من كتاب العودة الى گاردينيا (صدر عن دار المدى، 2004)
حين وصلتُ لندنَ قبل أيام من أعياد ميلاد 1978 كنتُ أزن 60 كيلو غراماً، شاحبَ الوجه كثير الوسواس بسبب الكحول. لا أعرف من الإنگليزية كلمةَ holiday لأن رجل الحدود الذي استنطقني، وأنا أترجّل من الباخرة، وقد أقلّتني من فرنسا، قد نفد صبرُه من صمتي المتحرّج. كان يريد أن يملي استمارةَ دخولي للأراضي البريطانية. ولذلك كان يلح holiday... مع ابتسامة جزَعٍ وتصبّر... do you come for holiday?وأنا أفتشُ عبثاً عن قاموس المورد الصغير، الذي حرصت على الإحتفاظ به داخل الحقيبة الصغيرة. كانت تزدحم فيها، لدهشتي وذعري، أكياسُ الشاي والسكر وصابون الرقّي الأخضر والليفة الخشنة والتمر ومعجّنات الكليچــة، يابسة كحجارة. رجل الحدود وضع في الإستمارة الرسمية أمامه كلمة holiday كمن يريد أن يفلت من شبك، وختم على الجواز تأشيرة الدخول والإقامة السياحية، وأشار علي بالمرور وهو يبتسم. ومع اصفرار سحنتي لم استطع أن أكتم حديثاً مكتوماً للنفس:ها أنت تدخلين مدينة كيش اللامرئية. تدخلين ملاذك الذي لم يكن في الحسبان. تدخلين المدينة التي تشبه كتاباً مجلداً، بورق معبأ برائحة الماضي والقدم، من كتب ديكنز، أو توماس هاردي . تدخلين بهو مكتبة هائلة الحجم، مزحومة بالكتب التي تخفي أسراراً. تدخلين ذاتاً نصف مضاءة، تشبه ذاتك نصف المضاءة تماماً. كان أبي يضرب بقبضته صفحة الخشب الساج قائلاً: قديم وصبور على الزمن كالإنگليز، وها أنت تدخلين حضرة الخشب الساج! أخذتُ القطار الى محطة فكتوريا، وفي أفرب جوار للمحطة اخترت نُزُلاً وسكنت سريراً بين جدران أربع، أرفع شاناً من الأسرة التي آوتنى في سنوات بغداد، بالتأكيد. على أني كنت أشعر وكأني َضيف ثقيل الوطأة على لا أحد، أو أن تشردي الكبير سيبدأ حقاً من هذا المكان بالذات! بدأت أحسبُ للطرق التي لا تنتهي في لندن الكبرى حساباً لم آلفه مع المدينة المقهورة، التي ودعتها الى الأبد، فاشتريت دراجة هوائية ما إن استقر بي المقام في إحدى شوارع " فُلهم "، المجاورة لحي " أيرلس كورت "، حي الوافدين العرب بهدف الطبابة أو إشباع الغرائزالمستورة. على دراجتي الهوائية خبرت معظم أحياء لندن، حيث توجد النوادي السينمائية، والمسارح غير التجارية، وأبهاء الموسيقى، كما خبرت راديو 3. في الشهور الأولى سجلت شيئاً من ذلك في قصيدة " حييتُ صباحاً بائعة الأنتيك ":
حييتُ صباحاً بائعة الأنتيك والقطَّ النائمَ خلف زجاج الباب المغلقْ. قدماي هما، عينُ الخطوات، طلاقةُ من يتلمس جيباً مثقوباً. وحنينٌ أخرقْ. سميتُ حماقاتي الأولى، وصداقاتي الأولى، وتمثلتُ البيتْ: " آيةُ آمالي فيما أخفيتْ ".
غنيتُ على مدرجِ " سانت بول "، وقلدتُ العشاق ببلدانٍ شتى، أبليتُ بلاءً حسناً في عُرفِ السواح: " هلْ تشري مسْ جانيت الشاي معي في مقهى ياسين؟! "
لطّختُ قميصي بالأصباغِ وقلتُ لمن أعشقْ: " لنْ أشربَ كأسكِ ثانيةً "، ولجأتُ الى الملصقْ مطعوناً مثل شهيد! في المدنِ الكبرى أشعرُ أني أكثرَ يتماً، ويتيماً حين أسمي كلَّ حماقاتي الأولى وصداقاتي الأولى.
في أيرلس كورت رأيتُ نديماً أعرفه مطعوناً بالشبهاتْ، ـ " من يتبعُ ظلي حتى هذا الحدْ؟ " ـ " منْ يطعمُ لحمَ أخيه مخالبَ موطنه المرتدْ؟ " ـ " منْ يُطلق كلَّ يتامى الطير من القفصِ الأسودْ؟ " من خوفي لمْ أبرأْ بعدْ. لكني حين رأيتْ في أيرلس كورت نديماً أعرفه، ولى مرتاباً من وجهي، وأنا وليتْ. منْ يتبعُ منْ؟ من يخشى منْ ؟
حييتُ مساءً بائعةَ الأنتيك والمطرَ الناعمَ فوقَ زجاج الباب المغلقْ. قدماي هما، عينُ الخطوات، مرارةُ من يتعلّم حكمتَه السوداءْ في هذا الكهف، ويعتزل الأيام مقذوفاً بين ثنيات البرد الأزرقْ.
لا أسألُ إلا عن وطنٍ يسألُ عني، وأغني حيثُ أشاءْ: المسك بأردان الشرقي، وملء ضفائره الجناءْ! ( 1979 )
2
في غرفة الفندق الصغير في حي محطة ڤيكتوريا، وعلى السرير الذي بدا لي حينها مفتعلاً، مصنوعاً، ألقيت بجسدي كما ألقي بحمولة ثقيلة من على كاهلي، بنية أن أتحسس على مهل ملامح اليوم الأول من أيام حريتي، بعد إطلاق سراحي من السجن الكبير. أذكر أن الفكرة لم ترقني كثيراً. بدت مفتعلة مصنوعة مثل السرير الذي ارتميت عليه تماماً. إن رأسي وقلبي وكياني كله غاية في الاجهاد، لا بفعل ساعات السفر، بل بفعل المسافة الزمنية والجغرافية التي قطعتها بهذه السرعة تحت ظل قرار خطير كهذا. تذكرت شيئاً من تنديد محمود جنداري في رسائله التي بعثها لي يوم كنت أقيم في بيروت مجهداً ملتاعاً بذات الطريقة. الآن وأنا أكتب هذه السطور، بعد قرابة ربع قرن من هجرتي الى لندن، هاجمت لساني ذات المرارة التي أحسستها في نزل ڤيكتوريا. أحسست فجأة بأن أيام وصولي الغريب الى لندن قد أصبحت تاريخاً هي الأخرى، تاريخاً صالحا للتذكر وللتأمل. أحسست بأني أتأمل تاريخاً سابقاً يتأمل تاريخاً سبقه! الفرق أنني في نزل ڤيكتوريا وضعت أول لبنة لمعمار حالة نفسية غاية في الغرابة بالنسبة لكل تجربة حياتي. كان الحاضر بالنسبة لي، أنا الذي بدأ ثلاثينيات عمره، تيار ماء يلتهم كل ما يُقبل عليه من المستقبل وينسبه لنفسه. هذا هو شاغله، بغض النظر عن طبيعة الماء وطبيعة تياره. ماء لا يخلو من غرين بابلي، أو رائحة أسماك. ولكن لا يخلو من رائحة عفن أيضاً. تيار الحاضر هو الحركة الوحيدة التي تسمن وتزداد حيوية بفعل تغذية المستقبل الذي لا حضور ولا شكل له. في نزل ڤكتوريا أصبح الحاضر مرآة سحرية للماضي. وتلاشت كل فاعليته السابقة في التهام مجرى المستقبل غير المرئي. لا بد أن الصورة المريعة الجديدة أخذت كامل قيافتها مع الأيام، ولا بد أن الأيام الأولى شغلتها مخاوف الحياة الغريبة، التي كانت عصية على كل محاولة للترويض من قبلي.ولكن بهذا المعنى وجدت نفسي مجهداً الى ذاك الحد من الاجهاد على السرير الذي بدا مفتعلاً مصنوعاً. لقد اكتشفتُ أنني عاجز تماماً عن التعامل روحياً مع الحاضر. والتعامل مع المستقبل دربة ايديولوجية لا عهد لي بها. التعامل مع الحاضر أخذ صيغة السعي لتعلم اللغة الانگليزية الجديدة علي تماماً. وعبر هذه الطريق تحول الحاضر في مجمله الى بهو مكتبة هائلة الحجم. مكتبة أحيط فيها بالمعارف التي تعينني على تأمل ماضيّي واستيعابه وتفسيره. صحيح أن قصة "مدينة النحاس" بدأت من قراءة للحكاية في كتاب "مروج الذهب"، إلا أنها رؤيا خرجت من مناخ هذه المشاعر التي أحاطت بي. ولا أحسب أنها تُفهم بغير هذا السبيل.
3
كنتُ أقول للنفس: محظوظةٌ أنت رغم كل شئ. محظوظة رغم الجلطة القلبية الحادة التي ختمت السنة الأولى من وصولي تماماً، و الجلطة الثانية بعدها بحوالي إحدى عشرة سنةً. رغم سنوات الزواج الفاشلة بسبب فشلي القاطع في الإحتراس من هِنات النفس. رغم رقداتِ المستشفي التي أحالت لحظاتي الى تأملات بوذي في كهف العزلة المطل على مشارف النهايات. رغم كل ذلك كنت أقول للنفس: محظوظةٌ لأن الأكثرية من أبناء جيلي، ممن تركتهم ورائي في العراق، وممن خرجوا مع من خرج بعدي، ماتت لعلة ظاهرةٍ من العلل. في الصفحة الأولي من مجموعتي الشعرية الكاملة (2001) وضعتُ أسماءهم وأهديتها لهم: (محمود جنداري، جاسم الزبيدي، عباس فاضل، محسن أطيمش، منهل نعمة، محمد شمسي ،شريف الربيعي ،موفق خضر، عبد الجبار عباس، غازي العبادي، موسى كريدي، أحمد فياض المفرجي، أحمد أمير، عبد الأمير الحصيري، سامي محمد.... الى أرواح هؤلاء وكل المنسيين غيرهم من أبناء جيلي، ممن هرستهم عجلة المرحلة البربرية، أهدي قصائدي هذه، عاجزة عن العزاء والسلوان.)
على أن الأيام لم تترك لهم من أثر، لأن
الأثر كالأشجار، ومن لا وطن له لا يشبه شجرة . كانوا من النخبة العارية
من العقيدة كما كنت ، ونعالي المطاط يزلق في الصيف ، حتى
لأبدو حافياً. جسدي معرضٌ أبداً للشمس والريح،
وقدمي لتراب الأرض. وخطورة عري كهذا
تكمن في أنني لا أقدر على إخفاء حذري من الموقف
الإيديولوجي، وارتيابي من الإيمان الأعمى. حتى صرت موضع
ارتياب وشك بفعل هذا العري الذي يبدو تسيباً. ولقد
كان هؤلاء الأصدقاء، حتى
المشتملين منهم برايات المواقف والعقائد، أوفياء في
السر لروح الشاعر المأخوذ
بالحيرات وبالغيب وبالماضي. لا أريد أن أنسى
التذكير بأن أكياس الشاي والسكر وصابون
الرقي الأخضر والليفة الخشنة والتمر ومعجّنات
الكليچة في حقيبة سفري لم تكن كلمات بل أشياء. كنت
فعلاً على قدر من الرهبة والخوف من المجهول.
الأشياء التي ازدحمت في الحقيبة هي قوت الطريق. عمتي كانت
تسميه أيام حكاياتها في طفولتي" طريق الصدْ لا ردْ
". وأنا أسميه اليوم كذلك. في قصيدة
كتبتها عن أصدقاء لي كانوا من منفيي نيقوسيا جاء
فيها:".. هذا منفى لا رجعة فيه، وطاحونٌ لا يبلى ". المنفيون
قالوا حينها: في هذا نعيق غراب مشؤوم . قبل لقائهم
كنت قد كتبت قصيدة قصيرة لا نبوءة فيها:
(1979)
4
العراقي لم يُمنحْ ديناراً واحداً من حصة نفطه. العراقي الشاعر، خارج حقل " ثقافة الإعلام "، لم يسمع صوتاً واحدا يمنحه حق الإنتساب لفرادته. هذا العراقي، هذا الشاعر، هو الذي أحتلّ شكل الجندي القتيل والأسير والعائد داخل قصائدي، قبل أن تحلّ الحرب وتملأ العراق والجوار بالجنود القتلى والأسرى والعائدين. كنت أتقاضى 40 ديناراً مكافأةً شهرية على عملي الكتابي الحر في مجلة ألف باء، وفي لحظة الخلاف العابر يرفع سامي مهدي ورقة مقالتي بين أصابعه ويصرخ: أدفع لك أربعين ديناراً ثمن قصاصاتك هذه؟! الكاتب العربي كان يفد بحماس الى بغداد، مركز ثوريته وعروبته ومصدر دخله المجان. وزميلي العربي يتقاضي في العلن وحده 400 ديناراً. أقول لزميلي العربي: لن أستطيع أن أشرب معك كأسك المتفوق في فندق بغداد بعد اليوم، ولن تشرب معي كأسي المتواضع في خمارة گاردينيا. كانت ثقافة الإعلام آنذاك تريد مثقفين عرباً تربحهم بالأموال، أما نحن العراقيين فلها أن تربحنا بالترهيب والقوة! لم يكن أحدٌ من أبناء جيلي يرى ويدرك ما يحدث في الحياة إلا عبر مرآة الإيديولوجيا التي يؤمن بها. أما الإنسان الذي يُقهر في خمارات الروح المعتمة المدحورة فلا شأن للأفكار والعقائد به. الإنسان ثريا مُطفأة يذرق عليها الذبابُ ويتناسل، مُعلقة في سقف بهو الأحزاب التي تزعم أنها تسعى الى إضاءته.
في خمارة گاردينيا لم تكن هناك ثريا يذرق عليها الذباب ويتناسل. بل كنا، نحن فرسانها الفانين، نضيء ناعسين كالشموع. نضيء ونُطفأُ بفعل أية نسمة ترتقي إلينا من ضفاف دجلة المجاورة.
5
عبرت جسر "الجمهورية" من جانب "الكرخ" الى "الرصافة". عبرت من "العباسية"، قاطعاً مبنى "المجلس الوطني" الذي يشبه بناءً رومانياً، الى "الباب الشرقي". انحدرت السلم الإسمنتي الى مُبتدأ شارع "أبي نواس" قاصداً خماراته. قاصداً خمارة كاردينيا بالذات. قبل الدخول الى البهو أخرجت من جيبي كل المبلغ الذي أعددته من يومين، واحتضنته بقبضة يدي. كمن يضمن حياة موعودة مقبلة! في الركن قرب النافذة طلبت نصف ربع العرق، وحوله انهلّت صحون المازة: الخس، واللبلبي، والباقلاء، والچِپْس، والخيار، والبطيخ على ما أذكر. كنت محاطا بصحبة من العباسية تشعر أنها مورطة باقتحام مناطق محرمة. المناطق المحرمة تكمن في مواطن اللذاذة في الجسد والروح. ومن منا كان يجرؤ أن يفصل بين الروح والجسد؟ من الكأس الأولى بدأ دبيب الخمرة يقتحم الطرق الوعرة لتلك المناطق المجهولة. وكنا نعجب كيف تبدأ تلك الطرق الوعرة من الأسفل، من القدمين المحاطين بالجورب والحذاء. وكيف تمس أنامل الشيطان الوبرية، أول ما تمس، سيقاننا تحت البناطيل، وتبدأ تتصاعد الى الركبتين. الخدر يرتبط بخيوط دقيقة بمراكز مجهولة، تبدو لنا أحياناً تحت الحجاب الحاجز، وأحياناً في الصدغين، وأحياناً ثالثة بمكان ما في الفك السفلي. لأنه سرعان ما يرتخي مستقبلاً رغبة للضحك لا تقاوم. كان دبيب الخمرة يعني الضحك الذي لا مردّ له. وكان هذا موطن الجاذبية لنا، نحن أولاد "العباسية". كنت بينهم عراب الضحك المولّد من وحدة المخيلة والواقع المرئي. أقحمُ الشواهد العينية داخل مرآة مقعّرة، وأنقلها بحرارة الى أصدقائي عن طريق أداة ما كانوا أليفين معها من قبل: اللغة! كنت حديث العهد باكتشاف الكلمات وسحر قدرتها على خلق عوالم بديلة. مرة كنت أقطع الجادة السحرية التي تتوسط قلب "العباسية"، وكان بصحبتي عباس فاضل، في عصرية تعتصر قلب أحدنا إذا ما تخلف دقائق داخل جدران بيته. لأن عصريات "العباسية"، قبل بدأ تفشي رائحة التمن في الأفق، هبةٌ كريمة تشترك في تقديمها كل الطبيعة، بكل ما فيها من نخيل، وكالبتوس، وتوت، ومياه منبسطة لدجلة المحاط بأشجار الغَرَب البارد. كانت المساحة السحرية التي تتمتع بها الجادة إنما تبدأ حقاً من البئر الذي يسقي مزارع "علوان الهندية" على الجانبين، ثم مروراً بسفارة الفاتيكان على اليمين، ودور "حجي عباس" على اليسار، ثم الدخول ثانية في صفّة البيوت الراقية حتى نهاية الجادة، حيث مخاطر "بيت رداعة" القادرة على قطع الطريق علينا متى شاء صغارها، أو شبانها! ما إن بلغت وعباس بوابة سفارة الفاتيكان ذات الشبك الحديدي حتى عنَّ لي، وأنا أتمثل الأدغال والأشجار الكثيفة في الداخل، بأن أطلق سحر الخيال من عقاله. خاصة وأنني على اطمئنان بأن عباس الذي معي كان عرضة لسيطرتي المطلقة. صرخت كمن هبط عليه ملاك محذّر: "عباس!"، وأطلقت ساقي للريح باتجاه نهاية الجادة، غير مبال بمخاطر صغار "بيت رداعة". كان عباس بالتأكيد أخفَّ مني حركةً وأسرعَ خطى، هو لاعب كرة القدم الماهر. في نهاية الجادة وقفت متقطعَ الأنفاس، لا أكاد ألتفت الى مقدار نجاحي في تمثيل الدور. فأنا والدور واحد، لا فاصل بيننا، فكيف ألتفت اليه! كان عباس في غاية الذهول واصفرار الوجه. يتحاشى النظر اليّ، ولكنه ينتظر مني تفسيراً لكل ما حدث لكلينا. كان قد دخل الدور ولا مرد لذلك، الأمر الذي ملأني بالإطمئنان والثقة. قلت له، وأنا داخل الذهول: "هل رأيتَ ما رأيتُ؟". "ماذا؟". "داخل السفارة. داخل الدغل؟". "لم ألحق حتى للنظر داخل السفارة! ولكن ماذا رأيت؟". هنا وجدت الكلمات لم تنضج بعد للإرتفاع الى مستوى ما حدث. التفت اليه باهت الوجه، غائم العين. كنت على المسرح وحدي أتمثل سانثا بينثا، على أني دون كيشوت، دون أن أفقد وعي الممثل الذي يقوم بدوره. "شعره الطويل اختلط بالدغل فما كدت اتبين إذا ما كان طنطلاً حقاً، أم شجرة!". أدرك عباس شيئا يسيراً مما حدث. "تقصد...؟". لم أتركه يكمل. كنت أخشى من الكلمات غير السحرية، كلمات الحياة اليومية، من أن تتلف وشاح الخيال، الذي ارتفع بنا الى المسرح. "ما كنت أعرف إذا ما كان طنطلاً سخيفاً أو شجرة؟ من يصدق؟". تركت فمي يردد الكلمات برتابة لا تشوبها عاطفة. منحت العنان لملامح الوجه وقوى تعبيرها، وأخذت أخطو عائدا، الأمر الذي ترك عباس غاية في الدهشة والذهول. "تعود الى نفس الجادة التي قطعتها هرولة قبل دقائق؟!". لم أجبه، بلْ لم أشعره بأني سمعته، أو حتى بأني أحس بوجوده أصلاً. صار المسكين يلاحق خطواتي مليئاً بالارتياب، لا مني أو من ما حدث، بل من نفسه أيضاً. حين وصلنا بوابة سفارة الفاتيكان لم ألتفت اليها، بل لم أترك خطواتي تشي بأي ارتباك يذكر بما حل بها من خفة الحركة قبل قليل. قرابة نصل الى أول "العباسية" حتى أطل علينا "جعفر عفّي" مقبلاً من بعيد. كان عفّي أخف رأساً من عباس، وأيسر علي في إقحامه معي على خشبة المسرح. كنت أعرف أن عباس سيحتكم للوافد الجديد، فسارعت الخطى اليه وأخذته جاباً. همست بأذنه بحرص وإشفاق: " لا أعرف ما حدث لعباس! قبل نصف ساعة بدأ يقص علي حدثاً لم يحدث. يقول إنني رأيت ما أفزعني وجعلني أركض طوال الجادة الى نهايتها. يقول انه ركض معي هو الآخر دون معرفة السبب. أي أمر من هذا لم يحدث طبعاً. وأنا خائف من عقله، أو قل أعصابه. هل لديك أي علم بوضعه النفسي نهار هذا اليوم، أو البارحة؟". لقد ألقيت مقداراً من الثقة المفقودة على شخص عفّي، وما كان ليتوقعها، فاستقبلها بترحاب وامتنان، واندفع دون تريث الى عباس. وضع ذراعه اليمين حول عنقه بحنو، وأخذه جانباً. سمعته يقول:" أبو خضير. أشياء مثل هذه تحدث دائماً. أنت لا تعرف كم هو عجيب علم النفس! أشياء يتصورها الانسان وكأنه يراها بعينيه وهي مجرد خيال. أنا قبل أيام ..."، وراح يقص عليه أمراً لم أسمع نهايته، لأني ذهلت بوجه عباس الذي أصبح بلون الكركم. لقد نسي المسكين كل حيرته بشأني، وانحدر الى الحيرة المروعة نفسه: هل مس عقله جناح طائر الجنون؟ كان يحب هذه الاستعارة. في اليوم الثاني وجدتُ نفسي وقد تلبستُ شخصية الممسوس، الذي لا يحب مغادرة خشبة المسرح. استعان عباس بآخرين غير جعفر، الذي قلب عليه ظهر المجن. استعان بهم لينجو من الشك بنفسه، وليشكل جبهة لا ينفرد بها وحده في متابعة حالة فوزي الجديدة. وأنا ازيد الطين بلّة مع كل شخص أقابله: أحيي بطريقة غير مألوفة، وأبتسم بتكشيرة مريبة. طبعاً، لم أواصل الدور طويلاً خشية أن يصل الخبر المروع الى أهلي. بقيت أياماً وراءها احاول أن أقنع عباس بأن الأمر لم يكن أكثر من مزحة لا غير. لم يكن أكثر من محاولة في تجريب داخل سحر الكلمات، وسحر المخيلة التي تخدمها. كنت احاول أن أُبلغه بأن ما فعلته انما هو بناء قصيدة من كلمات، ولكن ليس على ورق. محاولة هجران الإسم الى فعل. هجران " أملك خيالاً " الى " إني أتخيل ". في هذا يكمن سحر الكلمات. وعباس يرتاب مزيداً من الإرتياب. محاولة خلق عوالم بديلة تليق بحاجتنا الحارقة للحياة داخل دوامة حياة مبتذلة . كان عباس، بحاسة الفنان الكامنة في أعماقه، يفهم كل هذا، لو تم فقط بطريقة أسلم من هذه التي جفّلت الدم في عروقه.
6
في هذه السنوات كنت أحلم بكتابة قصيدة واحدة يتم فيها تحول الإسم الى فعل. تتم اللمسة السحرية بين طرفي السبابتين الطامعتين باللقاء، بين يد الله ويد آدم، في لوحة مايكل أنجلو الشهيرة. بين اللحظة الواقعة التي تؤرخ لها الساعة التكّاكة، وبين اللحظة الأبدية الفالتة من التاريخ. كنت أحلم بقصيدة واحدة يتحقق فيها شئٌ من هذا، فلم أفلح! في واحدة من قصائد منتصف الستينات توهمت أن يحلّ فوق قدميّ ذلك القادم من العالم الآخرالمحاذي :
أُحبه لو جاءْ فوق قدمي وكلّم الأشياءْ. أحبه يملأُ وجه الأرض ويفتحُ الزهوَ الذي يُريد. أحبه: خطوته، وصوته الجديد.
خفقة جناح ملائكي منتظر لم تتحقق، ولم يتحقق عقد الأمل على البراءة. فعقدت الأمل على التجربة، وهي مزدانة، بفعل عراقيتها، بعمق للألم فريد:
... علمتني الأتراحْ. كتبتَ فوق الرملِ سري، وعرضت الرملَ للرياحْ. ما كان ذنبي، يا صديق الدربِ، لو أخفيتُ سري مرّةً أخرى، وأخفيتُ الجراحْ! إنها موقدةٌ في الدرب أيامي، ولي صوتٌ تكسّر، يا صديقَ الدرب لي صوتٌ تكسّر، وسؤالٌ لفّني مثل وشاحْ.
7
بابنا القديمة، باب بيتنا الطين، خشبية مطعمة بمرصعّات حديد أو نحاس. طرفها الأعلى خفيف الاستدارة. في وسطها عروة ثقيلة، وثقب المفتاح مهترئ الخشب، لاستعمال لم يعد لنا عهد به. ما بين حافة الباب والحائط فتحة كافية لإدخال الكف الى الجانب الآخر ورفع اللسان الحديدي. هذه الفتحة تركت ثقب المفتاح لا معنى له. الباب مشرعة طيلة النهار، وفي الليل توصد ويردُّ اللسان الحديدي الى مستقرّه في الحائط. أي يد من الخارج قادرة على رفعه ثانية بالسبابة. مجاز صغير، على طرفيه غرفتان طينيتان، بنيتا بالطابوق بعد أن بدأ الأبناء الكبار عملهما في الخطوط الجوية العراقية. ثم تلي ذلك طارمة على امتداد الغرفتين يتوسطها عمود خشبي ذو رأس مزخرف في قمته، عادة ما يكون قاعدة لعش من أعشاش الطيور المهاجرة. في الجانب الآخر من الحوش، الذي يتوسط البيت، غرفتان بقيتا طينيتين الى أن هدم البيت في السبعينات من قبل سلطة البعث. حوش البيت تتوسطه شجرة توت خفيفة الخضرة، متواضعة الحجم، لا تشبه أشجار التوت الضخمة المنحنية على دجلة في "الدامرجي". تحتها يستقر حوض لصنبور الماء.في الجهة الأخرى شجرة دفلى كثيفة، عميقة الخضرة، تُطلع أوراداً حمراء قانية، دبقة. محجّة للذباب. كنا نضع أصابعنا على الدبق الذي يشبه الصمغ، ثم على ألسنتنا لنتحسس مرارته. شجرة التوت نهارٌ، وشجرة الدفلى ليلٌ. كنت أحب شجرة التوت، أتسلقها وآكل من ثمرتها الحلوة الباردة. في أعاليها أستقر على غصن من أغصانها، ومن هناك يحلو لي أن أرقب الهيئات الإنسانية الأليفة تحتي، أرقب العالم من الخارج. عالم عمتي العمياء، المقرفصة على مندرها أمام صحن السجائر المزبّن. وأمي التي لا تستقر على حال، فوّهة التنور، حوض الماء، مجراه الذي يمتد الى خارج البيت. كنت أحب شجرة التوت، ولكني كنت مشدوداً في السر الى شجرة الدفلى، شجرة الليل. كانت أشدّ كثافة وأعمق خضرة. لا تعطي ثمرة، ولا أنتظر منها عطايا. متمنّعة، ومكتفية بذاتها. مؤخراً قرأت رواية تحت عنوان "علي ونينو " لقربان سعيد (أسم مستعار لكاتب يهودي مولع بالشرق حتى تحول الى الإسلام. ولد ليف نوسيمبوم في باكو عام 1905 ، وهرب من آذربيجان خلال الثورة البلشفية، واستقر في برلين). في الصفحة 52 يرد هذا النص بشأن إنسان الصحراء وإنسان الغاب: "..."عليك أن تأتي وتقيم معي في قلعتي ذات يوم"، قال الرجل الشيخ،"سوف ترى بعينيك الأشجار القديمة في الغابة الاستوائية." "أي غبطة، يا صاحب الجلالة، ولكن من أجلك إذا جئت، لا من أجل الأشجار." "ما الذي تأخذه على الأشجار؟ إنها بالنسبة لي تجسيدٌ لحياة مُنجزة." "علي خان يخاف من الأشجار خوف الأطفال من الأشباح." قالت نينو. "ليس لهذا الحد من السوء. ولكن ما تشعره نحو الأشجار أشعره نحو الصحراء... عالم الأشجار يربكني، يا صاحب الجلالة. إنه مليء بما يُخيف وبالغموض، بالأشباح والشياطين. لا يسمح لك بمدى النظر. فأنت محاط به. إنه معتم. أشعة الشمس ضائعة في مغيب الأشجار. في هذا المغيب كل شيء يبدو لي غير حقيقي. لا، أنا لا أحب الأشجار. ظلال الغابات يقمعني، ويحزنني أن أسمع حفيف الأغصان. إنني أحب الأشياء البسيطة: الريح، الرمل، الحجارة. الصحراء بسيطة كطعنة سيف. الغابة معقدة كالعقدة الغوردية. في الغابات أضل طريقي، يا صاحب الجلالة." نظر دادياني إلي متأملا:"أنت تملك روحَ رجل الصحراء،" قال. "قد يكمنُ في هذا الفاصل الحقيقي بن الكائنات الإنسانية: كائنات الغاب وكائنات الصحراء. ثمَل الشرق العاطفي الجاف يًقبل من الصحراء، حيث الرياح الساخنة والرمال الساخنة تجعل الناس سُكارى، وحيث العالم بسيط وبدون مشاكل. الغابات مليئة بالأسئلة. وحدها الصحراء لا تسأل، لا تعطي، ولا تعِدُ بشيء. ولكن لهبَ الروح يأتي من الغاب. إنسان الصحراء إنما يملك وجهاً واحداً، ويعرف حقيقة واحدة، وهذه الحقيقة تكفيه تماماً. إنسان الغاب له أكثر من وجه. المتعصب يأتي من الصحراء، ومن الغاب يأتي الخلاق. وقد يكون هذا هو الفارق الأساس بين الشرق والغرب."..." لحظة التأمل هذه، لا الاستنتاج الذي توصل إليه الرجل الشيخ، هي التي استهوتني. ذكرتني بعالميْ شجرة التوت وشجرة الدفلى في حوش بيتنا القديم، وبالاستنتاج الذي قادتني إليه الرغبة الملحة للتعرف على النفس. إن شجرة التوت لم تشغل بالي إلا باعتبارها تجسيداً لحياة إنسانية مُنْجزة. وكذلك شجرة الدفلى. مرّةً وأنا أستمع لأوبرا "كارمن " هاجمني الهاجس ذاته بشأن الشجرتين، فعجبت لمقدار الإلحاح الذي أتعرض له من ذاكرتي المترعة بتربة الماضي. دون جوزي، الجندي العاشق، الذي يورَّط بحب الغجرية النارية العواطف كارمن، ذو علاقة بخطيبة ملائكية الطبع، ميكائيلا . لم يكن في حقيقة أمره بين نارين، بل بين نار الشهوات الحارة الغامضة المليئة بالأركان المعتمة، وبين رقة الحب السوي. النزوع الشيطاني شاء لدون جوزي أن ينتصر لنار الحب، لا لرقة الحب. أن يستجيب لجاذبية رسولة الليل، لا رسولة النهار. بفعل حب كارمن الذي أوصله للموت، صار حب ميكائيلا عبئاً مثقلاً بمشاعر الذنب. هنا رأيت كارمن تأخذ شكل شجرة الدفلى، وميكائيلا شكل شجرة التوت. كم علقت لمسة شجرة التوت العذبة، الحانية في ذاكرتي الظامئة. ولكن شجرة الدفلى وجدت لها مجرى جوفياً داخل كياني كله. كمجرى مياه السياب الجوفية التي تنتسب لأسطورة عالمه الشعري. كم تبدوان رمزين مذهلين، تطورا مع الأيام الى كيانين: كيان اشدُّ نفسي إليه. أحاول أن لا يفلت مني كما يفلت خيط طائرة ورقية يربطني بالأفق الواسع الرحب. فيه نقاهة وسوية، ومحاولة شاقة للتوازن. وكيان يشدّني إليه. أفزع منه الى النور، ولكن عبثاً. أفزع من لاسويته ومن لاتوازنه، ولكن هيهات! يظلّ أكثر ثقلاً، لأنه أكثر غزارة وجود. إنه البئر المغذي لعروقي في التربة السوداء. إن مصطرعي بين طرفين يبدو مضحكاً، لأنه مصطرع غير متكافئ. انشدادي الى ما هو سوي عقلاني، ولكن واهن. في حين يبدو اللاسوي، اللامتوازن جوهرياً.
كانت عمتي العمياء تفضل الجلوس تحت شجرة التوت."ظلالها باردة "،تقول. وأمي وبقية الأهل يحتسون شاي العصاري هناك أيضاً. من داخل الغرفة كنت أرقب الأوراق وهي تملأ الحوش حركة، كتلك الظلال التي غطت جسد المتنبي وجسد فرسه في قصيدة شعب بوّان، بفعل ظلالها المستجيبة لضوء الشمس. أوراق الدفلى لا تستجيب. لا تقوم بدور المرايا. الضوء الذي يقبل عليها سرعان ما تُطفئه، لتحتفظ بكيانها الذي لا ينتسب للضوء والظل. بل ينتسب لعالم داخلي له ضياؤه وظلاله. عمتي لا تقرب الدفلى فهي بلا ظلال، وظلالها، لو توفرت ليست كريمة. أمي تقول:"لولا زهرة الدفلى، التي تشبه حلمة المرأة المرضع، لاستأصلناها من العروق ". الغريب أن أخي الذي وسع الطارمة بعد أن استبدل الطين بالطابوق، تجرأ على نصف فروع شجرة التوت فشذبها، ولكنه أهمل شجرة الدفلى المجاورة تماماً! وكأن الدفلى لا تستثير نظر أحد، لأنها تتطلع الى داخلها. شجرة التوت دائمة التطلع الى الخارج. من وراء شباك الغرفة المطل على الحوش كنت أتأمل الأوراق بخضرتها السوداء وأقارنها بالخضرة المضاءة للأوراق المجاورة. بين يدي كتاب تراثي أقرأ فيه بإيصات، متحاشياً المعاني التي تبدو لي باردة. جذوة الصوت تصلني بالموسيقى. وهذه بدورها تصلني بالمياه الجوفية. دائما كنت أتخيل الكتاب الذي بين يديّ مخطوطةً من المخطوطات. هذا الفعل يضفي على القراءة فاعلية السحر، ويعطي للصوت معنى باطنياً. الدفلى في الخارج تنعكس على أغصانها وأزهارها إضاءات الظلمة. التوت تنعكس على أغصانها وثمارها إضاءات النهار. أتأمل في هذا المعنى وأبتسم. كنت أتصور لوحات بروغل، وروسّو التعبيرية إنما رُسمت من وحي أشجار الدفلى. حتى أنياب النمر، والصمت الذي يتوهج من كيان عازفة الناي. كذلك أعمال فاغنر، بروخنر ومالر الموسيقية. لوحات الإنطباعيين جميعها تتلألأ فوقها ظلال أوراق شجرة التوت، دون شك. الكتاب جميعاً يُقبلون علي، وسرعان ما يتوزع طريقهم عند مفترق الى اثنين، شأن عالم الرسم. هاهي قصص كافكا، رغم الترجمة العربية الرديئة، تكشف عن هوية الدفلى فيها. ديستويفسكي، ميلفل، ريلكة، إليوت، ميلفيل، توماس مان وبورخيس ....في الشق الثاني يتألق الطبيعيون والواقعيون، والغنائيون. يتألق همنغواي، لوركا، هيرمن هيسة، ليرمنتوف، بوشكين ...! والآن من أنا بينهما؟ هل أنا وحدة تعارضهما؟ إنني مفتون بوحدة التعارضات. كنت دائماً داخل هذا المختبر. دائم التأمل في غرفة البيت، أمام صندوق كتبي، في المسافة التي تفصل شجرة التوت عن شجرة الدفلى. حتى شجرة التوت الضخمة المنحنية على دجلة، والتي كنا نقصدها لرحابتها، نأكل ثمرتها ونرمي بأنفسنا في النهر، ما كانت المسافة بينها وبين شجرة الدفلى داخل البيت لتغيب عن دائرة تأملي. إنها مسافة تنقلك الى مزيد من اتساع الأفق. المسافة بين التوت والدفلى مسافة بين عالمين: خارجي هو امتداد لأغصان التوت الى الأفق، وداخلي دون امتداد، لأن عالم الدفلى الداخلي يبدأ مباشرة من "ماوراء " القشرة. إنه لا يعتمد مقياس المكان والزمان الأرضيين، ولذلك تعيش عمقه ما إن تتجاوز القشرة. الرحيل المألوف للإنسان في كل الأساطير إنما يتم من العالم الظاهر الى العلم السفلي، وليس العكس! حين اطلّعت على قصص السومريين، ورحلة إنانّا الى مملكة أختها أرشيكال في العالم السفلي، وتبين لي أنهما صفحتان لكيان واحد: الضوء والظلمة، الحياة والموت، الظاهر والباطن، استعدت فكرة وحدة التعارضات. إن إنانّا وجدت لتنحدر، محكومة بضرورة التوحد مع جزئها الآخر، الى العالم السفلي من أجل لقاء أختها، أو نصفها الآخر أرشيكال. فلمَ لا تكون التوت والدفلى هما أيضاً صفحتين من كيان واحد؟ الأمر لم يستقم بين يدي، لأنني حين تعرفت على حقل علم النفس سميت الأولى عالم التوت الإنبساطي، والثانية عالم الدفلى الإنطوائي. وتعرفت على نفسي في الثانية ككاتب. حتى على الحافة الصخرية للسد النهري، في منطقتي العباسية، لم يغادرني انتسابي هذا، وأنا أتأمل تسارع الماء في إيقاع واحد، واتجاه واحد يذكراني بالخلود. كانت الأسماك، ابنة الماء، وحدها التي تلتزم إيقاعاً متعارضاً، واتجاهاً مضاداً. فهل تذكرني بعالمي الباطني، عالم الدفلى ابنة الطين؟
|
|