوطيد بالعاطفة الداخلية يجعل فكرة أن
الموسيقي ليست
إلا نظام علاقات بين أصوات ، شأن الرياضيات غير مقبولة . بالرغم من أن
هذه العلاقة
بين فن الموسيقي وبين حقيقة العواطف البشرية ستبقي عصية علي الفهم ،
بحيث دفعت
البعض الي الإعتقاد بأن الموسيقي تتكون من أصوات وقوالب أصوات لا علاقة
لها بأية
أشكال أخري للخبرة البشرية . وكان الروسي سترا÷نسكي متطرفاً في هذا
الإتجاه ، فهو
يعتقد بأن الموسيقي عاجزة عن التعبير عن أي شيء ، لأنه ببساطة لا يربط
بينها وبين
مشاعر المؤلف الداخلية . وإذا ما وجد رابطاً فلا يشكل هدفاً في ذاته ،
بل الهدف
يتشكل في العمل الفني الجديد ، الذي يقع وراء ما نسميه مشاعر المؤلف :
العمل
الموسيقي الجديد هو واقع جديد ، ولذا لا تعبر الموسيقي إلا عن نفسها
.
4
الإشارة
الي الطبيعة كمصدر مهم ، أو جذر فاعل ، للموهبة الموسيقية لدي الإنسان
لها موقع
بارز في تاريخ الفكر الإنساني . أو علي الأقل لها موقع مثير للخلاف
والجدل . في
الشعر العربي إشارات كثيرة لغناء الحيوان المطرب ، وخاصة الطائر منه .
الجواهري في
إحدي قصائده يشير الي نقيق الضفادع باعتباره بريد هوي علي ضفتي دجلة .
وبريد الهوي
هو الغناء المعبّأ بالعاطفة . والعرب تسمي طنين الذباب غناءً. الأخطل
يتحدث عن ثور
، فيراه :
فــرداً تغنيه ذبّان الرياض كما
غني الغواة بصنجٍ عند
أسوارِ
والجاحط في الحيوان يذكر الأجناس التي توصف بالغناء ، منها الحمام
والبعوض وأصناف الذبان والنحل . وفي مكان آخـر يخص الألحان بالإشارة :
ومن الطير ما
يخترع الأصوات واللحون التي لم يُسمع مثلها قط من المؤلف للحون من
الناس ، فإنه
ربما أنشأ لحناً لم يمر علي أسماع المغنين قط
.
إن أصوات الطير أكثر أصوات
الطبيعة موسيقية دون شك . لأن كفة الصوت المنغّم لديها تغلب كفة الصوت
الخام أو
الصخب . وهذا الجانب هو عماد حجة من يري فيه مصدراً مبكراً لموسيقي
الإنسان .
لأغنية الطير وظائف عدة منها إشعار الأنثي واستثارة الرغبة ، أو تحذير
الطيور
المنافسة ، ولذلك يبدو الطير الذكر في لحظات البحث عن أنثي أنشط غناءاً
، وهذا يعزز
فكرة دارون عن الأغنية باعتبارها دعوة لإشباع الرغبة . إنها من فعاليات
الذكر عادة .
وقد تنشط الأنثي للغناء إذا ما أشبعت بالهورمون
الذكري . ولكن البحوث المتأخرة
وجدت أن أغنية الطير ليست وليدة حاجة بيولوجة فقط ، فهو يغني أحياناً
زيادة علي
حاجته . يغني من أجل الغناء ذاته . وهناك من دفعه الولع بأغنية الطير
الي محاولة
اختبار أصواتها بالأجهزة العلمية الحديثة
.
أستاذ الموسيقي دي÷يد هندلي ( جامعة
كمبرج ) حاول الكمپيوتر في عملية تحليل أغنية الطير . بطّأ ذبذبة الصوت
16 ضعفاً من
أجل أن تتضح تفاصيلها فوقعت أذنه علي طبيعة موسيقية للصوت بعيدة تماماً
عما تخيله
الإنگليزي يوهان وليمز مثلاً ، حين ألف مقطوعته المعروفة تحليق القبّرة
. يقول
هندلي : إنها ذات طبيعة تعبيرية قوية ، مليئة بالتعارضات الحادة ـ أقرب
الي
الموسيقي النمساوي شوينبيرگ من أي موسيقي آخر . وهذا الأخير هو الذي
خرج بتنافراته
عن السلم الموسيقي التقليدي ، وكانت خطوته ( 1908 ) البداية العملية
لحداثة القرن
العشرين الموسيقية
.
إن تحليل أغنية الطير حفزت هندلي لاستعادة السؤال حول ما
نعنيه بكلمة موسيقي ، يقول : لقرون كانت أغنية الطير بعيدة عن حقل علم
الجمال
الموسيقي ، ولكن الموسيقي تحدث في كل زمان وكل مكان ، فإذا ما تحركت
عاطفيا بفعل
حركة أغنية الطير وترنمت معها ، فهذا يعني أنك تصغي الي موسيقي لا
تختلف عن موسيقي
الإنسان . هندلي يري أن ثمة علاقة بين أغنية الطير والأغنية
الفولكلورية أو الشعبية
، مشيراً الي ما فعله الموسيقي الهنگاري الشهير بيلي بارتوك من توثيق
وتسجيل الغناء
الفولكلوري الأوروبي ، الي جانب تنويت (من نوتة ) غناء الطيور . يقول :
من الذي ألف
هذه الأغاني الفولكلورية ؟ هل وضعها شخص واحد ؟ لا دون شك . إنها تطورت
عبر القرون
بالطريقة ذاتها التي حدثت لأغنية الطير . فكلاهما تؤدي وظيفة ، وظيفة
توكيد الهوية
والدور الإجتماعي
.
عالم الإجتماع الإنگليزي ريچارد مابي وضع كتابا عن العندليب
فأثاره ما في أغانيه من توتر وصراع : فهي مؤلفة ، من حيث الإطالات
الزمنية بين
العبارات الموسيقية بذات الطبيعة التي عليها الأغنية البشرية ... إنها
تنطوي علي
ميزة أوپرالية ، تماماً كما لو كانت آرية ( وهي الأغنية داخل الأوبرا )
. إن وصف
أغنية الطير بأنها موسيقي يشبه عملية وضع العربة قبل الحصان . والأولي
أن توصف
الموسيقي بأنها تملك خصائص أغنية الطير لقدم هذه وحداثة تلك
.
وهذا الإتجاه
المستعين بالعلم يعطي ثقلا للإجتهاد الذي يري الموسيقي استجابة إنسانية
للطبيعة
وتقليدا . ولذلك تبدو كل استجابات الموسيقيين لأصوات الطبيعة ، والطيور
بخاصة ،
امتداداً لهذا الإجتهاد. والموسيقيون حاولوا ذلك منذ القدم . ونحن ،
بمتابعتنا
للموسيقي الكلاسيكية منذ مراحلها المبكرة لا نفتقد الي تلك الأصوات
التي تطلع من
هذا العمل أو ذاك . ولكنها ازدادت اتضاحاً مع مرحلة الباروك (القرن
السابع عشر الي
منتصف القرن الثامن عشر ) ، والمرحلة الكلاسيكية التالية ( حتي مطلع
القرن التاسع
عشر ) ، وما تلاها
.
في يومياته سجل موتسارت ( 1756ـ 1791 ) في تاريخ 27/5/1784
انه اشتري زرزوراً وعلي ذات الصفحة سجل بضعة جمل موسيقية زعم أن
الزرزور حفظها عن
مطلع الحركة الأخيرة لكونشيرتو البيانو رقم 17 . ولقد تعلق به الموسيقي
الشاب حتي
أنه أقام له حفلاً تأبينياً حين وفاته ، ودفنه بمراسيم في حديقة بيته .
طبعاً ، كان
زرزور موتسارت أوفر حظاً من صاحبه ، الذي لم يدفن بفعل العوز ، إلا في
قبر جماعي
مجهول ، لم يتعرف أحد علي مكانه
.
بيتهو÷ـن ( 1770ـ1827 ) قدم في حركته الثانية
من سيمفونيته السادسة الريفية بضعة صياغات فنية لأصوات العندليب
والسمان والوقواق
.
ولقد سميتها صياغات فنية لأبعد شبح فكرة المحاكاة ، محاكاة الطبيعة
الحرفي ، التي
انكرها بيتهو÷ن حين حاول ايضاح ما غاب عن نباهة نقاده . وحول ضربات
القدر المريعة
في مفتتح السيمفونية الخامسة قال لتلميذه كــارل إنــه استوحاها من
أغنية طائر
نقاّر الخشب في إحدي غابات
فيينا
.
طائر الوقواق يطل ، بعد ثمانين عاماً ، من
الحركة الأولي من سيمفونية مالَــر ( 1860ـ1911 ) الأولــي ، ليثير غضب
النقاد
أيضاً. وهذه الإطلالات لا تحصي في عمق غابات الموسيقيين : كوبيران ،
ليست ، شومان ،
ديليوس ، وآخرين . ولكن الموسيقي المعاصر أولي÷ر ميسيان ( 1908ـ1992 )
انفرد بحصة
لا تُضاهي في الإنشغال والإستغراق بأصوات الطيور واستيحائها . اعتبرها
أعظم من احتل
كوكبنا من الموسيقيين ، لأن أغنية الطير بالنسبة له أكثر من زخرفة
بسيطة . فقد
احتلت فكره وحاول تدوين ألحانها عبر تجواله في ريف فرنسا
.
إن وجدان ميسيان
الديني منح علاقته مع الطبيعة بعداً فلسفيا . وهو يري الموسيقي حواراً
دائماً بين
المكان ( متمثلاً في اللون الصوتي ) وبين الزمان ( الإيقاع الصوتي ) .
بين اللون
والصوت . هذا الحوار الذي ينتهي بالوحدة بينهما ، بحيث يصبح أحدهما
الآخر . إدراك
هذه الوحدة هي التي تفتح الأفق الروحي لإدراك المطلق . ولكن تأمل
الطبيعة تمنح فرصة
أخري لهذا الإدراك ، الطبيعة التي تشكل لدي ميسيان كنزاً لا ينفد
للألوان والأصوات
، للأشكال والإيقاعات . وهي تتكثف في هذه المخلوقات الصغيرة ، التي ألف
لها وعنها
أضخم وأطول ثلاثة أعمال للبيانو المنفرد . منها دليل الطيور و سكيچات
صغيرة عن
الطيور .
|
|