شيء ما كتاب عن القسوة
د. حسن مدن
يعدنا الشاعر العراقي فوزي كريم في مقدمة كتابه “العودة الى كاردينيا” بكتابة “سيرة شعرية” عن ذاته بصفته شاعراً، ويصر على أن ما بين دفتي الكتاب ليس سيرة ذاتية، بل محاولة لإدراك الماضي في ضوء مشاعر الحاضر ورؤاه وأفكاره، بل إنه أكثر من ذلك يؤكد أن الوقائع التي سيرويها تبدو غير وفية بالضرورة للتاريخ قدر وفائها للذاكرة التي لا تتطابق مع هذا التاريخ، لكونها فاعلية شخصية مستقلة وعلى قدر من الحرية. لكن فوزي كريم، من حيث لا يعي في الغالب، لا يكتب سيرة شعرية كما وعدنا، أي أنه لا يقف عند محطات سيرته كشاعر، رغم صعوبة أو حتى استحالة الفصل ها هنا بين الشاعر والإنسان، أي أنه لا يقول بالوضوح والإسهاب الكافيين ما الذي عنته الوقائع المريرة التي يسردها في نصه الشعري، رغم تعدد المرات التي ترد سريعة عابرة حين يستشهد ببعض قصائده أو بالأحرى بمقاطع منها. ما يبقى في أذهاننا بعد أن ننجز قراءة الكتاب الواقع في نحو 230 صفحة ليس السيرة الشعرية لفوزي كريم، بل تلك السيرة الدرامية لمراحل من تاريخ العراق التي تتقاطع مع سيرة الشاعر. هذا الشاعر الذي اختار أن يكون “لا منتمياً”، فهو بعيد عن السياسة وعن الأحزاب وعن التيارات العقائدية على أنواعها، لذا فإنه لا يكتفي بهجاء الحزب الذي كان حاكماً في العراق حتى أمدٍ قريب، وإنما يهجو معه الأحزاب الأخرى أيضاً، رغم أنه يخص الحزب الأول بتقريع خاص، بصفته مسؤولاً عن كل الخراب الذي عانى منه العراق وقاد الى تلك الكوارث الدامية التي نعرف. إن الشاعر الذي بدأ شبابه وجودياً مأخوذاً بسارتر وكامو شأنه في ذلك شأن فريق من مثقفي وأدباء الستينات كما يصفهم في عراق ذلك الحين متعمداً إظهار عبثيته ولا مبالاته وازدرائه لما حوله، خاصة السياسة يجد نفسه في هذه السيرة متورطاً في السياسة بصورة لا تقل أبداً عما كان سيفعله أي أديب آخر خبر الحياة السياسية. فوزي كريم يفعل ذلك بلغة رشيقة فيها ظلال الشعر وسرد تشويقي فيه نفس الكتابة الروائية، حيث تتشابك وتتنافر المصائر الفاجعة للشخوص الذين ترد أسماؤهم ووقائع من حياتهم في سيرته، ويستعين الكاتب بسلاسة بمنطق التحليل النفسي وهو يعرض هذه الشخوص أمام قارئه. وتظل القسوة هي الحاضر الأكبر في الكتاب، إنها ليست قسوة الكاتب، وهو الشاعر المرهف الذي يحمل حقيبته خلف ظهره ويهاجر حين تضيق الحياة بوجهه في بلاد ولا يعود بوسعه البقاء أكثر وسط مظاهر الزيف والتسلط المحيطة به، وإنما هي قسوة الواقع الذي تجري أحداث الكتاب على خلفيته، إنها قسوة العراق المعاصر، بلداً ومجتمعاً، للدرجة التي تجعل فوزي كريم يتكىء على روايات تفصيلية لآخرين، كتلك التي تصف الطريقة الدموية المرعبة التي جرت بها تصفية أفراد العائلة الملكية صبيحة الرابع عشر من تموز/ يوليو 1958 والتمثيل الذي لحق بجثة الوصي عبدالإله وجثة نوري السعيد، ليبلغ بنفسه وبنا ذروة ذلك الشعور الفاجع بالقسوة والعنف اللذين أوصل بهما نظام صدام حسين الى مستويات لا تخطر على بال.
(جريدة الخليج) |
|