من كتاب ثياب الامبراطور (صدر عن دار المدى، 2000)
المقالة الثانية
مرايا الجذور : المذهـب الشامي والمذهب البغدادي
لِمَ أشعر دائما بالهوة تفصل بين النص الشعري العربي وبين الدلالات الروحية المفترضة التي تـتفجر من ، وتكشف عن ، فردية الشاعر ؟ بالهوة تـقطع الصلة بين قصائد الشاعر وعالمه الداخلي ، حيث تـفترض البديهة أنه مصدرُ القصائد ومبررها ؟ الهوة التي تحرم القصائد من قوة الحياة وعواطفها وأفكارها ، وتـتركها مادة "صناعة فنية" لا تـنتسب لهوية إنسانية ، تـتزاحم فيما بينها وفق قيم شكلية عمادها "المهارة" و "الذكاء" ؟ لا فرق ، تحت وطأة مشاعري ، بين نص قديم ونص حداثي ، بين قصيدة بيت وقصيدة تفعيلة وقصيدة نثر . هناك ثمة فرق لا أنكره بين صوتين شعريين ، بين تيارين شعريين ، قد يكونا ، على الأغلب ، منفردين ، منفصلين . أو يكونا أحيانا في تيار واحد أو صوت شعري واحد . أحدهما يشكل "السياق السائد" ، والنسبة الأعظم ، والسمة الأغلب ، منذ الجاهلية حتى قصائد "الصفحات الأدبية" التي تفيض في السوق . والآخر يشكل خيطا استثـنائيا فريدا ، حيـياً ، حتى ليبدو هامشيا ، يمتد هو الآخر بين تلافيف السياق الأعظم من الجاهلية حتى اليوم . إن شعوري الدائم بالهوة تـفصل بين النص الشعري وبين "المعنى" (وهي مفردة شائكة الدلالة كما سنتبين فيما بعد) دفعني إلى مراجعة هذا النص من الجذور . إذ ما قيمة الشكوى من بلوى النص الشعري السائد الذي لا يكشف عن هوية إنسانية فردية وراءه ، إذا كان هذا النص مجرد ثمرة تالفة لشجرة لا تسكنها العافية من جذورها ؟ ودفعتـني الأسئلة التي لا تـتوقف إلى المراجعة ، مراجعة الأنوية التي تجذرت واخترقت التربة وتشعبت واستطالت حتى اليوم ، وأعطت ثمرة "الحداثة الشعرية" التي أراها قناعاً شكلياً ، شأن عشرات الأقنعة الشكلية التي سبقته ، يُعتّم على الوجه الإنساني الذي وراءه بلحمه ودمه ، ولا يكشف إلا عن ألوان وتقاسيم وملامح مصنوعة بحكم "سياق عام" مفروض أو متـفق عليه . إن تجريد النص الشعري من دم قائله وعواطفه وأفكاره نزعة أصبحت جوهرية في مفهوم الشاعر العربي . فلنراجع كلمة "شاعر" في اللغة وقد اشتـقت مِن "يشعر" فماذا نجد ؟ "لسان العرب" و "تاج العروس" وقواميس أخرى تـتـفق على معنى واحد لكلمة "شَعَر" وهي "علِمَ" . وعلى معنى واحد لكلمة "شاعر" وهي "أنه يشعرُ ما لا يشعر غيره ، أي يعلم" . وهذا العلم يفسره "ابن رشيق" في كتابه "العمدة" بأنه "توليد معنى واختراعه ، أو استظراف لفظ وابتداعه ..الخ" . الأمر لا يتصل إذن بالمشاعر التي ألِف الناس معناها قرينة بالعواطف الداخلية الخاصة ، بل يتصل بالفطنة والذكاء . في الجـزء التاسع من كتاب الدكتور جـواد علي "المفـصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" – وهو أهم موسوعة استوعبت الظاهرة العربية – يقول المؤلف في فقرة مثيرة للانتباه وتبدو متساوقة تماما مع وسوستي بشأن "الهوة" التي تعود إلى جذور بعيدة : "والشعر الجاهلي ، شعر صلد متين ، يميل إلى الرصانة وإلى استعمال اللفظ الرصين ، الذي يغلب عليه طابع البداوة . وشعر هذا طابعه ، لا يمكن أن يتحرر ، وأن يعبر عن المعاني بحرية ، إذ يكون الشاعر مقيدا بقيود الخضوع للعرف وللشكليات التي اصطلح عليها الشعراء والناس . ولذا لم يتمكن الشعراء من التطرق إلى مختلف المعاني والتصورات الإنسانية . وصار الطابع الغالب عليه هو الطابع اللغوي" (1) . هناك عرف وهناك شكليات اصطلح عليها الناس وتقيد بها الشاعر على حساب تجربته الروحية . سيتخذ كل هذا قناعاً متميزاً في "حداثة" شعرنا اليوم ، كما سنرى . الفروق مهما تبدو صارخة إلا أنها مع النظرة الفاحصة التي تعتمد معيار "الهوة" ، عارضة وليست جوهرية . الشاعر الجاهلي لم يعد يكتب قصيدته ليعبّر عن الحياة الخاصة وهي تعتمل في داخله . وهو حتى في وصفه لمظاهر الطبيعة الخارجية يبدو وصفه "خاليا من المشاعر الخاصة ، ومن التصورات المعبرة عن إلهام الشاعر الذاتي" (2) ، وإنما "يقحم الوصف في القصيدة جرياً على العرف الشعري الذي سار عليه الشعراء" (3) . وهذا العرف يقودنا إلى فكرتَيْ "الكد" و "الإلهام" ، التي شغلت النقاد العرب القدامى بشأن الشاعر الجاهلي : هناك شعراء "عبيد للشعر" ، "محككون" ، "حوليون" ، يصرفون الوقت الطويل لتجويد نصوصهم لتبدو في أحسن صنعة" ، وفق معايير ذوقية خاضعة لذات الأعراف اللفظية والشكلية . وآخرون يأتيهم الشعر عفو الخاطر بفعل إلهام علوي . يلخص الدكتور احسان عباس ذلك بقوله : "مهما يكن من شيء فلا بد أن نلحظ أن القول بالتعمل والكد في صنع الشعر قد طغى منذ البداية على فكرة الإلهام . وعلى الرغم من تجاوز القولين معاً ، كان ظهور مدرسة ذات حدود واضحة قد نسميها "مدرسة عبيد الشعر" في العصر الجاهلي . واستمرار هذه المدرسة خلال العصور التالية قد أضعف لدى العرب منذ البدايات إبراز دور الإلهام ، ومن ثم أضعف لديهم الحاجة إلى الاتكاء على قوة "الخيال" . فتوارت هذه اللفظة نفسها في تاريخ الشعر العربي مفسحة المجال لمواصفات عقلية صرفة ، ولم يعد الحديث عن الإلهام إلى الظهور ، ولو اقترن بالخيال ، إلا عند ظهور المدرسة الرومنطيقية الحديثة . ولقد بدا واضحاً أن تاريخ النظرية الشعرية عند العرب سيتعلق بمفهوم "الصنعة" ويميز لها حدودها ، ولكنه سيعجز عن تحديد المراد بالطبع" (4) . هذا الميل إلى "الصنعة" كان طبيعة إذن ، تولد من عوامل قد تكون اللغة الشعرية العربية إحداها ، تضاف إلى "الذائقة الشعرية العربية" المحكومة بالطابع اللغوي ، لشتى الأسباب التاريخية التي تخرج عن مدار حديثي هذا ، والتي أعطاها الدكتور جواد علي حقها في البحث في كتابه "المفصل" . هذا الميل إلى "الصنعة" الذي تجذر لدى الشاعر الجاهـلي وجد ما يعـززه من عوامل جديدة على امتداد التاريخ الشعري العربي . فأنت إذ تـتابع كتب النقد لا تجد إلا هذا الخيط من العناية بـ "إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء في صحة الطبع وجودة السبك" ، على حد قول الجاحظ . إن الانشغال بشؤون البلاغة والنقد البلاغي لم يفسح مجالاً للمادة الحقيقية للشعر ، الكامنة في تجربة الشاعر الداخلية وفي تطورها ونضجها عبر تطور ونضج المشاعر والأفكار والرؤى . كتب النقد بلاغية بالجملة . ولقد أصبحت اهتماماتها الشكلية على درجة متميزة من الاتساع والتعقيد مع اتساع الثقافة العربية وتعقيدها . وامتدت على ذات الصعيد الشكلي حتى أيامنا هذه . ولكن ، طبعا بلبوسات مختلفة . إن دراسة المجازات والاستعارات والبحور والأغراض واللفظ والمعنى والقديم والمولد ، ليست إلا الوجه الأول لعملة العناية بالصنعة الحديثة التي تشكل دراسة "المخيلة" و "البنية" و "الإيقاع الداخلي" و "الفضاء" وجهها الآخر . الوجه الأول يستغرق كتب النقد في التراث ، والوجه الآخر يستغرق كتب النقد الحداثي . لاشك أن مؤسساً للذوق النقدي كالجاحظ قد لعب دورا مهما في تعزيز هذا الميل للصنعة وعقلنته . ولعل كلمته الشهيرة حول "المعاني" والتي يقول فيها : "المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعـربي والبدوي والقروي" أصبحت شاهدا على كل لسان نقدي . وليس غريبا ، أبدا ، أن تصبح راية يرفعها معظم نقادنا الحداثيين تيمنا بدعواها التي تبدو في الظاهر وليدة وعي بالحداثة الشعرية التي استسلمت إلى "الشكل" بصورة مثيرة ، دون انتباهة إلى أن هذا الميل لا يمت إلى "الحداثة" بصلة ، بل هو يستلهم "ما بعدها" لدى الغرب ، كما أنه وليد جذور دفينة ترجع إلى الشعر الشكلي واللفظي العربي ، وإلى الميل الغريزي إلى "الصنعة" . إن الدكـتور احسان عباس يلتـفت إلى هذه الظاهرة بصورة جد فطنة بقوله "أن الجاحظ لم يكن ... يتصور أن نظريته التي لم تكن تمثل خطرا عليه ، ستصبح في أيدي رجال البيان خطراً على المقاييس البلاغية والنقدية ، لأنها ستجعل العناية بالشكل شغلهم الشاغل" (5) . لقد ورثها عنه كثير من النـقاد ، ولعل من أهمهم أبا هلال العسكري . وهو أمر لا غرابة فيه ، بل ينسجم تماما مع طبيعة مسار العقلية الشعرية والنقدية العربيتين . إن الدكتور احسان عباس في استقرائه يستـنتج بعض القواعد النقدية التي اعتُمدت في التذوق الشعري في أواخر القرن الثاني الهجري ، وهي جميعها ليست لصالح علاقة الشاعر بتجربته الروحية ، وفعالة في تعميق الهوة بين "نص" الشاعر المنتج وبين نصه المفترض المدفون داخله ، منها "مبدأ الجودة المثالية" : "فالشاعر قد يصف فرسه بأن شعره مسترسل على جبينه ، وكذلك هو في واقع حاله ، فيعاب بهذا الوصف لأن العرب اتفقت على أن الفرس الجيد لا يكون شعره كذلك" (6) . ومبدأ الجودة المثالية هذا هو جوهر أغراض المدح والهجاء والفخـر التي أصبحت الأقـانيم الثلاثة لحركة الشعر العـربي في جاهـليته وإسلامه . لأنها تعـتمد على "هـوة" بين "الحقـيقـة" و "المثال" ، بين "الواقع" و "الوهم" ، بين "التعـبير الشخصي الصادق" و "الصنعة الكاذبة" . أي ، بصورة أكـثر مباشرة ، بين "الحياة" و "النص الشعري" . إن "الطابع اللغوي" الذي غلب على الشعر معززا بمبدأ "الجودة المثالية" ، وجد في المرحلة الإسلامية أكثر من رافد لإعطائهِ الاندفاعة والفيض الشكليين . فقد أصبحت اللغة العربية ، بفضل الإسلام ، لغة دينية مقدسة . فهي "ليست كغيرها من اللغات وإنما كانت لغةً دينية ، فالاحتفاظ بأصولها وقواعدها والاحتياط في صيانتها من التطور وآثاره السيئة ، واجب ديني لا سبيل إلى جحوده أو التقصير فيه" (7) . الشعر ذو الطابع اللغوي اللفظي لم يكتف بالاستسلام لطبيعته ، التي أصبحت جوهرية فيه فقط ، بل هو تقلد موانع جديدة جعلته ينأى عن خلجات مبدعه ، ويبدأ مشروع انتمائه لبالونة لغوية تحلق بعيداً بقدر ما تتسع عن الشاعر والأرض والحياة . ففكرة "الأغراض الشعرية" بدأت تكتمل ملامحها وتأخذ صيغتها الغاوية المغرية بعد أن كانت القصيدة وحدة بريئة لا يحدها "غرض شعري" خارجها . هذه الأغراض الشعرية حاصرت طباع الشعراء ، وجعلت أهواءهم الداخلية ثانوية بالقياس إلى مهاراتهم "الذهنية" الذكية في تحقيق "غرض" من الأغراض الأساسية (المدح ، الهجاء ، الفخر) ، أو تحقيق الأغراض جميعا . كان كل من النابغة الذبياني والأعشى رائدين استثـنائيين في تحقيق منجز الغرض الشعري القائم في ذاته ، متحققاً بغرض "المدح" الذي يعد واحداً من الكبائر المريعة بحق مسار الشعر العربي ومصير شاعره . ومؤرخ الأدب ، رغم اعترافه بأن الشاعر أذل نفسَه ، يمنح للنابغة وسام من "خلق في الشعر العربي فناً جديدا" (8) ، بغض النظر عن قيمة هذا الغرض في بناء الصلة الحقيقية بين الشاعر ونصه . ونحن نعرف أن الأغراض الأخرى لا تقل فاعلية ، في توسيع الهوة بين المفردة ودلالتها الحقيقية وبين مشاعر الشاعر ونصه ، عن غرض المدح . إلا أن المدح بسبب دافع التكسب وإذلال النفس يعطي بُعداً استـثـنائيا للمفارقة . واعتماده على الكذب والاختلاق يعد رائداً لكل الكذب والاختلاق الذي يتـشرب الأغراض الأخرى كالهجاء والفخر . كان "النابغة" و "الأعشى" يذرعان رمال الجزيرة بين الممالك المتباعدة طمعا بالمدح المتكسب . "النابغة" يراوح بين بلاط "الحيرة" و "حوران" . و "الأعشى" أوسع خطوات ، فقد رحل إلى ملوك عرب الشام (الغساسنة) ، وإلى ملوك عرب العراق (المناذرة) وإلى (قيس بن معد يكرب) وإلى (ذي فائش) في اليمن ، وإلى (بني الحارث بن كعب) في نجران ، حتى أنه ، حين بلغ الإسلام ، توجه إلى الرسول مادحا ، لولا أن مشركي قريش حالوا دونه ودون محمد بمئة جملٍ ، فامتـنع عنه طمعا بالمساومة . ولكي لا نظلم هاتين الموهبتين الشعريتين الفذتين بهذه الريادة ، علينا أن نشير بأن نزعة التكسب ومدح الملوك كانت نزعة عربية خالصة ، والخطيئة التي ارتكبها هؤلاء إنما تكمن في موهبتهم الشعرية الكبيرة التي سخّروها لتعميق جذور هذه الظاهرة حتى ارتبطت ريادتها بهم . يقول الدكتور جواد علي مستعرضا هذه الظاهرة العربية : "ولكن العادة أن الشاعر يقف أمام الملك ، الذي قد يكون جالسا على سرير ، فينشده شعره بعد أن يكون قد استأذنه بذلك . وقد يكون في المجلس جملة شعراء ، أذن لهم بالدخول عليه جملة واحدة ، لينشدوا الملك شعرهم وما جاءوا به من شعر في مديحه . ويكون المجلس عامرا بأهل الحظوة ، من المقربين من الملك ومن الشعراء الملازمين له . وكانت مجالس ملوك الحيرة ، عامرة بهذه المناسبات ، أكثر بكثير من مجالس الغساسنة ، لغلبة النزعة الأعرابية على ملوك الحيرة وقلة تأثرهم بالحضارة ، وتغلب الحياة الحضرية على الغساسنة وتأثرهم بالحياة اليومية لأهل الشام ، وبنزعة الروم في الحكم وآداب السلوك . وكان من عادة الأعراب الطواف حول قبة الملك مع رفع الصوت بالرجز ، ليسمع الملك صوت الراجز ، فإذا عرفه أو أعجبه رجزُه ، أذن له بالدخول . وكان الملوك يضربون قبة على أبوابهم ، يقعد فيها الناس حتى يؤذن لهم ، وقد يكون هذا الرجز مقدمة لدخول الشاعر على الملك حتى يلقي عليه ما يكون نظمه في مدحه وفي مدح آله من شعر" (9) . على أن رواة الأخبار كثيرا ما يجردون الطبيعة العربية من عاهـة التكسب بالشعر ، ويرون فيهم أنفةً وتسامياً عنه . وكانت العرب لا تـتكسب بالشعر ، وإنما يصنع أحدهم ما يصنعه فكاهة أو مكافأة عن يد لا تستطيع أداء حقها إلا بالشكر إعظاما لها . حتى نشأ النابغـة الذبياني ، فمدح الملوك ، وقبِل الصلةَ على الشعر ، وخضع للنعمان بن المنذر ، وكان قادرا على الامتـناع منه بمن حوله من عـشيرته أو من سار إليه من ملوك غسان ، فسقـطت منزلته ، وتكسب مالاً جسيماً ، حتى كان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضة وأوانيه من عطاء الملوك . وتكسب زهير ابن أبي سلمى يسيراً مع هرم بن سنان . فلما جاء الأعشى جعل الشعر متجراً يتجر به نحو البلدان ، وقصد حتى ملك العجم فأثابه وأجزل عطيته علماً بقدر ما يقول العرب ، واقـتداءً بهم فيه ، على أن شعره لم يحسن عنده حين فُسِّر له ، بل استهجنه واستخفّ به ، لكنه احتذى فعل ملوك العرب" (10) . والآراء لا تبدو متضاربة إلا في الظاهر ، فالطبيعة عامة وإن لم تكن شاملة . فقد كان "الشعراء في قبولها مالَ الملوك أعذر من المتورعين وأصحاب الغيث ، لما جرت عليه العادة قبل الإسلام وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده" (11) . وهذا الإحلال للشعراء لم يحدث إلا بافـتراض أن المدح للتكسب عادة جرت عليه . ولكن هناك شعراء استـثـنائيين لم تجر عليهم العادة – كما لم تجر عليهم الصنعة وغلبة اللغة – إلا قليلا . فهذا "ابن ميادة" يعد قصيدة جميلة لمدح المنصور منها :
فـوجدتَ حين لقـيتَ أيمنَ طائر ووليتَ حين وليت بالإصلاحِ وعفوتَ عن كسر الجناح ولم يكن لتـطيرَ ناهضةٌ بغـير جناحِ قـوم إذا جُـلب الثـناء إليـهـم بيـع الثـناءُ هـناك بالأرباحِ
وحين جاءه راعي إبله بلبن فشربَ ثم مسحَ على بطنه وقد عزم على الرحلة ، قال لنفسه : سبحان الله أأفِد على أمير المؤمنين وهذه الشربة تكفيني ؟! وصرف وجهه عن قصده ، فلم يَفد عليه . ويذكر مثل هذا عن جميل بثينة وعمر بن أبي ربيعة والعباس بن الأحنف وأبي العلاء المعري . ونحن نعرف أن لكل قاعدة استثناءً . وتكفي الإشارة إلى استهجان ملك العجم لمدائح الأعشى في الخبر السابق حجة على الظاهرة . فالشعر الشائع – شيوعه لدى العرب – في الحضارات القديمة لا يعرف خواص الطابع اللغوي شبه المقدس ، ولا الأغراض المستقلة عن مصالح الشاعر الروحية ، ولا المدح للتكسب ، ولا الهجاء الذي لا يعتمد الحقيقة ... الخ . إن محاولتي تعرية هذه الجذور لظاهرة "الهوة" التي ساهمت في فصل نص الشاعر عن الحياة وعن الحقيقة ، أو البحث عنها ، لا يعني بالضرورة ، تقييما نقديا للشاعر أو للنص . فإن ظاهرة عامة كهذه لا يمكن أن تخضع لتقييم نقدي يحتكم إلى مقاييس الجميل والقبيح والخيّر والشرير والشعري وغير الشعري ، دون الأخذ بنظر الاعتبار أن الشاعر والشعرَ كائنان تاريخيان يخضعان ، شأن الظواهر التاريخية ، لجملةٍ من الظروف القاهرة . فالشـاعران "النابغـة الذبـياني" و "الأعشى" قد يفوقان ابن ميادة شاعرية ، كما قد يفوق "أبو تمام" "أبا نواس" أو يفوق "المتنبي" "أبا العلاء" . ولكنني غير معني في مقالتي هذه بالتقييم النقدي بقدر عنايتي بالكشف عن جذور الظاهرة "الشكلية" وظاهرة "الصنعة" التي تلبس أكثر من قناع طوال حياة الشعر العربي حتى اليوم . ولعل آخر أقنعتها السياق الشعري السائد الذي تبنى مفاهيم الحداثة المضطربة . بمعنى آخر أجدني معنيّاً بالكشف عن الجذور التي أعطت لهذه "الهوة" كل هذا العمق ، بين "النص الشعري" الذي يكتب وبين "تجربة الشاعر" الحية في داخله . بين "صناعة الفن" وبين "الحياة" . ولهذا لا يعنيني ، في هذه المتابعة ، الجانب الأخلاقي في موضوعة غرض المدح للتكسب ، أو غرض الهجاء الذي يقصد تعرية الكائن الآخر من الكرامة أو إنسانية الإنسان . لا يعنيني من أمر هذا الجانب الأخلاقي شيء . بل تعنيني ، فيما يخص الشعر كمادة تعبير وخلق ، تلك المباعدة بين ما يُكتب وحقيقة ما يكتب عنه . يعنيني إبعاد "الشعر" ، كأغراض مستقلة قائمة بذاتها مثل بالونات معلقة في الهواء ، عن "أهداف الشعر" التي لا تـتفجر إلا من ينبوع داخلي رهين عواطف الشخص وأفكاره ورؤاه . يعنيني هذا الكذب الأخلاقي الذي منح الشاعر خيالاً كاذباً زوّقه وجمّله بقدراته الفنية الفائقة ، حتى أصبح الخيال الشعري مستقلا عن جذوره أمام عين القارىء والناقد والتاريخ معاً . فأصبحنا نصدق المتـنبي حتى ونحن نكذبه . ونصدق أبا تمام حتى ونحن نعرف أنه يكتب خيالاً "لغوياً" مجرداً عنه . هذه المفارقة تواصلت حتى اليوم . فنحن نقرأ تيارات شعرية وأصواتاً جديدة تلبّسها قناع "الحداثة" الغربية و "ما بعد الحداثة" الغربية بصورة تبدو لعيون الجامعة والنقاد والصحافة مقبولة ومعقولة ، يحيطها الحماس الواهم من كل جانب . وهي في مجملها ضرب من الوهم لا يُعنى بالحقيقة التي غادرها منذ زمن . تماما كما تغادر البالونة المعبأة بالدخان الأرض والأحياء إلى سماوات مجهولة لتـنفجر هناك مخلفة دخاناً لا غير . ما يعنيني ، إذن ، من هذه "العورة" في الموروث الشعري العربي ، المادة التي غذت بها شعرنا الحديث ، ونقدنا الحديث ، وفكرنا الحـديث بصورة عامة . وهذا يعني أنني مازلت أقرأ المتنبي ، كشاعر كبير ، ولكن لأتـفحصه من جديد في إعادة نظر جذرية ، من أجل أن أكتـشف مصدر هذا الشحوب في التطلعات "الروحية" و "الفكرية" و "الميتافيزيقية" الذي يتشرب قصائدي ، أنا الشاعر العربي ، وهذا القصور عن مهمات الشاعر الكبرى التي عرفها شعر الحضارات الأخرى القديمة والحديثة . ما من فرد بعينه يتحمل عبء هذا القصور ، حين يكون هذا القصور على مثل هذا الشمول والتاريخية . ولكن يتحمله الشاعر والناقد والمفكر العربي الحديث ، بالضرورة ، لأنه يعيش وسط فيض المعرفة الذي منحته إياه فرصة العيش على مشارف حضارة الغرب ، يغرف منها ما يشاء ، وينتفع من عقلانيتها بالقدر الذي يعينه على انتزاع اللعنة اللاعقلانية من داخله والقناع من وجهه ، ويعينه على مراجعة ذاته عبر موروثه كله . *** حين جاء الإسلام وجد الشعر جاهزا تماما للاستخدام كسلاح (فهو شعر هجاء وشعر قبائل متـناحرة وقابل للتلوّن الكاذب) وكوسيلة إعلامية للدعوة الجديدة . والشعر الذي يصلح وسيلة في أية حال جديدة ، يعني ، بالضرورة ، أنه تكوين فني معزول عن مبدعه . إنه صياغة لفظية قائمة بذاتها لا تمت بصلة إلى الكائن الذي أعدها ، إلا من حيث الابتكار الذهني الذي يلعب به الذكاء وحده داخل "لغة شعرية" جاهزة ضمن أعراف وأغراض وقوالب . ومباركة الإسلام للشعر كوسيلة إعلامية وكسلاح (قال الرسول عن شعر حسان : إن قوله فيهم أشد عليهم من وقع النبل) عزز فيه طبيعة استقلاله عن شاعره ، أي "الصنعة" . وهذا التعزيز تواصل سنوات طويلة ذات شأن . فهو لم يكن تعزيزا لقوى روحية جديدة . فشعر الدعاية الإسلامي لم يكن شعراً دينياً روحياً بالمعنى الذي نفهم فيه الشعر الديني ، أو الشعر ذا الجذر الديني الذي قرأناه لدى الفرس القدامى والهنود القدامى والصينيين القدامى ، أو لدى الحضارات السومرية والمصرية . أو حتى الشعر الصوفي المتأخر الذي لا يرجع في أصوله إلى الإسلام وحده ، بل تـتشعب جذوره إلى التيارات الغنوصية القديمة . على العكس تماما ، إذ ما أن حلت الدولة الأموية حتى التحم الهاجس الدعائي بالهاجس القبلي ، وأصبح سلاح الكلمات الذي شهر باسم الإسلام واحدا مع سلاح الكلمات الذي عرفه هجاء القبائل . خاصة ونحن نعرف أن غرض أو "فن الهجاء" كما يسميه النقاد ، كان من أهم وأخطر أغراض الشعر التي يفخر بها الأدب العربي . حتى يجتهد المستشرق "كولدزيهير" بأن لفظة (قافية) إنما جاءت من معنى (تحكيم القفى) ، أي (تحطيم الجمجمة) (12) . وهذا يعني أن فن الهجاء يشكل جذراً أساساً نمت منه شجرة الشعر العربي . والهجاء وليد البغضاء أو الحسد . وهي مشاعر لا تنتسب للشاعر ، بل الأدهى أنها تنتسب للإشراف بين بعضهم بعضا . وهؤلاء يوظفون الشاعر لغرض الاستخدام . "فإذا بلغ السيد في السؤدد الكمال ، حسده مِن الأشراف مَن يظن أنه الأحق به ، وفخرت به عشيرته ، فلا يزال سفيه من شعراء تلك القبائل قد أغاظه ارتفاعه على مرتبة سيد عشيرة فهجاه ...) (13) . "فالنباهة والشرف والظهور في المجتمع من العوامل التي تكون سبباً دافعاً إلى الهجاء ، بسبب داء الحسد ، ولهذا أمِن الخامل من هجاء الهجائين ، وسلم من أن يضرب به المثل في قلة ونذالة وبخل ، إذ ليس فيه ما يحمل الشاعر على النيل منه وعلى ما يغيظه ، ولا يحسده حاسد ..." (14) . فن الفخر والحماسة ، إلى جانب المدح ، لا يقلان فساداً عن فن الهجاء . وهذه الأثافي الثلاث وجد الإسلام فيها سلاحاً ووسيلة دعائية جاهزين . وتواصلت الجذور الثلاثة هذه في أعراق الشعر العربي والخُلق العربي حتى اليوم . فنحن مازلنا ، ولكن تحت أقنعة مختلفة ، نهجو ونفخر ونمدح . يأسرنا المتنبي بهجائه وفخره ومدحه . على أننا ، مع الأفكار المجردة بعيدا عن الحياة ، نحتقر الكراهية والأنانية والتكسب ، وننكر الحقود والنرجسي ذا الأنا المتضخمة والوضيع الذي يمرغ كرامته بالوحل من أجل مال أو جاه . ولكننا حين يتصل الأمر بالفن ، يأسرنا المتـنبي الحقود والمتـنبي النرجسي والمتـنبي الوضيع . وهي مفارقة لا يشغلني حل رموزها الاجتماعية والنفسية إلا بالقدر الذي يتعلق أمرها بالشعر العربي ، بين ما هو عليه وما يجب أن يكون عليه . أبو العلاء المعري لم يأسر أحدا ، باستثناء طه حسين الذي تفرد بنزعته العقلانية المضاءة ، من الأجيال السابقة . في حين يتبرع أهم شعرائنا الحداثيين اليوم ، وهو أدونيس ، بكتابة كتاب شعري كامل يتبطن فيه شخص المتنبي الإنسان والشاعر ، وهو يعتبره أكبر وأخطر كتبه . ويلحق به شاعر آخر في ذات الفترة هو كمال أبو ديب ، بالتعاون مع الرسام ضياء العزاوي ، لوضع نص شعري طويل يتبطن فيه شخص المتنبي الإنسان والشاعر بذات الصورة المأسورة والمسحورة . وكأنهما صوت "السياق السائد" ، الذي يتطلع ، مختـنقا من عصر العقلانية ، للعودة إلى رحم مُثُل الهجاء والفخر والمدح . رحم اللاعقلانية البدوية التي يمثلها المتنبي بأصفى صورها . ونحن إذا أخذنا بالطبيعة فإن هذا الميل يبدو منطقيا . وهو استجابة ، مهما تبدو إبداعية وطليعية وحداثية ، تلقائية للالتحام بروح الفردية البدوية اللاعقلانية . فنحن جميعا نحتقر جنون العظمة والتعالي الفارغ مادام فكرة مجردة ومفهوماً ذهنياً مستقلاً عن كياننا ، كيان الحياة . ولكننا في الوقت نفسه يأسرنا المتنبي ، ونغني كل قباحات ومغالاة مدحه وهجائه وفخره . والمريع أن هذا كله لا يكشف عن أية صورة من صور المفارقة والتـناقض ، مع أن المفارقة فيه بديهية ، ولكننا نكره البديهة ، ابنة الحياة . وأرجو ألا يذهب الظن بأنني لا أعتبر المتنبي شاعرا كبيرا . إنه كبير في تاريخيته . ولكنني أرقب دائما المجسات ، مجساتي التي تـثار داخلي بفعل قراءة المتنبي . أرقبها بحذر وارتياب . أرقب النشوة التي يفجرها المتنبي في روحي وهو ينشد : إن أكن معجباً فعجبُ عجيبٍ لم يجد فوقَ نفسه من مزيدِ أنا تربُ الندى ورب القوافي وسمامُ العدى وكيد الحسودِ أنا فـي أمةٍ تـداركها الله ، غـريبٌ ، كصالح في ثمودِ كيف يلهمني جنون العظمة هذا ، والوهمُ بالتفوق الذي تغذيه كثرةُ الأعداء والحساد حتى يستحيل محض سم وكيد ؟ وكيف يعزيني هذا الشعور بالوحدة المتفردة بالطهارة والنبوة بعيدا عن منحدر القطيع ؟ إنني أعتبر المتنبي كبيرا داخل التاريخ لا خارجه . ولأنني داخل التاريخ أنا الآخر ، أطمع بفضائل عصري الذي أنتمي إليه . ولذا أرقب بحذر الدارس الطامع بالحياة كلَّ هواجسي المثارة بفعل المتنبي . هل أستجيب منتشياً ؟ وإذا حدث ذلك ، وهو عادة ما يحدث ، فلمَ ؟ خاصة وأنا لا أعتبر ، بفعل حداثتي ، أن المفارقة التي ينطوي عليها النص بين جنون العظمة الذي أحتقر وبين فخر المتنبي الذي أحب مفارقة صحية . لأنها تفصل النص عن الحياة ، وتعزز فكرة أن النص "لعبة لغوية" ذكية وباهرة الجمال ! هذا إذا أنكرت أن روحي مازالت تتلبسها قيم البداوة الجاهلية المتخلفة ، وأنني إنسان ينتسب لحداثة يعيها وعيا عقلانيا ؟ المتنبي مازال يعيش في خلايا الشاعر الحداثي . لا باعتباره موروثاً شعرياً جاء إلينا عبر شبكات تـنقية "وعينا الحداثي" ، كما ندعي دائما . بل هو داخلنا عبر هذا الوسيط المريع الذي ورثناه مع المتنبي ، وهو "الهوة" التي تفصل النص عن الشاعر . "النص الصنعة" المعزز بعواطف وأفكار ليست وليدة وعي الشاعر الاستـثـنائي المفترض ، وعيه ورؤاه لحياة صحية أفضل ، مليئة بالنور والسمو . بل هي وليدة عرف شائع وسائد في الشعر ذي الطابع اللغوي الخاضع ، بغير وعي ، لإغواء أغراض "الهجاء والفخر والمدح" . لنعد ثانية إلى المرحلة الإسلامية وإلى دورها في تعزيز ظاهرة "النص الكاذب" أو "النص المصنوع" . نحن نعرف أن "الدين" بمعناه الروحي ، بكل ما ينطوي عليه من معان غير دنيوية وميتافيزيقية ، كان يشكل جذرا لكثير من الفنون ، ولفن الشعر بصورة خاصة . وأحسب أن العرب ليسوا استثناء في هذا الشأن . فدارسوهم يفترضون وجود نصوص شعرية كثيرة كانت وليدة تلك المشاعر الدينية الوثنية القديمة . ولاشك أن تلك النصوص المفترضة كانت تنطوي على قدر كثير من البراءة والصدق في التعبير عن مشاغل الكائن الإنساني الروحية . كان يمكن لها أن تشكل جذورا لشعر يفتح عـينيه على "المضامين الكبرى" ، ويبعثر في طريقه تلك السطوة اللغوية الشكلية مع الأيام . ولكن الذي حدث أن الإسلام لم يدعْ كل هذا الموروث يصل إلينا ، "بل اجتث كل ما يمت إلى الوثنية بصلة قريبة ، وقضى عليه ، فامتنع المسلمون عن رواية هذا النوع من الشعر" (15) . وحين جاء الإسلام استبدل "الشعر الديني" بـ "الشعر الدعائي للدين الجديد" . ونحن نعرف عـمق الفـارق بين طبيعة الشعـرين . على أنني لا أنكر أن "الطـبيعة اللغـوية" للشعر العربي ، و "المفارقة" بين "النص الذي يمليه العرف" وبين "تجربة الشاعر المستلبة داخله" ، كانت عاملاً حاسماً في طواعية الشعر للاستثمار الدعائي . يضاف إلى ذلك دور "القرآن" في توحيد لهجات القبائل ، الذي جر إلى دور يمس الشعر مباشرة ، مارسه علماء الشعر فيما بعد . فقد ثابر هؤلاء على تصفية النصوص الشعرية من كل ما يشي بالاختلاف مع المبادىء الجديدة ، ومع القواعد التي ثُبتت للإعراب أو البلاغة أو البيان . إن هذا الإجراء يعني مزيدا من ضوابط الصنعة التي تحيط النص بالرعاية بمعزل عن شاعره . فالنص وليد العرف والسياق السائد ، لا وليد تجربة الشاعر الفردية . وهناك بضعة أمثلة لعل أطرفها ما ورد في "رسالة الغفران" رواها المعري عبر مشاهده المتخيلة ، حيث نرى الشاعر امرىء القيس ، وهو يُسأل عن سبب توفر الزحاف في شعره ، يقول "أما أنا فما قلت في الجاهلية إلا بزحاف : لك منهن صالحٍ وأما المعلمون في الإسلام ، فغيروه على حسب ما يريدون" . ثم جاءت بعد ذلك موجات المعارف اللغوية والنحوية والتاريخية ، مع تقدم الحياة ، ترجع إلى الشعر لغايات شكلية محضة ولا تلتفت إلى قيمه الروحية والإبداعية ، معززة ، مع العوامل الأخرى ، ماهية الشعر كصنعة ذهنية ، وكوسيلة لا غير . يتحدث الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين) عن هذا الهوس بالشعر الجاهلي ذي النزعة الشكلية مرتين . يقول في إحداها "لم أر غاية النحويين إلا كل شعر فيه إعراب ، ولم أر غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب ، أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج ، ولم أر غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه الشاهد والمثل" . ويقول في الأخرى : "طلبت علم الشعر عند الأصمعي ، فوجدته لا يعرف إلا غريبه ، فسألت الأخفش ، فلم يعرف إلا إعرابه ، فسألت أبا عبيدة فرأيته لا ينفذ إلا فيما اتصل بالأخبار" . *** السياق السائد في الشعر الجاهلي والإسلامي الذي تلاه ، إذن ، يميل إلى الصنعة اللفظية ، بفعل الطبيعة ، وبفعل العوامل المضافة المعززة التي تابعتها في الصفحات الماضية . وإنما الدلالات والمعاني والأفكار الموجودة تلي ذلك "العرف العام" مرتبة ، وهي تليه حيية ، مشظاة ، مجزأة . في الخمسينيات أصدر أستاذ علم الاجتماع الدكتور علي الوردي كتابه "أسطورة الأدب الرفيع" ، وهو محصلة حوار جريء مع الدكتور الشاعر عبدالرزاق محيي الدين وآخرين ، حول ظاهرة الشعر العربي . وكانت مبادرة الدكتور الجريئة نواة حية لاستعادة الموروث الشعري من زاوية نقدية عقلانية ، ولكنها سرعان ما طمرت بالحجارة . ويبدو أن المبادرات العقلانية في النقد الشعري التي تبصر وترى بوضوح ونقاهة وصحة تأتي عادة من خارج حقل الأدب والشعر . فالجزء التاسع الخاص بالشعر الجاهلي في كتاب (المفصل) للدكتور جواد علي يشي بهذه الرؤية الواضحة والصحية . وكذلك محاولة الدكتور الوردي . ولكن المشكلة أن علي الوردي يتحدث بلغة عالم اجتماع ذي طبيعة شعبية ، تميل إلى البساطة واليسر ، ولم تتلوث بالروح البلاغية المصنوعة الشائعة لدى أدباء مرحلته ، ولا بالروح البلاغية (الحداثية) المعبأة بالتزويق الاصطلاحي الكاذب في معظمه الشائعة لدى أدباء هذه الأيام ، ولذلك لم يؤخذ حديثه مأخذا جديا . ومن البداهة أن تجد من أدباء اليوم من يقول لك "أن لغة علي الوردي ليست لغة نقدية" ، دون أن يلتفت إلى بصيرته وأهمية اجتهاده وعقلانيته . لأن أديب اليوم مأخوذٌ ، شأن عبدالرزاق محيي الدين والجاحظ من قبله ، بفكرة أن "المعاني مطروحةٌ في الطريق..." ، وأن هوية الأديب إنما يكشف عنها "سحر الكلمة" التي كان لها في المجتمع الجاهلي وقع بليغ في النفوس . "فالشاعر الجاهلي يحسن صياغة الكلمة ثم يلقيها على الناس فيتلاقفها الرواة وتصبح وكأنها وثيقة لا مجال للشك فيها . ورب قبيلة هبطت قيمتها هبوطا فظيعا من جراء شتيمة بارعة قالها شاعر فيها . ورب قبيلة ارتفعت إلى عنان السماء بسبب بيت من الشعر الجميل" . و "مادام الشعر الجاهلي مشغولا بحماسه وفخاره ، أو بمدحه وهجائه ، فهو لابد أن يتبع أسلوبا لاذعا رنانا ، إنه يلقي شعره لكي يتـناقله الركبان ويتحـدث به الرواة . ولهذا يجـب أن يكون شعـره من النوع الذي يسـهل حـفظه والتغني به ولا بأس بعد ذلك أن يكون ذا معنى مكذوب أو مكروه" . إن هوية الشاعر العربي والناقد العربي لم تختلف طبيعتها كثيرا ، عبر هذا الامتداد الزمني الطويل ، إلا باختلاف الأقنعة والألوان المزوقة . وحتى المؤثرات الأجنبية من الحضارات الأخرى لم تجد مكانها في الثقافة "الأدبية" العربية إلا من جانبها المادي التقني الشكلي . ولقد التفت طه حسين إلى ذلك في "حديث الأربعاء" ، حيث رأى الأمة العربية عامة "تندفع إلى الأمام اندفاعا قويا في الحضارة المادية ، وتنجذب إلى الوراء بحكم الدين وبحكم اللغة" . وهي لم تـنتـفع كثيرا في ثقافتها "الأدبية" من الحضارات اليونانية والهندية والفارسية إلا بما يمليه الشكل من نتف الحكم والأمثال والمواعظ والوصايا . إن الأسر المادي والشكلي لا يحتاج ، من أجل الانتباه إليه ، في أيامنا هذه ، حياةً وثقافةً ، إلى دليل . فقد أسرتنا الحضارة الغربية كما أسرت شعوباً كثيرًا . ولكننا انفردنا ، في هذا الأسر ، بالجانب المادي في الحياة ، والجانب الشكلي اللفظي المفرغ من الدلالة ، في الأدب والثقافة . وتعليل ذلك يسير أيضا . فثقافة الحضارة الغربية ، أدبية وغير أدبية ، معبأة بالروح ، شأن كل حضارة ، وبالمشاعر والأفكار والرؤى ، وما مفرداتها وصياغاتها ومصطلحاتها وتقنياتها وبنيتها إلا وجهها الخارجي . وهذه الروح والمشاعر والأفكار والرؤى هي لصيقة ، أولا ، بتلك المفردات والصياغات والمصطلحات والتقنيات والبنيات ، ولصيقة ، ثانيا ، بتربة تلك الحضارة ومناخها . ولكن ميلنا إلى "سحر الكلمة" هو الذي أهّلنا إلى مهمة الهرب من العواطف التي ترتفع إلى مستوى أفكار ورؤى وتصورات تسعى إلى البناء والحركة باتجاه التكامل . وأهّلنا إلى مهمة التزام "سحر الكلمة" التي تولد عواطف لا دليل لها ، أو عواطف يقودها دليل "الحماس والفخر والمدح والهجاء" . وكلاهما يقودان إلى "العرف العام" الشكلي المضاد للحياة . والذي يملك بصيرة علي الوردي يملك أن يرى في قصائد عشرات الشعراء ونثر عشرات النقاد ومثقفي الأدب اليوم ، تلك النزعة "اللفظية" التي لا تكترث لنقطة التماس بين ما تكتب وبين الهواء العربي الذي يحيط الكتابة ، والأرض العربية التي تحمل الكتابة ، والزمن العربي الذي تهاوى إلى المنحدر دونها . والتي لا تكترث ، أيضا ، لنقطة التماس بين ما تكتب وبين "التجربة الروحية المستلبة" داخلها . أشرت أكثر من مرة إلى أن هذه الظاهرة – ظاهرة الهوة التي تفصل النص عن الحياة – هي ظاهرة تاريخية ، وتنتمي إلى الإنسان العربي . بل هي تنتمي ، إليّ أنا الشاعر العربي ، وإلى تاريخي . واستعادتي لها يجب أن تكون ، بهذا المعنى ، جريئة ونقدية وغير متحرجة لأنها تخص حاضري الوحيد الذي أحياه ، ومستقبلي الذي سيحياه أبنائي . ولا مجد لشاعر دون وعي ونص يدعم الحياة . كما لا مجد لشاعر ينفرد بوعيه ، صادقا كان هذا الوعي أو مفتعلا ، عن المسار العام المحتفي بالوهم أو بالغيبوبة . إن جملة "وأنكرت إنكار البعير المرجّم" للشاعر طرفة الجاهلي ، مازالت تتكرر ، بذات الصيغة ، على امتداد عصور الشعر العربي ، حتى يومنا هذا . وليس غريبا ، أبدا ، أن تجدها اليوم تستعيد مجدها "حداثيا" بصورة أكثر عنفوانا . وأرغب الآن عن الشواهد فهي كثيرة وظاهرة لدى ممثلي الحداثة وما بعدها . كما أنني أشرت إلى أن الظاهرة لا تمنع أن يكون هذا المسار قد أنتج شعراء كبارا كلبيد وزهير والنابغة وطرفة والأعشى وامرىء القيس ، مرورا بأبي نواس والبحتري وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء ، وانتهاء بأحمد شوقي والجواهري والسياب والبياتي ونازك وبلند الحيدري وصلاح عبدالصبور وأدونيس ... الخ . وأن أكون أحد قراء هذا الشعر المحبين والمتحمسين له . فأنا أنتمي إليه , وفيه منبت جذوري وقوام جذعي وفروعي . ولكنني أجد ، عبر وجودي الشخصي ذاته ، وبدءا من النص الشعري الذي أكتبه ، أن هناك ما يلفت النظر في الجاذبية التي تـتلبسني باتجاه "سحر الكلمة" ، وباتجاه "البيان" بمعزل عن الدلالة الغائبة . في الإشارة إلى هذا يبدو الدكتور علي الوردي متطرفا حين يقول أن "الشاعر الجاهلي ليس شاعرا بالمعنى المفهوم عند المتمدنين ، إنما هو بالأحرى محارب" ، والشعر لديه وسيلة يريد أن يتوصل بها إلى مقصده . و "إن رنين الألفاظ أهم عنده من طرافة المعنى" و "أن اللغة تغلب عليها العواطف الجياشة ، ومن الصعب عليها إذن أن تتغلغل في دراسة الكون المحيط بها أو تستخرج منه المعاني الجديدة" (16) . كلام الوردي قد يبدو متطرفا لأذننا ووعينا نحن . ولكنه لن يبدو كذلك ، دون أدنى شك ، لقارىء الشعر الجاهلي من غير العرب . تماما كما تـنقلب الصورة حين نقرأ شاعرا كأبي الطيب فيبدو وكأنه لم يُكتب لأذن ، على هذه البسيطة ، غير الأذن العربية ، (وهو تعبير استعرته من الكاتب عبدالله القصيمي حول المتنبي في كتابه "العرب ظاهرة صوتية") . بين هذه الأصوات الشعرية ، في الموروث الشعري العربي ، تفلت أحيانا أصوات منفردة تجذبها العواطف التي ترتفع إلى مستوى أفكار . وأحيانا تفلت من طبقات الأصوات ، داخل صوت كل شاعر على حدة ، طبقة تتملكها ذات الجاذبية باتجاه المطابقة بين النص والتجربة الروحية المستلبة . وأحيانا تنمو هذه الطبقة الفريدة على حساب الطبقات الأخرى وتـنفرد ، حتى تجعل من الشاعر منتميا كليا إلى التجربة الروحية الحية . (تأمل شاعرا كعمر بن أبي ربيعة مثلا) أو إلى التأملات والأفكار الجليلة (تأمل شاعرا آخر كأبي العلاء المعري مثلا) . ولكن هذا الانفراد لا ينتهي دائما نهاية صحية بفعل سطوة السياق السائد والعرف العام ، ووطأته التي تثـقل على وعي الشاعر وقدراته فلا تـترك له متـنفسا . ولعل قراءة متأملة لديوانَيْ أبي العلاء "سقط الزند" و "لزوم ما لا يلزم" ، ولكتبه النثرية ، التي لا تقل أهمية ، تكشف عن الذي حدث لهذا الشاعر الكبير . وسأعرض لظاهرة أبي العلاء بعد قليل . الأمر ينسحب على حلقة شعرنا الجديد بذات النسبة . فهناك من الأصوات الشعرية من يملك جاذبية باتجاه تلك المطابقة بين النص الذي يكتبه وبين التجربة الروحية الداخلية التي تمليه . يذهب إليها خالصة من كل شوائب السياق اللفظي السائد ، أو غير خالصة . وهناك طبقة صوتية من طبقات الصوت المنفرد الواحد ، تذهب هذا المنحى ، ولكنها تبقى أشبه بشواهد شعرية نضرة داخل نص في علم النحو أو العروض . ولكن الفرصة لِتوفر "الشاعر" الشاعر ، بالمعنى الذي وفرته الحضارة الحديثة والحضارات الإنسانية القديمة ، هي اليوم أيسر مما كانت عليه في كل مراحل الشعر العربي حتى الأربعينيات من هذا القرن . ولكن ما الذي حدث ، منذ الأربعينيات والخمسينيات حتى اليوم ، ليقف حائلا بين ثقافتنا الشعرية وتوفر هذا الشاعر ؟ سأرجىء الحديث عن ذلك قليلا ، لأواصل متابعتي لـ "الهوة" وهي تـتسع مع الأيام بين "النص الشعري" و "تجربة الشاعر" المستلبة في داخله . فما الذي حدث في العصور العباسية المزدهرة ؟ لقد استحدث النقد الأدبي أولا . واتضحت نقطة انفصال بين تجربتين شعريتين في مدرستين هما "البغدادية والشامية" ثانيا . إن أهم مسألة أثارها النقد العربي القديم ، وشغل بها هي مسألة "اللفظ" و "المعنى" . ولم يجد النقد العربي الحديث بأسا من الانشغال بها هو الآخر . ولكن بصورة "حداثية" مصنوعة ، كالعادة . دون أن يتشكك ، ولو قليلا ، بالمقصود بكلمة "المعنى" التي وضعت في مقابل "اللفظ" وهل هذه "المعنى" ، حين تقف مضادة للنزعة "اللفظية" ستشكل جوهر الانقياد إلى تجربة الشاعر الروحية وإلى عواطفه التي تسمو إلى أفكار ؟ هل هي ثمرة التأملات التي تـشغل الشاعر ، وثمرة التساؤلات ؟ وهل أن الجاحظ في جملته الشهيرة كان يقصد بـ "المعاني المطروحة في الطريق" كل تأملات المعري أو السياب في الموت ، أو تأملات الخيام أو البريكان بالحياة ؟ إن مقصود "المعنى" لدى الجاحظ والنقاد العرب الآخرين إنما ينحو منحى شكليا ، بصورة مؤسفة ، هو الآخر . فهو لا يتجاوز "الأغراض" التي ألفها العرب في شعرهم . أو معاني الصورة الحبيسة داخل الاستعارة والتـشبيه والمثل ... الخ . ولذلك يقول الجاحظ "إن المعاني مطروحة في الطريق" للجميع . أي أنها ليست بأي وجه ، المعاني التي تولدها المشاعر الداخلية الفريدة والخاصة للمبدع . إنها معانٍ جاهزة خارجة تنتسب إلى العرف الشعري الشائع . وسيبدو هذا القياس مفارقة مضحكة لو نحن طبقناه على شاعرة مثل "سافو" أو شاعر مثل دانتي أو المعري ، أو على قصائد "يوحنا الصليب" أو "كبير" شاعر اللغة الأوردية . وحتى حين يرى الجاحظ استعصاء الشعر على الترجمة ، يراه استعصاءً في الشكل . "ومتى حوّل تقطّع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع التعجب" (17) . ذلك لأن "المعاني" لديه هي الأفكار والأغراض التي اعتاد الشاعر على التطلع إليها خارجة . ومما يؤكد أن المعاني إنما تعني الأفكار المطعمة ، شأن الصور ، في النص الشعري ، هو عناية الجاحظ ومعظم النقاد بموضوع "السرقة الشعرية" . فالجاحظ يرى أن المعاني لا يمكن أن تسرق . لا باعتبارها تجربة شعورية فريدة تخص شاعرا بعينه ، بل باعتبارها "صورة" حسمت ملكيتها لهذا الشاعر أو ذاك . وموضوع السرقة من الموضوعات الأثـيرة في تـقولاتـنا النقدية اليوم . وما هي في حقيقـتها إلا صدى للوعي الشكلي لمفهوم "المعنى الشعري" . الإشارة إلى الجاحظ تذكّر بدور المعـتزلة الذين جعلوا من البلاغة عنصرا ضروريا في الإقناع ، ومن الشعر مصدرا من مصادر المعرفة (لمقدار ما يتيح لدارسيه من معارف في الحيوان والأنواء والنبات والأشربة) ، ووعاءً لهذه المعرفة (يمكّن شاعرا كبشر بن المعتمر من أن ينظم قصائد في الحيوان ، ويمنح الناشىء وسيلة صالحة) . وتركوا هامشا منسيا جعلوا فيه الشعر "يضطلع بمميزات تـتصل بحاجات النفس الإنسانية" . وهذا الهامش الأخير الذي يشير إلى مهمة الشعر الحقيقية سرعان ما تلاشى في ظل النزعة (الكلامية) والتعليمية . يعلق الدكتور احسان عباس على تأثير المعتزلة هذا بقوله : "كذلك فإن إلحاح المتأدبين من المعتزلة على اتخاذ الشعر وعاءً للمعرفة ، كان ذا أثر في توجيه النقد الأدبي ، ولكن بطريقة سلبية ، إذ صادف ذلك انكسارا في الذوق الأدبي بين الأجيال" (18) . يذكر الدكتور جواد علي أن العـقل العربي في الجاهلية لا يملك القدرة على النظرة الكلية ولا يرى الأشياء كوحدة . بل هي تـتفـتت أمامه فيلاحق أشياء محدودة منها وينعكس ذلك في "الوصف" . والوصف ، كمفهوم نقدي عربي قديم ، ذو معنى شامل تكاد تـنطوي تحته الأغراض جميعا . وهذه النظرة الجزئية ، مقابل النظرة الكلية ، هي التي حددت مفاهيم "اللفظ" و "المعنى" بالصورة التي نراها في كتب النقد . وهي التي حاصرت "المعنى" بهذا الحيز الشكلي للأغراض . "ويستشف من أمثلة ابن قتيبة أن المعنى عنده قد يعني الصورة الشعرية مثلما يعني الحكمة . ولكن هذه الأمثلة نفسها تشير إلى أنه يستمد حكمه من بيت واحد أو بيتين أو ثلاثة على الأكثر . إن قضية "اللفظ والمعنى" لم تتناول العمل الأدبي كله بحيث تتطور إلى ما نسميه "الشكل والمضمون" ، ولا هي استطاعت أن تقترب مما يسمى "الصلة الداخلية" بين هذين . ولعلها كانت ذات أثر بعيد في صرف النقد عن تبين وحدة الأثر الفني في مبناه الكلي ، غير أنها رغم ذلك ، أسلم من الانحياز السافر إلى جانب اللفظ" (19) . إن المساواة في القيمة بين "اللفظ" و "المعنى" عند ابن قتيبة لم تكن تخفي شكلية "المعنى" . لأن " الصورة الشعرية" و "الحكمة" إنما هي صيغ من العربية ذات دلالة . وهذه الصيغ إنما تأتي شظايا تطعم النص الشـعري الذي يخدم غرضاً خارج هموم الشاعر الداخلية . فهي تـشبه المحسنات التي تروق "الغـرض" الكاذب . أو هي في أحسن حالاتها متـنفسات متـفرقة لتجربة الشاعر المستـلبة أو المقموعة . في القرن الرابع الهجري يحدد ابن طباطبا صاحب كتاب "معيار الشعر" مفهوم "المعنى" على أنه "الأفكار" داخل النص الشعري بصورة جد مباشرة ولا تحتمل الالتباس : "فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرا ، وأعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه ، والقوافي التي توافـقه ، والوزن الذي يسلس له القول عليه . فإذا اتـفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثـبته ، وأعـمل فكره في شكل القـوافي بما تقـتضـيه من المعاني على غـير تـنسيق للشعـر وترتيب لفنون القول فيه ، بل يعلق كل بيت يتـفق له نظمه ، على تـفاوت ما بينه وبين ما قبله . فإذا كملت له المعاني ، وكـثرت الأبيات وفـق بـينها بأبيات تكون نظاما لها وسلكا جامعا لما تـشتت منها ..." (20) . وهو في مكان آخر يرى أن "المحنة على شعراء زماننا في أشعارهم أشد منها على كل من كان قبلهم ، لأنهم قد سُبقوا إلى كل معنى بديع ولفظ فصيح وخلابة ساحرة" (21) . وهذا يغض الطرف عن فرادة التجـربة وخـصوصيتها لدى الشاعر ، ويعـزز فكرة "المعاني" التي هي "صور" و "أغراض" شائعة خارج "حاجات النفس الإنسانية" . ابن أبي العون ، من نقـاد القرن الرابع ، "يرى الشعـر قائما على ثلاثة أنحاء : المثل السائر والاستـعارة الغريبة والتـشبيه الواقع النادر . وإن ما خرج من هذه الأقسام الثـلاثة فكلام وسط أو دون ، لا طائل فيه ولا فائدة معه" (22) . بالرغم من أن قدامة بن جعفر يؤكد على أن "المعاني" هي الأغراض التي فرض معظمها "العرف الشعري" على الشاعر . إلا أنه يـفتح نافذة للشعر الحقيقي الذي ينتمي إلى التجربة ، حين يؤكد على المحتوى الإنساني للشعر حيث "لا يُمدح الرجل إلا بما فيه" . ولكن هذه النافذة تظل مفتوحة على أفق نظري لا تماس لها مع الواقع الشعري . وهو واقع تشهد عليه النسبة الأكبر من القصائد التي تكتب وفق أغراض يغذيها الكذب والصنعة بالجمال والسحر . كما تعززه التيارات النقدية التي لا توافق رأي قدامة بن جعفر . فالآمدي وابن سنان مثلا لم "ينظرا إلى القـضية من هذه الزاوية . فقد تقبلا القيم السائدة ، وتبنيا مفهوماً للشعر يدعم ما هو سائد ، ويوافق رغبات الحكام في تدعيم مواقفهم . ومن هنا تـقبلا المفهوم الذي يرى أن الإنسان يولد مزودا بصفات أساسية لا سبيل إلى تغييرها ، تماما كما أنه لا سبيل إلى تغيير العلاقات الاجتماعية ، التي يكتسب بفضلها الحكام كل خصائصهم" (23) . يطوّر ابن طباطبا موقف قدامة بإضافة موضوع "الصدق" ، الذي يبدو فاتحة لنظرة نقدية من الموروث الشعري . خاصة وأنه يحدد في المستوى الأول ، من المستويات الثلاثة للصياغة الفنية الناجـحة ، بأن "الصدق فيه داخلي ، يتصل بتوافـق التجربة المعـبر عنها مع ما في داخل المبدع أو إخلاصه في التعبير عنها . فالشعر يحسن موقعه إذا أيدت أقواله "بما يجلب القلوب من الصدق عن ذات النفس بكشف المعاني المختلجة فيها ، والتصريح بما كان يكتم منها ..." (24) . سبق أن قلت أن داخل السياق الشكلي واللفظي السائد في الشعر الجاهلي كانت هناك ، بين الأصوات الشعرية ، وداخل طبقات الصوت الواحد ، نزوعات وتطلعات لكسر طوق العرف الشعري الذي يؤكد على أن الشعر "ديوان" الجماعة ، لا الفرد . تمحى فيه قوى التعبير عن التجربة الخاصة التي لا تأخذ بالثوابت المفروضة والمتفق عليها للنص الشعري ، كالأغراض ومتانة اللغة والأسلوب ووعورته ... الخ ، ليصفو الشعر قوة وسلاحاً للجماعة على حساب تجربة الشاعر الخاصة المقموعة والمطمورة بغبار النسيان . تلك الأصوات والطبقات الصوتية ليست مفردة ومفصولة إلى الحد الذي تبدو فيه ظاهرة ذات قيم خاصة . صحيح أن النقاد القدامى يفردون طرفة بن العبد ، وعنترة والخـنساء كنماذج من الشعـراء جرت على السليقة ، مأخوذة بالمعاني التي تعتمل داخلها ، لا بالقوة اللفظية . إلا أن هؤلاء أسرى قيود "الخضوع للعرف والشكليات التي اصطلح عليها الشعراء والناس" ، أيضا ، فهم جزء من حياة عامة لا سبيل إلى تعزيز الفردية فيها شعريا . بالرغم من أن ما يفرد هؤلاء عن معظم شعراء مرحلتهم الجاهلية هو المصاب الروحي ، أو التجربة الروحية المتميزة (الحرية لدى طرفة وعنترة ، والفقدان لدى الخنساء) ، ولكنها في ذاتها ليست كافية . إلا أن هؤلاء الشعراء بالإضافة إلى بضعة خروجات عن السياق داخل أصوات شعرية أخرى ، منحت فتحةً للتـنفس الفردي والإفلات من قبضة المدح والفخر والهجاء . هذا التيار تواصل ، مع تواصل الشعر العربي ، ولكن على هامش التيار الأشمل الذي بدأ بـ "التحكيك" و "الحوليات" وكد القرائح . حتى سُمّي هؤلاء بـ "عبيد الشعر" . أي أن الشعر استعبدهم واستـفرغ مجهودهم حتى أدخلهم في باب التكلف وأصحاب الصنعة ، ومن يتلمس قهر الكلام واغتصاب الألفاظ ، كما يقول الجاحظ . ويواصل ، بأنهم لولا ذلك لذهبوا مذاهب المطبوعين الذين تأتيهم المعاني سهواً رهواً وتـنـثال عليهم انثـيالا . العصر الإسلامي الأموي لم يخف تمايز هذين المذهبين . فقد أعطى للتيار الهامشي الأول "عمر بن أبي ربيعة" ، صوت التجربة الحقيقية التي تغـترف من الحياة ، وتمنح اللغة دفقها وحرارتها . ولكن عمر بقي مفردا داخل سياق عبيد الشعر الذين ينحتون في صخر الألفاظ وأغراض (المدح والفخر والهجاء) من أمثال الأخطل والفرزدق والحطيئة .. وآخرين . ولم تتسع دائرة التيار الهامشي كثيرا متمثلا بنموذج "عمر" الاستثنائي إلا في العصر العباسي . ولكنها أخذت في هذه المرحلة هيئة على شيء من التعقيد والاضطراب والتداخل . خاصة وأن السلطان وهيبته أصبح أكثر انفصالا وارتفاعا عن جمهور الناس والشعراء معا . وأصبح المدح ، وهو وسيلة العيش الوحيدة ، غرضا شعريا أبعد استقلالا عن الشاعر مما كان عليه في كل المراحل السابقة . أي أنه أصبح كذبة خالصة لوجـه الشعـر ، لا يجد شاعر من طراز أبي نواس بأسا من الخـوض فيه من أجل لقـمة العيش أو رفاهيته ، بالرغم من أن قلبه لا يسكن إلا خمارةً أو جسد معشوق . في الحاضرة العباسية "بغداد" اختلطت البداوة العربية بروافد حضارات جديدة ، والحياة المدينية اتسعت للوفرة والنعيم والبؤس معا ، بحيث أعطى كل هذا فرصة للتيار الهامشي في أن يأخذ مداه ، ولكن ليس المدى الصافي الذي تمتع به عمر بن أبي ربيعة ، وهو أمر واضح السبب كما أشرنا سابقا . إن الميل إلى كتابة الشعر وفق الطبع والسليقة وجد مواهب رائعة في كل من بشار بن برد وأبي نواس وابن الرومي . ومعهم كادت كفتا ميزان الشعر بين أصحاب "التجربة الروحية" وأصحاب "التجربة التقنية" أن تتعادلا . إلا أنني فضلت استعمال مصطلح "التيار الهامشي" دلالة على التجربة الأولى ، لأنها ، على امتداد تاريخها ، لم تصفُ تماما لنفسها ، ولم تحقق منجزها الشعري الحقيقي بصورة كاملة إلا في مرحلة الحداثة الشعرية التي شهدناها ، منذ الخمسينيات ، وعلى يد بضعة شعراء معدودين ، لا يشكلون قياسا عاما ، بل بذرة صغيرة كفيلة بإعطاء فسحة من الأمل للشعر العربي القادم . إن ذلك التيار بقي هامشيا ، رغم كثرة الشعراء الذين حُسبوا عليه عدديا . فهم لم ينتموا لتجربتهم الروحية على طول الخط ، ولم ينكروا "الأغراض" الشعرية تماما ، ولم يمتنعوا عن إفساد لغتهم بالمحسنات في أحيان كثيرة ، ولم ينفضوا ثيابهم وأرواحهم من النزعة العصبية والبدوية بصورة خالصة . انتسب أكثر هؤلاء الشعراء ، شعراء الانتصار للتجربة الروحية ، إلى مدينة بغداد . ولذلك سمي تيارهم بـ "تيار المذهب البغدادي" . إنهم الجذوة التي استمدت حرارتها من شعراء "الإلهام" الجاهليين وشعراء "الطبع والسليقة" . ولقد وجدوا في الحاضرة الجديدة فرصة مزيد من الانعتاق من وطأة "العرف الشعري" السائد المأخوذ باللفظة واللغة وعبودية الأغراض . أي أنهم حاولوا ، لعوامل جديدة ، الإفلات من "الطبيعة" العربية ، التي لم يعد ممكنا فيها الفصل بين عبودية "الأغراض" الأساسية (المدح والفخر والهجاء) ، وعبودية سيادة اللفظية المصوتة وما تلحقها من محسنات الفرد العصبية لنفسه أو لقبيلته . "المذهب البغدادي" هو انتصار للتيار الهامشي ، تيار التجربة الروحية ، الذي منحه ، على حياء ، شيئا من الحياة رواد قدامى ، من أمثال طرفة وعنترة والخنساء وعمر بن أبي ربيعة وجميل بثينة وبضعة آخرين . على أن شعراء آخرين كبارا أسهموا جزئيا ، عبر شذرات من قصائدهم ، ولحظات من تجاربهم كامرىء القيس والأعشى ولبيد . ولكننا يجب أن لا نغفل أن الجميع كانوا ممثلين كبارا لقوة حـياة عربية لها خصائصها التاريخية . وأنهم كانوا أعجز ، بحكم شرطهم الإنساني ، من اختلاق معجزات والخروج عن "العرف" الذي تجسد في النزعة اللغوية في الشعر . في الطرف الآخر ، وجد السياق الشعري السائد بحبوحة عيش أوسع في بلاد الشام ، معقل الحاضرة العربية الخالصة التي لم تدخلها الروح الجديدة الخليطة . هناك تواصل "المحككون" دون معكرات . يأخذون الشعر ، على هدى الأقدمين ، بالكدح والتشذيب اللفظي والتأنق الشكلي ، محتفلين بالأغراض والعصبية الفردية والقبلية . ولقد شكّل هذا السياق السائد "المذهب الشامي" . "ومن أبرز خصائص الشاعر الشامي الجدّ ، فقلما مال الشاعر الشامي إلى الهزل أو المرح في شعره ، ومنها إعجابه بالفنون القديمة كالنسيب القديم ، سواء أأحب حبا عفيفا أو حبا ماديا أو لم يحُب قطّ ، ومنها الفخر بالعرب في شعره ، سواء أكان عـربيا كالبحـتري والمتـنبي ، أو فارسيا كمسلم بن الوليد ، أو روميا كأبي تمام . ومنها الحماسة ... سواء أكان فارسا وخاض المعارك كالمتنبي وأبي فراس ، أو جبانا كالبحتري . ومنها تكلف المعاني البعيدة والغوص فيها . ومنها تكلف الألفاظ الغريبة . ومنها تكلف التشابيه والاستعارات والبديع (الجناس والطباق) خاصة ، حتى أن الشاعر الشامي ليحاول ألا يُخلي بيتا له من ضرْب من ضروب البديع . ومنها الاتكاء في التشابيه والاستعارات على قضايا المنطق والنحو والفِقه وغيرها من العلوم . من أجل ذلك ظلت القصيدة عند الشاعر الشامي على شكلها القديم تجمع فنونا متعددة . أما سبب اتساع المذهب الشامي منذ صدر العصر العباسي فراجعٌ إلى أن خصائص الأدب المحدث (ومعظمها على المذهب البغدادي) كانت شائعة لدى شعراء اتهموا بالزندقة حينا وبالشعوبية حينا آخر . ثم كانوا من الذين يفـضلون الحياة الفارسية ، وممن نالوا حظوة عند رجال الدولة الفرس ، فلما نكب الرشيد البرامكة حدثت ردةٌ إلى الحياة البدوية وإلى خصائص الشعر البدوي (وهذا جانب من الشعر الشامي) . ولما أصر الخلفاء والوزراء والأمراء على أن يمدحوا بشعر على المذهب القديم مع الوقوف على الأطلال لم يجد الشعراء المتكسبون بُدّاً من موافقة هؤلاء على هواهم وإن لم يكن ذلك رأيا لهم ، كما كان شأن أبي نواس مثلا . وكذلك كان ثمة شعراء لم يشاءوا أن يتركوا المذهب البغدادي ولو أدى ذلك إلى أن يخيبوا عند الممدوحين ويخسروا دخلهم من المديح بالشعر ، كما كان شأن ابن الرومي" (25) . إن الجدّ الذي التزمه شاعر المذهب الشامي لم يكن "جدّ" الحياة ، بل جدّ "العرف الشعري" الذي تتسم لغته بالرصانة . وجدّ الأغراض الشعرية المؤسسة والقائمة في محراب "صناعة الشعر" ، خارج جسده وروحه . فهو يكتب في "غرض" الحب حتى لو لم يكن عاشقا ، وفي "غرض" الفخر بالعرب حتى لو لم يكن عربيا ، وفي "غرض" الفخر بشجاعته حتى لو كان جبانا . والأغراض القائمة في محراب الفن ، إذ خلت من الحياة ، إنما تحتاج للتلميع بالمحسنات ، تماما شأن الزخرف ، على أن الزخرف وحدات مكتفية بذاتها كأشكال بصرية تختلف ، في جوهرها ، عن اللغة الشعرية . ولذا لابد للشاعر من السعي وراء الألفاظ الغريبة المتكلفة والبديع . وهو إذ يحتفي هذا الاحتفاء بالشعر القائم بعيدا عنه في محراب "صناعة الشعر" ، إنما تشفياً من "التيار الهامشي" في الأدب المحدث ، المتهم بشيوع الأفكار والحيرات فيه ، والمستأنس بتجربته الروحية المتعالية على "الأغراض الكاذبة" ، بحيث يبدو عدم ثقة الخلفاء والوزراء والأمراء به ، كوسيلة للمدح صالحة ، في مكانه تماما ، حتى أن وطأة الحياة المعيشية وسطوة "العرف الشعري" كانت من الثقل بحيث حاصرت شعراء كأبي نواس ودفعتهم إلى الانحناء ، أو شعراء كابن الرومي إلى الخسران حتى في محاولتهم الاستجابة . إن المذهبين البغدادي والشامي ، على شدة اختلافهما عن بعضهما ، لم يستطيعا التفرد بالخصائص ، كلا على حدة ، بل ألقى كل على الآخر شيئا من ظله . خاصة ظل المذهب الشامي الأثقل موروثا وحضورا وعروبة . وإن المذهبين البغدادي والشامي اللذين توّجا جذريهما الممتدين بعيدا حتى الشعر الجاهلي ، تواصلا مع سنوات القصيدة العربية حتى شعرنا الحديث ، آخذين لبوس المرحلة ، قادرين على التكيف . وقد يبدو اجتهادي هذا ، لكثيرين ، قسريا ، بفعل حداثة لم تترك مستقرا لموروث ولا قاعدة لثوابت مذهبية . إلا أنني لا أملك أي افتراض غير الذي افترضت ، إلا إذا توهمت أن وجودنا العربي قد انقلب على نفسه ، كما انقلب الغرب على نفسه ، منذ عصر حداثته الذي بدأ قبل ثلاثة قرون أو تزيد . وأنه يقبل على انقلاب جديد على حداثته كما يقبل الغرب اليوم على ما بعد الحداثة ! ما من أحد يملك دليلا على ذلك ، لا من لغتنا العربية التي ما زالت تقبع في جذر الكلمة الثلاثي في القواميس التي أنشئت قبل قرون طويلة ، ولا من بنياننا الروحي الذي تعصف به المذهبية الدينية والطائفية ، ولا من بنياننا الاجتماعي . المذهب البغدادي وريث شعراء التبسط والطبيعة والخبرة الروحية مازال ، كما كان ، يجري ولكن على هامش المذهب الشامي وريث شعـراء الكد والتعـمل والأغراض . يجري في شعرنا الحديث ، كما كان يجري في الشعر القديم ، منتصرا للحياة التي تتوهج في مختبر تجربته الروحية ، وحذرا من أن يخوض في "غرض" خارج خبرات روحه . عارفا ، بفعل الخبرة والوعي ، أن هذا "الغرض" قادر أن يأخذ أقنعة شتى ذاتِ هيئات تلائم كل عصر . لأنه يعرف "الغرض" من طبيعة جوهره ، التي تتمثل بالهوة التي تفصل "صناعة" القصيدة عن الخبرة الحية للشاعر . فقد يكون الغرض عاريا ، كما كان ، في المدح والفخر والهجاء ، أو مقنعا ، كما كان في الشعر الدعائي الإسلامي ، أو مقنعا كما سيكون في الشعر المذهبي ، السياسي ، الهادف ، الملتزم . وحذرا ، أيضا ، من أن يستسلم للفظ والشكل خارج خبرات روحه . عارفا ، بفعل الخبرة ذاتها ، أن هذا اللفظ والشكل المنتصرين قد يأخذان أقنعة شتى ذات هيئات تلائم كل عصر . لأنه يعرف اللفظ والشكل من طبيعة جوهرهما ، التي تتمثل بالهوة التي تفصل "صناعة" القصيدة عن الخبرة الحية للشاعر . فقد يكونا عاريين ، كما كانا ، في المحسنات ومرصعات البديع واللغة الرفيعة ، أو مقنعين ، كما سيكونان ، في نصوص تعتمد الصور المتراكمة المدهشة ، أو الصور المشظاة ، أو الاستعارات التي تسعى إلى الغرابة والخروج عن المألوف واللعب اللفظي ، ولكن بدربةٍ حداثية تعتمد على المهارة والذكاء ، كما تعتمد الشكل المفتون باللعب ، أبيض أو مفتوحا أو مدورا أو حرا أو نثريا ... الخ . لاشك أن الاستعارة العمياء من الغرب لها دورها الكبير فيما نراه في هذا الهوس الذي يأخذ بتلابيب القصيدة الحداثية اليوم ، إلا أننا لن ندرك جوهر الظاهرة في اعتمادنا عامل الاستعارة من الغرب وحده سببا لها ، دون أن نعطي عامل الاستعداد الوراثي الكامن داخل الشاعر العربي وداخل القصيدة العربية التي تمنحه الدور الأساس . المذهب البغـدادي الذي يجري على هامش السياق الشعري السائد حتى اليوم ، يعرف كل ذلك . وهو بهذه المعرفة يعزز لديه اعتماده على الخبرة الروحية ، ويستعين من موروثه ، من حيث يعي ذلك أو لا يعيه ، بأصوات طرفة وعنترة وعمر بن أبي ربيعة وبشار وأبي نواس وابن الرومي والمعري ، موصلا تلك الجذور بالفروع التي تمتد حتى السياب وأضرابه في المدرسة الحديثة ، دون أن يغفل أن هذه "الخبرة الروحية" في الشعر لا تعدم تماما لدى المدرسة الشامية . فشعراؤها منذ النابغة ، مرورا بالبحتري وأبي تمام حتى أدونيس ، لا يخلون تماما من تلك التوهجات ، التي تردم "الهوة" بين "الصناعة" والحياة ، بين النص الشعري والخبرة الروحية . إلا أنه يعرف أيضا أن لا سبيل إلى الخلاص مما هو جوهري فيها ، مما هو عُرفي لم يألف العواطف التي تتسامى ، بفعل قوة الوعي ، إلى أفكار تسعى أبدا إلى البناء لا الهدم ، إلى المسؤولية لا اللامبالاة ، إلى المعنى لا إلى الشكل . إن تضاريس هذين التيارين في شعرنا الحديث لا سبيل إلى إنكار معالمها ، التي أزعم أنها واضحة تماما . سأسعى فيما بعد إلى الإحاطة بهما . والآن لأواصل الحديث عن ملامحهما داخل الموروث ذاته .
المدرسة البغدادية ، التيار الهامشي قياسا إلى تيار الشعر العربي السائد ، ظلت ، إذا صحت التسمية ، ممتدة خارج حدودها التاريخية في العصر العباسي ، ثقيلة الوطأة على الذوق الرفيع المتمثل بمؤرخي الشعر ونقاده وكتّابه داخل المسار المشروع العام . ولعل خير نموذج وقع عليه بصري تعليق الدكتور عمر فروخ ، في تاريخه الموسع للأدب العربي ، على الشعراء المحدثين . فأدبهم ، قياسا إلى الأدب القديم الذي كان "أحسنَ تعبيرا عن معاني الإنسانية الصافية" ، إنما انصرف إلى "منازعِ النفسِ الشخصية منقطعةً عن كل شيء إلا عن وساوسها الآنية النابعة في الأكثر من رغباتها الشخصية" . "المعاني الإنسانية الصافية" ، أي الخالصة من شوائب ما هو شخصي . لأن "الروعة الخالصة التي جاءت في الشعر القديم كانت أشد تعبيرا عن الشعور الفطري في الفرد المتصل بقومه وبتاريخ قومه الأدنين" . وهذا الحنين ، عبر عثرات المحدثين ، يتضح أكثر في الفقرة التالية : "وبعد ، فإننا في بعض أدوار حياتنا ، بعد العشرين والثلاثين ، نوغل في الإعجاب بنفرٍ من الشعراء المحدثين لتطرفهم في الانفلات مما حاولت أن تقيدهم به أحوال أزمانهم ، لأننا نحن نحاول في تلك الفترة من حياتنا أن ننفلت مما انفلتوا هم منه ، فنحن ، من أجل ذلك ، نحب أن نجاريَهم تعصبا لأنفسنا لا إذعانا لما في شعرهم ذلك من الحق أو من القيمة . نحن نحب بشارا وأبا نواس وابن الرومي حبا جما ، ويعجبنا شعرهم إعجابا كبيرا . ولكننا لا نكاد نجاوز السن التي يندفع فيها الإنسان مع عاطفته الثائرة حتى نعود إلى الأدباء القدماء أو ننتظر مجيء أبي تمام والمتنبي كي نرتاح في حدائق شعرهم ونجد في شعرهم صدى لحقائق الإنسانية المطلقة وصقالا دائما للعقل الذي هو الفارق الوحيد بين الإنسان المتطور صُعدا وبين الإنسان الذي انحرفت به منازعه الأولى مرة فلم يعد بعدها إلى سمت الإنسانية الأصيل" (26) . هذه الرغبة للعودة إلى التيار الشكلي العرفي ، بعد التخبط اللذيذ الحي في وحل خبرات الروح ، يبدو طبيعيا . بالرغم من أن الدكتور فروخ يستعمل مفردات لا يصعب استبدالها بأخرى أقرب إلى الحقيقة النفسية . فالاستراحة في حدائق شعرهم إنما هي استراحة في عناصر الصنعة الفنية المهذبة من معكرات العواطف الشخصية والخبرات الفردية . وحقائق الإنسانية المطلقة هي التجريدات الذهنية التي تتجلى في الحكم والأمثال ... الخ (ولقد عادت هذه التجريدات الذهنية في الشعر الطليعي اليوم ولكن بتجليات تناسب صيغ الحياة الحديثة !) . شعر أبي نواس وأشباهه ، وشعر عمر بن أبي ربيعة من قبله ، وابن الرومي وأبي العلاء من بعده ، لا تهمه "الأغراض" ولا صنعة الفن الرفيع ولا متطلبات الأعراف الشعرية المفروضة من الخارج . على أنه لا يملك إلا أن يستجيب أحيانا لما تريد بفعل طغـيانها . ولكن لا عن رضا ورغبة ، بل تلهمه القوى الخفية في داخله ، تلك التي تفرده عن محيطه ، تماما كما ستلهم أضرابه الآتين في زمن "الحداثة" ، أولئك الذين سيمتـنعون ، كما امتنع ، عن الاستجابة للأغراض وهي تأخذ أقنعة ملائمة لعصرها ولكن بأسماء جديدة مثل "الشعر القومي" "الشعر الوطني" "الشعر التقدمي" ، "الشعر الكوني" ، "الشعر الجديد" ، ""شعر التمرد" ... الخ . سيمتنعون عن الاستجابة لأنهم يعرفون أن الأعراف ذاتها ولكنها ، هذه المرة ، أقنعة مستعارة من الغرب كما يستعار الثوب . كان أبو نواس لا يحسن الشعر إلا في الغزل والخمرة ، وكان يكره صناعة الأدب كرها شديدا . وهذان شرطان مهمان للشاعر المحدث في زمنه . ومهمان للشاعر الحقيقي في كل زمان : أن يحسن الاستجابة للقوة الخفية في داخله ، وأن لا يؤخذ باللعب الشكلي الذي عماده الذهن والذكاء . ومن المعروف أن كل الشعراء الذين يشاركون أبا نواس وعمر بن أبي ربيعة من قبله هذا الانتماء إلى الخبرة الروحية التي تعتمل في الداخل ، والذين يرون أن الشكل الرائع إنما يتولد من المعنى الداخلي الرائع ، والشكل المتفرد إنما يتولد من الخبرة الداخلية المتفردة ... الخ ، كانوا خارج دائرة "الأغراض" و "المحسنات" . وبالرغم من أن هذا الخروج كان عيبا عند كثير من النقاد ، ومازال يشكل عيبا في العرف الذوقي والنقدي اليوم ولكن بقناع آخر ، إلا أن ذواقة حصيفا كالجاحظ يجده ، على العكس ، دليل شاعرية . فهو يكتب عن أحدهم ، وهو العباس بن الأحنف ، قائلا : "لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلاما وخاطرا ما قدر أن يكثر في مذهب واحد لا يجاوزه . لأنه لا يهجو ولا يمدح ولا يتكسب ولا يتصرف . وما نعلم شاعرا غيره لزم فنا واحدا لزومه فأحسن فيه وأكثر" (27) . ذلك أن العباس بن الأحنف قصر شعره على الغزل والوصف ولم يتجاوزهما إلى مدح وهجاء . ولا أحسب أنه فكر في ذلك ولا تعمده . تماما شأن ابن الرومي الذي ملكته جاذبية الوصف والتحليل الموسوس بالتفاصيل ، حتى وهو يخضع قدراته للتفاصيل الأخرى . ويعترف مؤرخ الأدب أن ابن الرومي لم يكسب من وراء مدائحه ، لأنه خيب أمل الممدوحين وخسرهم ، بسبب تمسكه بطرق التعبير الشعرية التي تلاحق المعنى . وهي إحدى خصائص المذهب البغدادي (28) . إن أبا نواس ومدرسته ، على هامش المدرسة اللفظية السائدة وخارج دائرتها ، يكشفان في الشعر عن هوية الإنسان كتجربة فريدة ، عبر الحيرات والتساؤلات بكل ما تنطوي عليه من ضعف وعزلة ولا يقين . ولذلك تجد فيها أكثر من صدى عميق لتلك التي سنرصدها لدى شاعر كالسياب بعد أكثر من ألف عام . على العكس ، تماما ، مما تعثر عليه في التيار السائد من نزعات الروح البدوي في الفخر المعبأ بمشاعر الأنا المتضخمة القادرة ، المفتونة بوهم عصا موسى السحرية على التغيير . لا يدخلها الوهن والضعف وانكسارات الخيبة ، إلا إذا كانت على هيئة كليشات لفظية وتركيبات بلاغـية مصنوعة ، تماما شأن الألفاظ والتركيبات البلاغية المصنوعة التي تشير إلى تضخم الأنا . شكّل أبو تمام ومدرسته ، وهما التـيار الذي يقبض على مجرى الشعر العربي في كل أزمنته ، حزام أمان في وجه الشعر الذي يصل نصّه بالخبرة الروحية مباشرة ، والذي يسعى للكشف عن هوية الإنسان الفريدة ، وليدة خبرة الحياة . كان أبو تمام أحد أعلام المذهب الشامي الكبار ورأس المجددين المحدثين . ولقد أعطى لمعنى "التجديد" طابعا ظل يتردد صداه في "تجديد" اليوم بصورة واضحة . وليس غريبا أن تجد الكثير من شعرائنا الكبار اليوم يستعيدون ، في معرض احتفائهم بحداثتهم ، ثورة أبي تمام الحداثية في زمنه . ولكن ما الذي فعله أبو تمام ؟ لقد عزز بصورة مذهلة ، بفعل شاعريته وذكائه الحاد ، كل العناصر التي تدهش الذائقة الشعرية عن خبرة النفس الحية في النص الشعري . بتعبير آخر ، عمّق الهوة التي تحدثت عنها بين النص المكتوب والخبرة . سلب من المخيلة ، أو ساعد على سلب ، جذرها العاطفي وربطها بالذهن . اقتصر الشعر لديه على "غرض" المدح ، أكثر الأغراض علاقة وطيدة بالكذب والاستيهام . وليس محض صدفة أن يكون تأليفه لكتابه الشهير "ديوان الحماسة" أول مبادرة نقدية أسست لشرعية "الأغراض" الشعرية . بالرغم مما ينطوي عليه الديوان من ذائـقة شعرية مرهفة في الاختـيار ، جعـلت التـبريزي الشارح يرى "أن أبا تمام كان في اختياره الحماسة أشعر منه في شعره" . وضع أبو تمام "ديوان الحماسة" حين نزل ضيفا على أبي الوفاء بن سلمة ، في منطقة جبلية شرق العراق . وكان ثلج الشتاء قد قطع الطرق ، فصرف الشاعر وقته بين رفوف مكتبة أبي الوفاء الغنية ، ينتخب من دواوينها وكتبها الشعرية ما شاء له ذوقه المرهف من أبيات ومقطوعات يستلها من القصائد ، ويفردها في أبواب ، يخدم كل باب "غرضا" شعريا بذاته . هذه المقطوعات لم تكن تشكل أغـراضا مستقلة في ذاتها داخل القصائد التي قرأها أبو تمام . خاصة القصائد الجاهلية الطويلة . ولكن أبا تمام في محاولته المنسجمة مع طبيعة وعيه الشعري ، أسهم في بناء صرح "الأغراض" ، المستقلة خارج ذاتية الشاعر ، نقديا . وهذا الإسهام يملك القاعدة التي تبرره داخل العقلية الشعرية العربية . كما أن معظم الذين جاءوا معه وبعده اعتمدوا هذا المذهب . بهذا تبدو "حداثة" و "تجديد" أبي تمام على قدر من الازدواج . فهي تخفي وراء طليعيتها الشكلية جوهرا صلبا لتعـزيز العرف الشعري التقليدي ، الذي يلغي ذاتية الشاعر وفرادة تجربته الداخلية ، ويعوض عنها بذكاء الكلمة وذكاء الجملة (الصورة) وإدهاشهما . وبهذا يكون أبو تمام قد كرس موهبته الضخمة لصالح المخيلة التي تعني ، وهي تتجرد من مشاعر وأفكار الشاعر الحبيسة ، "قوة في جزالة الألفاظ ومتانة التركيب وتكلف الصناعة المعنوية والصناعة اللفظية والولع بالإغراب في تقصي أوجه المعاني وفي التشابيه والاستعارات" . أنت تملك أن تستبدل هذه المفردات النقدية الإطرائية القديمة بمثيلات لها حديثة الطابع ("الشعر عنده ليس أسير الحياة بل آسرها ، يكيفها ويختارها ويخلقها على مثال فني خالص " ! كما يقول أدونيس) . ولكن ذلك لا يخفي المفارقة الظاهرة التي تتلبس كلمات نقدية مثل "الجديد" و "القديم" في المصطلح النقدي العربي . لأن كليهما مستقلان عن الكائن البشري الحي الذي أطلقها . إنها تعبير عن "مثال فني خالص" . ولذلك قد يبدو لي هذا الانقطاع عن خبرة الحياة والتوسل بـ "البدعة" إحدى علائم "المحافظة" و "التقليدية" لأنها تشاكل من حيث الجوهر ، الطبيعة "الشكلية" "اللفظية" للشعر العربي . ولا يعنيني كثيرا الحذق في استعمال المصطلح النقدي ، فتبدو ألوان الخيال الشعري هو صناعة معنوية لا يختلف من حيث جوهره عن اللعب بالألفاظ في الصناعة اللفظية ، إذا ما كان كل منهما منقطعا لنفسه عن تجربة الشاعر الداخلية ، ومستقلا عن حيراته وتساؤلاته . الجديد هو جديد الخبرة . وعبرها وحدها يكون الخيال جديدا ، وتكون الألفاظ جديدة . ما من جمال في المخيلة والألفاظ في ذاتهما . إن المعنى العميق ، وليد الخبرة الوجدانية الواعية ، هو الذي يفرز الصورة العميقة والشكل العميق . وما مراجعة الشاعر لمعناه وشكله إلا مراجعة المحترس المشذب . هذه القاعدة قد لا تبدو ضرورية وملحة ، في شعر وأدب أحد ، قدر ضرورتها وإلحاحها في الشعر والأدب العربيـين ، بسبب آفة اللفظية والشكلية التي استحوذت عليه ، حتى أصبحت طبيعة فيه . ومن هنا يتولد احتراسي ، ودعوتي الآخرين إلى ذات الاحتراس ، من خداع النفس بالمفاهيم الشكلية للتجديد ، وبتوليد الألفاظ من ألفاظ ، واستحداث "المفاجىء والصادم" من المحسنات والاستعارات . إن هوية عمر بن أبي ربيعة وبشار وأبي نواس وابن الرومي تبدو بشرية تماما . في حين لا تبدو هوية أبي تمام كذلك . إن خبرته الروحية مستلبة ، وعواطفه الإنسانية مقموعة ، بفعل "حداثته" . وهو أمر ينسحب حتى على الشعراء من "المذهب البغدادي" . كما أن هذا الأمر ينسحب على بعض شعراء المدرسة الحديثة في عصرنا هذا ، خاصة أولئك الذين طوتهم موجة الحداثة الشكلية كما طوت أبا تمام . إن فرادة الخبرة الروحية تتضح ، بالضرورة ، عبر النصوص . ولذلك يسهل على المخيلة ترسّم ملامحها ، وعلى الرسام وضع خطوط تعبيرية لصورتها المرئية . في حين تعجز المخيلة والرسام عن صنع الشيء ذاته مع نصوص المهارة اللفظية وفطنة الخيال المدهش . لأنهما يعكسان ذهنا رفيعا لا روحا عميقة . والشعر والفن عموما ، يخرج من الثاني لا من الأول . والقيمة الجمالية تتحقق في فرادة الخبرة الروحية (أبو نواس والسياب نموذجا) ، لا في الشكل الذي تفرزه . بمعنى آخر أن التجربة الداخلية الشغوفة في الذهاب بعيدا من أجل الكشف عن جوانب إضافية لـ "حقيقة" الكائن الإنساني ، حسنة كانت هذه الحقيقة أو بشعة ، هي ذاتها المولد للقيم الجمالية . وهذه "الحقيقة" هي ما يفضل الكاتب الروسي الأصل "تدوروف" أن يطلق عليها اسم "الجمال" ، نافذا بين موقفين نقديين شائعين ، يرى أحدهما الشعر منقادا إلى الموقف الأخلاقي ، كما ينقاد الفن إلى الحياة . في حين يجد الآخر الشعر أرفع وأكثر تجردا من الموقف الأخلاقي ، شأن الفن الذي يسمو على الحياة . إن "الحقيقة" الداخلية ، التي يحاول الشعر أن يكشف عنها ليتمثلها ، تنطق عن "الجمال" فيه . والتمثـل هو الذي يدل على عـظمته . وأن استـسلامه لأية متـطلبات خارجـية لا تـؤدي إلا إلى إفساده (29) . وإشارة "تدوروف" هذه تعزز القناعة بشأن القيمة الجمالية في الشعر . إن ما يبدو "جميلا" لدى أبو نواس والسياب هو الحقائق الجديدة والمفاجئة في خبرتهما الداخلية الفريدة ، لا في صورهما الجديدة المفاجئة . إن "الجمال" لا ينـفرد في "الصورة" أو "البنية" أو "اللغة الشعرية" أو "الشكل" عموما ، بل هو الذي ينفرد في حالة الكشف عن معنى ، عبر مشاعر شديدة الفرادة والشخصية : إنه جمال اختيار العبث سبيلا لاختراق حجب الحياة الخارجية ، جمال الاستغراق الإرادي بإرباك الحواس عبر الخمرة ، جمال التواطؤ الفاوستي مع الشيطان ، جمال توحيل المعارف المشتركة بالممارسة الفردية والأساليب الشعرية المتعالية بالعزلة الشعرية عن أي أسلوب . جمال مشاعر الذنب لدى المتمرد ، وجمال موارد الحكمة في إفلات المراهقة من الحكمة ، جمال التناقضات . إنه جمال أبي نواس الذي يخصه وحده ، إذا أردنا أبا نواس نموذجا . وعبر شبكة الخطوط الحية التي تصبح فيها "الحقيقة" و "الجمال" قيمة واحدة ، تستطيع أن تستل الخط الذي ترسم فيه "البورتريت" الملائم لأبي نواس . وكذلك الشأن مع السياب : ارتباك الحواس ، الحنين إلى الموت ، الإحساس بالخطيئة بفعل سطوة الخارج الذي لا يعرف الرحمة . انتساب الإشراقات النورانية إلى مملكة سفلى . الهرب المرير من الحياة والناس وقد أثقلاه بالشروط التي لا تحتملها قواه الروحية والعقلية والجسدية . هذه جميعها حقائق جديدة ، وقوى جمال جديدة . ولعل التمثل بشاعر المعرة يقطع السبيل أمام أي شك بشأن الجمال الذي يتجسد من قوى المعنى المتـفجرة . إن ما يذهل في أبي العلاء ليس الاستعارات الرائعة ولا المجازات . فهذه وسائل كل شاعر كبير ، ولا يمكن أن تستـقل لتشكل امتياز الشاعر الوحيد . وجمالها يكمن في جمال الحقيقة التي تقود إليها . إن ما يذهل في أبي العلاء هو هذه الدوامة الليلية المعبأة بالحيرة واللايقين . هذه الانحناءة المشفقة على ابن آدم . هذه التساؤلات المسئولة ، القاصرة عن احتمال مسؤوليتها ، والمثـقلة بفعل ذلك بالقصور والذنب . هذه السخرية من نبوة الأنبياء فكيف بنبوة الشعراء ! والسخرية من غطرسة الذات المتعالية ، ومن معارف اليقـينيـين والواثـقين بما يرون وما يقولون ثقة أبناء العقيدة . إن جمال شعره ، الذي هو ملء الكيان لدى المتلقي ، روحا وعقلا ، هو الانعكاس الحسي المدرك لحقيقة عالمه الداخلي . إنه جمال لا يجعلك تكتفي به ، حتى لو كانت به الكفاية . بل يدعوك إلى تجربة الفرد الأعزل . إلى تجربة الصمت التي تكاد تطبق على نفسها داخله . إنه جمال الضعف الإنساني والانكسارة الإنسانية والمرض الإنساني . بالمقابل ، كيف يتاح لك أن ترمم "بورتريت" لشعراء كبار تعجب بهم كالبحتري وأبي تمام وأدونيس ؟ إنه يبدو بحثا عن "حقيقة" في شعرهم لا يتولد إلا من مخيلة عمادها المرئي اللفظي . من جهد فني منطلقه الذهن والذكاء . وإذا ما تولدت شرارة عارضة من هذا الجهد تنتسب للروح ، فهي خاطفة ولا تكاد تكفي لتزويد لمسات فرشاة معدودة . إن شعرهم تنويع بارع على موضوعة جاهزة أو متحركة خارجهم . ويتسع ويسمو هذا التنويع بمقدار ما تسمو وتتسع مهارتهم وحدة ذكائهم . والتجربة الروحية لا تدخل طرفا ، حتى لو حاولت ، إلا من زاوية نفعية . فالعاطفة ، إذا ما تولدت ، تأخذ شكل حماس ينتسب لهذه المهارة . والشاعر يفرح حد الجنون إذا ما حققت قصيدته مرادها بنجاح . ويحـزن حد الجنون إذا ما حدث العكس . وهذه العاطفة لا تـتخذ "الذات" في خبرتها الفريدة و "الإنسان" و "الحقيقة" هدفا . بل هي تجعل من تحقيق النجاح هدفها الأسمى . ويعتمد تحقيق الذات على تحقيق النجاح هذا . ولذلك تنعكس سطحية النجاح على طبيعة "الذات" التي تبدو سطحية ، مهما تعقدت في نصها الشعري الخطوط وتزاحمت الصور وتجلجلت الأصوات . والطريف أن هذا الأمر ينعكس على نقاد ودارسي شعراء كالبحتري وأبي تمام وأدونيس . فلغة هؤلاء النقاد تـتجرد وتتذهنن مع تجرد وتذهنن النصوص الشعرية . إنها تتعثر بالمهارات الشكلية ، وسرعان ما تجد نفسها مضطرة للتلبس بذات المهارات الشكلية . فتصبح لغة حائرة في اللعب على نفسها وعلى النص وعلى القارىء . لأن مادة النصوص الشعرية لا تسعفهم في استقصاء تلك المعاني والرؤى والمشاعر ، التي تحرر الناقد (والقارىء) من محدودية الشكل الخانقة . بل تعطيهم أكثر من فرصة لاكتشاف مناطق جديدة ومجهولة في النفس الإنسانية . هذه الفرصة لا تمنحها إلا فرادة التجربة الشعرية الداخلية . هؤلاء النقاد مضطرون إلى الانصراف إلى جادة "التجديد" و "التحديث" و "الطليعية" . لأن هذه المصطلحات الملتبسة جميعا تعتمد ، ولو بالظاهر ، على التجديد الشكلي والتحديث في التقنيات والمبادرة إلى توفير المدهش الذي لا قِبل لأحد به . وهناك أكثر من معين في جديد وحديث وطليعي الأدب الغربي اليوم . إن حماس أبي تمام للاستعارة الجديدة يقابله في الطرف النقيض حماس أبي نواس للتجربة الروحية الجديدة . وبينما تتجرد الأولى عن الإنسان ، تزدحم الثانية به . والإنسان هو موطن "الحقيقة" الشعرية . وهذه المقابلة تصح مع شعراء كثيرين غيرهما منذ العصور الإسلامية المبكرة حتى اليوم . على أن هذه المقابلة تظل غير متوازنة في تاريخ الشعر العربي كله ، لأن الكـفة الأولى ، التي انتصرت للإنسان موطن الحقيقة ، تبدو هامشية ومحاصرة حتى اليوم . فنحن نجد أكثر شعرائنا ينضوون تحت "الأغراض" الشعرية التي تحتفظ بشيء من الاستقلال عنهم . حتى لو أخذت هذه "الأغراض" أقنعة ملائمة للعصر أو للظرف التاريخي . إلا أنها تظل وجها آخر للأغراض القديمة من حيث انتسابها للعرف الشعري ، عرف الجماعة لا الفرد . إنها مستقلة ومتعالية . وشاعرية الشاعر إنما تعتمد على حسن التعامل معها ، ومهارة الانتفاع بها . فشاعر "الحب" ، وشاعر "القضية" ، وشاعر "الحرية" أو "الثورة" ... الخ ليست إلا تسميات تعكس نزوعات للهرب من التجربة الفردية ، والانضواء تحت طيات "الأغراض" الموروثة . فشاعر "الحب" يحسن الكتابة عن الحب بفعل موهبة فنية رائعة ، ولا يتطلب منه الأمر ، بالضرورة ، أن يكون محبا لأن الحب هنا ، أو التغزل بالمرأة ، "غرض" ولا علاقة له بالتجربة . وكذلك الأمر مع "القضية" ، أية قضية كانت ، فلسطين أو الأمة العربية المجزأة ، أو النضال الأممي ، فهي جاهزة في المعتقد ، مشاعة بكل تفاصيلها للشاعر وللآخرين . ولكن الأول ، يحسن ، أكثر من غيره بفعل مهارة فنه ، التقاطها وإحـياءها في صور ، بمعـزل عن أي مسعى يعنى بالحقيقة . لأن "القـضية" هي الحـقيقة المكـتملة التي لا تـتأثر بمجسات الشاعر الفردية . وهذا يصلح على "الحب" و "الثورة" و "الحرية" و "الرفض" ... الخ . ولعل خير مثال يضرب للكشف عن الجانب الذي يتعارض مع الشعر ، في هذه الظاهرة الشعرية العربية ، هو أن شاعر "الغرض" هذا ، بفعل قمعه لتجربته الروحية وإحالة كل الحياة إلى مفاهيم وأفكار ، يعطل فاعلية "الزمن" في مسار تجربته الشعرية . فالتجاعيد التي يحفرها الزمن على بشرته ، ومسحة الوضوء التي يغشيها في روحه لا تنعكس ، بالضرورة ، على نصه الشعري . شاعر "الحب" في العشرين ، هو ذاته شاعر "الحب" في الخمسين ، وفي السبعين ، وشاعر "التمرد" و "الجنون" في مرحلة المراهقة والشباب ، يظل شاعر "التمرد" و "الجنون" في مرحلة الكهولة والشيخوخة . لأن التمرد والجنون في شعره فكرتان جاهزتان ، دائرتان مكتملتان ، لا تتعرضان لفرشاة الروح المتغيرة أبدا ولا لرياح الزمن . وكذلك مع شاعر الأغراض الأخرى . فشاعر "الحرية" و "الثورة" ينشد هاتين الفكرتين الجاهزتين ، المحاصرتين داخل اللفظة ، المعزولتين عن حياة الشاعر الشخصية ، خبرة ووعيا وسلوكا . يحفظ لهما نقاءهما داخل مخيلته ، دون أن يترك لحياته الخاصة أو الحياة العامة أن تمسهما أو تعكر نقاءهما . ودون أن يشعر بما يمكن أن تولده الألفاظ (ألفاظ المثل الجاهزة أو "الجودة المثالية" كما يسميها احسان عباس) عند احتكاكها ببعضها من غيلان وأسلحة دمار . صلاح عبدالصبور في قصيدة رائعة "مذكرات الصوفي بشر الحافي" يشير إلى معنى كهذا : " ولأنك لا تدري معنى الألفاظ ، فأنت تـناجزني بالألفاظ اللفظ حجر اللفظ منية فإذا ركبت كلاما فوق كلام من بينهما استولدت كلام لرأيت الدنيا مخلوقا بشعا وتمنيت الموت أرجوك الصمت الصمت " ولكن الشاعر العربي الذي يعتمد قوالب "الجودة المثالية" في "صناعة" تجربته الشعرية وصناعة نفسه أيضا لا يعنيه أنه يولّد دلالات من وهم خالص . ولا تعنيه المفارقة الناتجة عن معنيين للحرية في عالم يتداعى فيه كل شيء . معنى مثالي لا قيمة له ، وآخر واقعي شائه لا يسنده قانون . وكذلك عن معنيين للثورة ، مثالي وآخر يرتبط بالدم والجريمة . إنه يتجنب التحديق بلعبة ألفاظه ، التي أرعدت فرائص عبدالصبور ، لكي لا يرى الدنيا مخلوقا بشعا . فهو يفضل التحليق مع الألفاظ في بالونة لغوية إلى الوهم الكاذب . لا لأنه يوفر له الطمأنينة وحدها ، بل يستحيل بين يديه سبيلا للتفوق والجاه ، وسلاحا للتنكيل ، إذا أحوجه الأمر إلى ذلك . الشاعر العربي ، في سياق المذهب الشامي ، لا يحتاج أن يأخذ الزمن وعمره الشخصي بنظر الاعتبار . هذه الحاجة التي يجدها شاعر مثل أودن على قدر من الأهمية ، "حيث يتوجب على الشاعر أن يكون وفق سني عمره ، لا أكثر شبابا ولا أكثر شيخوخة" (30) . إن التزام الشعر بالاستجابة للحاجة الخارجية والخضوع للعرف الشعري العام له وجه آخر أكثر سطحية وأبعد عن جوهر الشعر ، نتبينه في هذا الاقتران بين الشاعر وبين "الجودة المثالية" . في الجاهلية كان الشاعر سلاحا فاتكا ، ولكن بيد الجماعة . وموهبته يغذّى فيها الخيال المحـض ، القـادر على الإطاحة بالرفـيع وإعلاء شأن الوضيع . وهي تـتوسل هذا الخيال من أجل الوصول إلى الهدف ، معـتمدة على قاعدة لا تـقل ادعاءً عن ادعاء الهـدف المرسوم ، وهي أن الشاعر هو القـيّم على هذه "الجودة المثالية" ، تـنطلق منها كل قيم الشجاعة والصدق والرفعة والكرم والنبل ... الخ . في الإسلام بقيت هذه "الجودة المثالية" وأعطيت مساحة من القداسة . وبالرغم من أن الإسلام جرد الشاعر من حرية الخيال إلا أنه منحه فرصة الممثل الإعلامي لقيم الدعوة الجديدة . وهكذا عزز دور الشاعر من جديد . وما إن خفت وطأته عليه حتى رجع الشاعر منتصرا لنفسه في العصر الأموي والعصر العباسي . لأن القـيّمين على "المثـل العليا" أصبحوا أكثر سلطانا وجاها وثروة . السياق الذي تُوّج بـ "المذهب الشامي" لم يترك خيارا للموهبة إلا أن تجد ضالتها في هذه "الجودة المثالية" التي سماها عمر فروخ "حقائق الإنسانية المطلقة" ، التي يقع على صداها في حدائق أبي تمام والمتنبي . فهي وحدها معيار الشعر الجيد . وهذه المثل مفروضة وتـنزل على الشاعر من فوق ، مع المكافأة والقـناعة اللفظية . وبحكم تسلطها الخارجي ألغت المصدر الداخلي ، الواقعي ، الشخصي للحقيقة الشعرية . لم تـترك للشاعر فرصة أن يعرف خبايا النفس ، ينبوع الشعر ، التي يتزاحم فيها الله والشيطان ، الضوء والظلمة ، أو ليتجرأ أكثر ليعرف أن الشيطان أكثر أسراً في أحيان كثيرة . على هامش السياق السائد تجرأ بضعة شعراء على ذلك ، ولكن بصورة مواربة ، غير خالصة . أو أن جرأتهم بقيت ترزح تحت عرف "المثـل" العام . فإذا ما خرج أبو نواس وابن الرومي والمعري ليعرّوا ضعة النفس وهزال الكائن ومخاوفه تحت شمس الشعر ، فإن هذه الشمس كانت تحجبها غيوم العرف الأشد كثافة التي يمثلها شاعر عملاق التأثير كالمتنبي وأبي تمام ، معبّأين بمثل الشجاعة والرفعة والنبالة والكرم والعظمة والسمو والجمال ... الخ . هذا السياق السائد تجذر عبر فـترة مظلمة ، تـشبه ظلمة اللاوعي ، في أعماق الشعر العربي الذي خرج إلى نور التجديد اليوم معافىً كما يتوهم . فأنت ترى "الجودة المثـالية" تـتخفى في كيان كل شاعر . وأصبحت الأغراض الشعرية الجديدة مفاتيح بيده لبوابات هذه المثل المجردة . و "الحرية" و "الثورة" و "القضية" و "الحب" و "التجاوز" و "النبوة" ... إنما هي قيم كاملة هو عرّافها . ولذلك لا تجد ، في كل ما يكتب لدينا ، شعرا اعترافيا . لا تجد شعرا يكشف عن مشاعر الخطأ والذنب والضعف . وإذا ما وجدت شعرا يقارب ذلك فهو بكائي خادع ، لأنه يصدر عن شعور بالعظمة متخفٍ ومتستّر أو مقموع . ولأن بكاءه ينصب على ندب المثـل الضائعة المتمثلة به هو ، وفضح انحطاط الحياة المتمثلة بالآخر ، وعدم قدرة الخارج الأعمى على رؤية قيمته هو ، أو الخارج الأصم على سماع صوت نبوءته ونذيره . وإذا ما وجدت حديثا عن الموت فإنما كفكرة مجردة داخل موروث لفظي ، أو حديثا عن الجنون فكجنون عظمة . الشاعر العربي مازال يطلع من قيم لفظية . ما من نقص أو عيب يكشف عنه الشعر . وكأن هذا النقص والعيب لم يكونا ينبوع الشعر الإنساني في كل مراحل التاريخ . إن هناك دائما ما يؤكد حقيقة أن الشعر إنما يكتب عبر عواطف وأفكار الإنسان المعقدة . وإدراك شعره يتطلب "العبور إلى ما وراء الآراء والمواقف المجردة ، وإلى تفحص الشبكة المعقدة للرغائب والمخاوف التي تتخفى مرتجفة تحت سطح السلوك العقلاني ... إن تحليل النفس البشرية يكشف عن أن الغموض الكامن في قلب الشعر يعكس التعارضات الغريبة للروح الإنساني . إنه يعلمنا بأن الضعف الإنساني قد يترافق مع الفطنة الروحية ، وأن الألم والإحساس بالخزي قد يحطم انحلال العقل ويطلق عنان الشعر المعتقل هناك . وإن تقييمنا التقليدي للسلوك يشذب على ضوء تواضعنا ، وعلى ضوء معرفتنا المتنامية بأن الشاعر كائن أكثر إثارة وأكثر تراجيدية في آن ، من النموذج الثوري أو الشاعر الفروسي" ... "إن الشاعر ، من أجل أن يكسب شعره غنىً وحياة دائمين ، يتوجب أن يكون قادرا على الذهاب بعيدا إلى تلك المصادر العميقة للحيوان وللعواطف المضطربة داخله" ... " كان الشاعر كولرج يعرف بأن الآراء والمعتقدات ، مهما تكن بارعة ميتافيزيقياً ومحكمة ، ما هي إلا بنيات فوقية ، وأن الشاعر لن يجد قوة دائمة إلا من : العواطف والحياة المطمورة ينابيعها في داخله" (21) . إن شعر السياق السائد ، بهذا القياس ، شعر "جودة مثالية" ذهنية ومصطنعة ، لا يعتمد ينبوعا داخليا يربض فيه الحيوان القديم الذي أشار إليه محمود البريكان في إحدى قصائده : حين انفتحت دائرة الضوء من أول مصباح يدوي فأضاءت رسم الوحش الرابض في الصخر حدق أول إنسان في وجه الوحش اختلج الوحش وحدق في وجه الإنسان
إذا صحت نظرية فرويد النفسية بأن الشعر والفن والأدب الخيالي عامة نتاج نوازع ورغائب لا واعية حبيسة ومقموعة ، تجد متنفسا أحيانا في أشكال مقنعة ، وتعبر عن نفسها بصورة رمزية شأن الحلم ، وإذا صحت معها تأملات توماس مان حول الفنان كشخص مصاب بداء العجز ، مقارنة بالشخص العادي ، وأنه مهدد بمرض ما ، ويخضع لمهمات وراء قدراته وقواه ، فإن تورط الشاعر العربي بعرف "الجودة المثالية" وبالإيمان بمؤهلاته الاستثنائية التي لا تشوبها شائبة ، حيث ينعكسان بشعره بمباهاة صارخة ، يبدو مفارقة تبعث على الرثاء . بالرغم من معرفتنا بالجوهر اللفظي لهذه المفارقة . فإن خصائص "الجودة المثالية" التي يسمو إليها "المدح" و "الفخر" وينحدر عنها "الهجاء" وتعـرية الأعداء ، هي محض خصائص لفظية لا تـقارب الواقع أو الحياة ، إذا لم تكن تـتعارض معهما . وكذلك الشأن مع خصائص الثـائر والنبوي والمغير والحر والمجنون والمتمرد والمناضل التي تمسك بتلابـيب الشعر الحديث ، فهي لا تـتجاوز دائرة المهارة والصنعة . لأن المزاعم الفكرية والمواقف التي تطعم بها إنما هي مُملاة عليها من الذهن ، من العرف المثالي السائد المفصول عن الحياة . أحب أن أعيد على الأسماع أن مصطلحي "المذهب البغدادي" و "المذهب الشامي" ليسا دقيقين تماما . وإنني اخترتهما بفعل وقعهما التاريخي . فإن كلمة "مذهب" لا تبدو ملائمة لتيار شعري وأدبي أزعم سيادته شبه المطلقة على الموروث ، واستمرار سيادته حتى اليوم . كما أن المذهبين غير مستقلين عن بعضهما بعضا بصورة قاطعة . بل هما ، بحكم انتمائهما إلى لغة واحدة ومجرى ثـقافي وحضاري واحد ، يتداخلان مع بعض ، حتى لا تكاد تبين نقاط التداخل والتقاطع بينهما ، في أحيان كثيرة . إن أبا نواس يملك من إرث وطبيعة أبي تمام الشعرية الكثير . كما يملك جرير من عمر بن أبي ربيعة . ولكن محاولات "شعر الخبرة" لاختراق سطوة "شعر التقـنية" على امتداد أكثر من خمسة عشر قرنا ، جعلتـني أميل إلى الاستعانة بالمصطلحين النقديين القديمين ، من أجل إبراز البعد التاريخي للإشكال أولا ، وإبراز الوعي النقدي – غير الفاعل – للظاهرة . وهذه الحقيقة تضطرني لأن أفرد شاعرين كأبي الطيب المتنبي وأبي العلاء المعري جانبا ، وأقحمهما في غير موضعهما الذي ارتآه النقاد القدامى . فهما ينتسبان "للمذهب الشامي" ، في المقياس النقدي القديم ، لأنهما انتصرا لتكلف المحسنات ، والتزما شروط القصيدة العربية الموروثة . ولكن أمر هذا الانتصار والالتزام يبدوان غير كافيين لجعلهما ينتميان لتيار أبي تمام ومسلم بن الوليد والبحتري . إذ أن هذا الميل إنما يتلاشى في ظل ميلهما المندفع ، ولكن المتـفاوت ، نحو مزيد من الكشف عن "الحقيقة" الداخلية ، والكشف عن الخبرة الروحية . كان المتـنبي جذوة لا تكف عن الاحتراق ، وبالرغم من أن هذه الجذوة تعزز القيمة البدوية الموروثة ، وتـفضل التحليق مع "البنيات الفوقية" التي هي محض "بنيات لفظية" تغمض عينيها عن الحقيقة الداخلية ، فلا تكـشف عنها ولا تعـريها . أقول ، بالرغم من كل هذا الحماس الذي ينطوي على الكذب والإيهام ، إلا أن المتـنبي يبدو ، عبر جـذوته ، شاعرا تراجيديا . وكل انتصاره للشكل لا يخفي روحه اللائبة . لاشك أن صوت المتنبي الكاسح كان ردة قاسية في وجه "المذهب البغدادي" الوليد ، الذي عبّد طريقا ضيقة في وسط المسار العام . ولكنه كان ، بصورة من الصور ، معززا له . فالمتـنبي كان سيد كل مساوىء "المذهب الشامي" : مخيلة تعنى بالتغريب والإدهاش ، قوة لفظية مصوتة ذات أسر خاص ، "أنا" متورمة ، ونزعة بدوية متـفردة ، ضيقة الأفق ، مأخوذة ، في تطلعها ، بالجاه والسلطان والقوة ، مداحة هجاءة كأسوأ ما يكون المدح الكاذب والهجاء الكاذب . وهو ، إلى جانب ذلك ، وفي داخله ، يملك طرفا مهما من محاسن "المذهب البغدادي" : تحرقات روح لائبة ، معنية بتأمل هذه التحرقات ، وقادرة على إحالتها إلى شعر . وهذا الشعر يذهب أبعد من محسناته وقواه الجمالية . ولكن المتنبي ينتصر ، في جمعه هذين النقيضين ، إلى الأول منهما . إلى شاعر "الأغراض" و "القوى اللفظية" الذي يترك خبرته الروحية نهبا للطبائع الرديئة فيه . وليس غريبا ، في ثـقافتنا العربية ، أن يلتـفت كاتب ، لا شأن له بكتابة الشعر ولا بنقده ، إلى ظاهرة المتنبي فيكشف عن عورتها بصورة حرة صريحة طليقة من أسر "العرف" الطاغي المهيمن على الذائقة العربية والخيال المبدع العربي منذ الجاهلية حتى اليوم . أقول ، ليس غريبا ، لأنني انتـفعت بكاتبين ، فيما سبق من هذا الحديث ، كشفَا عن حقائق لم يجرؤ عليها لا الشعراء ولا النقاد ولا دارسو الأدب ، هما كاتب التاريخ جواد علي مع الشعر اللفظي ، وكاتب الاجتماع علي الوردي مع أبي حيان وكتاب "صناعة الأدب" . هذا الكاتب الثالث الذي التـفت إلى أبي الطيب المتنبي التفاتة الغاضب المشمئز المستنكر هو عبدالله القصيمي ، في فصلين من كتابه "العرب ظاهرة صوتية" ، بعنوان "المتنبي يروي معارك سيناء والجولان" و "مؤلف الكتاب من يؤلفه" . وهو عنوان أراد به السخرية كما هو واضح . ينصب المقال ، بكل ما فيه من إسهاب وتكرار وفضفضة ، على حقيقة أقرب إلى البديهة ، تقول : إن الكثير من شعر المتنبي يعتمد على ادعاء كاذب ، وعلى مبالغات في إطراء الذات لا يطمع بها إلا أحمق ، وعلى مواقف متعارضة دوافعها غير كريمة ، وعلى طموحات لا فاصل بينها وبين الدناءة ، تمنح الشاعر حق تشويه الجميل وتجميل المشوه ، دون أن يكون لهذا المسعى أي مساس بالحقيقة . وإن كل هذه العورات ، التي نتحرج منها ، نحن المثـقفين العرب ، وننكرها حين تـقبل علينا كأفعال أو كمفاهيم مجردة ، تبدو داخل أبيات المتـنبي مصدر نشوة واهتزاز مشاعر وطرب ظاهر . لماذا ؟ هل لأن العربي في داخلنا يتمتع بذات الادعاء الكاذب ، والمبالغات في إطراء الذات ... الخ التي يفصح عنها شعر المتنبي ؟ عبدالله القصيمي يرى هذا الرأي . وهو يغفل أن هذا العربي ، أو المثقف العربي ، قد لا يطرب لهذه الدناءات كأفعال ومفاهيم مجردة . بل يطرب لها حين تجيء إليه في "صناعة شعرية" . إنه مسحور بالكلمة ، حتى لو كانت هذه الكلمة كاذبة واهمة ومنحطة . عبدالله القصيمي لم يخطىء أو يبالغ في تشخيص ظاهرة المتنبي ، وفي تشخيص ظاهرة الإعجاب والتأثر به . ولكنه لم يعط لمفهوم الشعر لدى العربي دورا في هذا التهيام بالأباطيل والقباحات . لو استطعت ركب الناس كلهمو إلى سعيد بن عبدالله بعرانا *
خيرُ أعضائنا الرؤوسُ ولكن فضـلتها بقـصدكَ الأقدام هابكَ الليل والنهار فلو تـنها هـما لم تَجُـز بك الأيـام * فخذا ماء رجله وانضحا في المدنِ تأمن بــوائــقَ الـزلـزالِ
فـبـقـيات طـيـنه لاقـت المـاءَ فصارتِ عذوبةُ في الزلالِ * والمريع أن موجة "الحـداثة" التي تـزعم أنها قطفت ثمرتها من حضارة إنسانية عالية العـقلانية . وأن جزءها الأكثر تطلعا إلى الأمام ، أعني به "ما بعد الحداثة" العربية ، وجدت في داخـلها نزوعا حارا باتجاه صوت المتـنبي ، لتمثله والالتحام به . ولم تـنبىء عن أي نزوع مماثـل ، أو حتى أخفض حرارة ، باتجاه شاعر كأبي العلاء وأبي نواس . لقد كرس أدونيس الشاعر سنواته المتأخرة ، ومازال في هوى هذا التكريس للعيش داخل المتـنبي ، واستخلاص ما يمكن استخلاصه شعريا من تجربة التوحد به . ولقد أصدر حتى الآن جزئين ضخمين من الشعر ، تحت عنوان "كتاب الكتاب" متجاوزا الإشكالية التي طرحها رجل عابر على الشعر كعبدالله القصيمي . إذ كيف يصح أن يصبح أحدنا ، نحن شعراء الوعي الجديد في استعادة الموروث وفي بناء قاعدة صحية للإنسان وللحياة ، مهووسا بشاعر لم يستغرق هذا الجانب الصحي من حياته ومن شعره إلا نسبة ضئيلة . في حين غرقت النسبة الأعظم منه في اللغة الكاذبة والاهتمامات الرديئة . إن قوة تأثير المتـنبي لا تضاهى في اندفاعتها باتجاه قصيدة البداوة ، وقصيدة الطغيان اللفظي ، وقصيدة العنجهية القومية . ولقد أضعفت ، بصورة تـتجاوز دور أبي تمام ، الموجة الشعرية التي وفرت شيئا من ملامحها في "المذهب البغدادي" . إن اعتزاز أصحاب المشاعر القومية المفتونة برائحة البدوي في أبي الطيب ، لا تحب أن تحدق في جوانب الضعة فيه ، وفي مدى استعداده لامتهان تلك المشاعر . في كتاب عبدالله القصيمي استطراد بهذا الشأن : "إن العربي مشهور بالتعصب والتمجد بقومه وبالمباهاة بهم ... إنه يفعل ذلك ولو تظاهراً وادعاءً ... ولكن المتـنبي خرج على هذا الخلق العربي أو على هذه العنجهية العربية ... لقد كانت عنجهيات المتـنبي ذاتية شخصية لا قومية ولا وطنية . كان غروره بفرد هو ذاته لا بشعب ، كان يزعم أنه هو مجد قومه دون أن يكونوا مجدا له . لقد تراكض إلى كل الأبواب غير العربية بل الهازمة المذلة المغتصبة الغازية لقومه العرب ، لا ليركع عليها وأمامها منشدا مدائحه الذليلة فقط ، بل ولكي يهزأ بقومه ويحقرهم مؤملا أن يهبه ذلك المزيد من عطايا ورضا وإعجاب تلك الأبواب . ذهب إلى كافور مفارقاً سيف الدولة أمير حلب العربي فقال :
عند الهمام أبي المسك الذي غرقت في جوده مضر الحمراء واليمن
وقال في كافور أيضا محقرا لقومه العرب :
وأي قـبيل يستـحـقـك قـدره معـد بن عدنان فداك ويعربُ * ولو لم تكن في مصر ما سرت نحوها بقـلب المشوق المستهام المتيّمِ ولا نبحت خيلي كلاب قبائل كأن بها في الليل حملات ديلمِ
وكافور هذا هو الذي قال فيه :
من أية الطرق يأتي مثلك الكرم أين المحاجمُ يا كافور والجلم * لا تشتري العبد إلا والعصا معه إن العـبيد لأنجاس منـاكـيد
وحينما ذهب إلى ابن العميد مستجديا تعاظمت وقاحته في تعييره لقومه ... إنه شاعر عربي ذاهب إلى باب وزير غير عربي : تركتْ* دخان الرمث في أوطاننا طلـبا لقـوم يوقدون العـنـبرا من مبـلغ الأعـراب أني بعدها جـالست رسطاليس والاسكندرا ومللت نحر عشارها فأضافني من ينحر البدر النضار لمن قرى وحينما أنشد المتنبي ابن العميد قصيدته التي فيها هذا الهجاء البذيء في هوانه وفي إهانته لقومه استصغر ، أي ابن العميد ، كرامة المتنبي وتجاسر على التهوين من شعره وهاجم القصيدة بقسوة المسيطر المستصغر . فلم يقاوم حتى بتلجلج صوت وقاحته . لقد غابت وذابت كل كبريائه الشرسة التي قد يجدها بعض الناس في أشعاره الصاهلة . نعم ، كانت كبرياء المتنبي كبرياء لغوية لا نفسية أو أخلاقية أو عقلية أو سلوكية . والتراجع عن الكبرياء اللغوية إلى خضوع حتى لغوي ليس صعبا . والكبرياء اللغوية هي كل كبرياء أغلب الناس وأكثرهم هواناً . لقد أنشد قصيدة أخرى يعتذر فيها اعتذارا حوّله إلى تحقير وتصغير لقومه : إنني أصـيد البـزاة ولكن أجـلَّ النجـوم لا اصـطاده ما تعودت أن أرى كأبي الفضل وهذا الذي أتاه اعـتياده إن في الموج للغـريق لعـذراً واضحاً أن يفوته تعـداده
يريد أن يقول إنه كان يمدح العرب وينشدهم أشعاره فكانوا يعجبون ... لأنهم كانوا صغارا في مواهبهم الفنية والنقدية والجمالية والحضارية . أما أنت ، وأنت غير عربي ، أو لأنك غير عربي فلا لوم علي إذا غرقت في بحارك وعجزت عن اصطياد إعجابك ، كما لا لوم على أعظم الصقور إذا عجزت عن صيد النجوم أو على الغريق إذا لم يستطع أن يعد أمواج المحيط الذي غرق فيه . وقدم قائد غير عربي إلى الكوفة ليقاتل ثوارا عربا ، فقال المتنبي يمدح هذا القائد غير العربي ، مسفهاً العرب وساخرا منهم ومن رعيهم للإبل والأغنام ومن تأميلهم ومحاولتهم في أن تكون لهم دولة عربية : ولو كـنت أدري أنها سبب له لزاد سروري بالزيادة في القـتل فلو عدمت أرض العراقين فتنة دعتك إليها كاشف الضر والمحلِ
أرادت كلاب أن تـفوز بدولة لمن تركت رعي الشويهات والإبل
إن كشف القصيمي لا يغادر البدائه أو يبتعد عنها . فهو يعرض لكبرياء المتنبي فيجده لفظيا لغويا . ويعرض لبداوة المتنبي فيجدها في الرؤية والتفكير والطموح ، وينشد قصيدته : "من الجآذر في زي الأعاريب ..." ، فيجده "يستقبح كل أعمال الحضارة والتمدين ، يرفض الاغتسال ووجود الحمام وأن يكون الجسم نظيفا وصقيلا وطريا بضا منعما ، بل يريد أن توضع عليه وتعيش فيه كل أدران البداوة وعبوسها وقحطها وجفافها ... إنه لا يدري أنه لا جمال بلا حياة جميلة ونظيفة وصحيحة وسعيدة ومشحونة بكل أسباب التجميل والتطرية والصقل والتهذيب والصحة ..." . ثم يعرض على تفضيله السيف على القلم ، والقتال على العلم ، وعلى مواقف عديدة أخرى لا يختلف فيها اثنان (32) . ولكن إشارته إلى الطبيعة "اللغوية" واللفظية لكل تلك المشاعر والمواقف أمر جوهري . وهذه الطبيعة "اللغوية" هي التي وحّدت بين المتنبي وقارئه ، على هذه الدرجة من الإعجاب والوله . وهي التي قربت بين المتنبي وأدونيس ، في نسج مشروعه الكبير . وشكلت الخيط السري الذي يربط بينهما عبر أكثر من ألف عام . وهي الطبيعة التي جعلت لـ "المذهب الشامي" كل هذا الثقل الذي تحول من ثقل تاريخي إلى ثقل وجودي . هذه الطبيعة "اللغوية" اللفظية صارت هاجس حياة كاملة ، تعززها أعراف ومواقف وأفكار تمتد جذورها إلى بداوة المتنبي وما قبله : ترى الجمال دون التفات إلى معنى الحياة الجميلة . وترى انتصار السيف على القلم ، دون تأمل لمعنى أن تكون الرقاب المقطوعة أكثر سحرا من قصة قصيرة لـ "تـشيخوف" أو قصيدة "عللاني فإن طيب الأماني فـنيت ..." ، أو سوناتا لـ "بيـتهوفن" . وترى الجمال في "صناعة الشعر" ، بغض النظر عن بشاعة أو تـفاهة التجربة التي وراءه . إن الحديث عن "جمال" النص الشعري يقود دائما ، لدى النقاد العرب ، إلى علاقة الشعر بالموقف الأخلاقي . متـناسين أن "التجربة الروحية" التي تُـفترض أن تكون وراء كل نص شعري لكي تحقق جماله ، لا علاقة لها ، بالضرورة ، بالموقف الأخلاقي . إن تجربة الكثير من قصائد المتـنبي كاذبة ، ولا علاقة لها بالقيم الأخلاقية . فنحن لا نتهمها ، لحظة التقييم ، بانحطاط أخلاقها فقط ، بل بكذبها وتصنعها . والرداءة الأخلاقية التي تحدث عنها القصيمي ليست مواقف ورؤى أخلاقـية ، لتـثير ، مهما كان الاختلاف حولها ، دفقا من المشاعر الخلاقة قادرة على أن تتشكل في قوى جمالية . إنني أدهش من الهوس بالتعميم الذي يأخذ بتلابيب دارسي الأدب . إن مجرد الحديث المتـشكك بقيمة نصوص شعرية لهذا الشاعر الكبير أو ذاك يفجر جملة من التساؤلات (التي تـتضمن إجابات جاهزة !) : وهل الأخلاق معيار لتقييم النص الشعري ؟ مفترضين خطأً ، أن الكذب والافتعال والادعاء والغش في التعامل مع الكلمات والمخيلة والأفكار ، هي عناصر في الموضوع الأخلاقي . إن أيسر وأوضح السبل في تحقيق تربية نقدية وذوقية ممكنة هو في انتخاب شاعرين على درجة عالية من التـناقض ، في هذا الباب ، (أبو نواس وأبو تمام – أبو العلاء والمتنبي ، على سبيل المثال) ومحاولة تأمل الفوارق بينهما ، في مدى انتمائهما لأنفسهما ، وللتجربة الاستثنائية لديهما ، كشعراء ، ومدى قدرة هذه التجربة (التي تسعى إلى تعميق وتطوير الكائن الإنساني) على اتخاذ "شكل" جميل ومؤثر .
أما أبو العلاء المعري ، فرغم انشغاله بالصرامة الشكلية والحذق اللفظي ، إلا أن الأمر لم يلهه عن الاندفاع الملهم إلى أعماقه هو ، ينبش فيها عن ظلال "الحقيقة" المفقودة . ولعله أعظم شاعر عربي انتصر على "العرف الشعري" اللفظي العام ، وذهب بعيدا في تشريف الشعر بمهمته الجليلة المستـلبة ، مهمة التأمل في معنى العواطف والأفكار ، والانشغال بالدلالات الغامضة الملتـبسة التي طالما تعامل معها الشعر كألفاظ مجردة ، ومصوتة : مثـل الإنسان ، الموت ، الحياة ، الحب ، الكون ، الله ... الخ . إنه أحد الأصوات الخطيرة التي فتحت لشعرنا العربي القديم نافذة يطل منها على الشعر الإنساني العالمي ، في الصين والهند ، وعلى الشعر الإنساني في الحضارات الحديثة أيضا . في كتاب "تعريف القدماء بأبي العلاء" (1944) الذي أشرف على إخراجه "طه حسين" يلتـفت إلى هذه الحقيقة في "تـقديمه" قائلا : "ومضت القرون تـتبعها القرون ، وذكر أبي العلاء ورأي الناس فيه تقليد تتوارثه كتب التاريخ ولا يكاد يحفل به أحد . حتى إذا كانت النهضة الأدبية الحديثة في الشرق استيقظت الآثار العلائية أو ما بقي منها كما استيقظت آثار غيره من الشعراء والكتاب والعلماء ، واستيقظت في شيء من التردد وظهرت للناس في شيء من الاستحياء لا تقبل عليهم إلا ريثما تعرض عنهم ، ولا يحفلون بها إلا ريثما ينصرفون عنها ، حتى إذا اشتد الاتصال بين الشرق المستيقظ والغرب الحديث ، اشتد إقبال المثـقفين على أبي العلاء شيئا ما لأنهم وجدوا في الآداب الغربية ألوانا من التفكير وضروبا من الشعور وفنونا من التصوير ، وأحبوا أن يلتمسوا شيئا يشبهها في الأدب العربي فوجدوا كثيرا مما كانوا يلتمسون عند أبي العلاء . رأوا في الآداب الغربية شعرا يتعمق الفلسفة ويعالج مسائلها الكبرى ، فلما التمسوا ذلك في الأدب العربي – وجدوا منه أطرافا عند المتـنبي ، ووجدوا إشارات إليه عند أبي تمام ، ولكنهم وجدوا عند أبي العلاء ما أرضاهم . واستطاعوا في أول هذا القرن أن يقرنوا اسم أبي العلاء إلى أسماء المتـشائمين من فلاسفة الغرب وشعرائه . ثم وجدوا في الأدب الغربي خيالا جريئا بعيد المدى ملحاً في التصعيد والعروج إلى أرقى ما يستطيع الإنسان أن يعرج . قرأوا دانتي وقرأوا ملتن ، والتمسوا شيئا من هذا الخيال الذي يمضي ما شاء الله أن يمضي طولا وعرضا وعمقا فلم يجدوا ذلك إلا عند أبي العلاء ..." (33) . هذا رأي مفكر عرف مصاب اللاعقلانية التي تقود الشعر العربي والكائن العربي إلى اللفظية وهوس العواطف الغريزية سريعة التلاشي . وجد في أبي العلاء ما ألفه لدى شعراء الغرب وافتـقده في الشعر العربي ، فانتصر له وانجذب إليه . ولكنه خيب ظن معظم قرائه العرب في عدم انتصاره للمتـنبي في كتابه المعروف ، وفي عدم انجذابه إليه . إن الذائقة الشعرية والوعي النقدي الشعري العربيين لا يستسيغان شعرا تدفعه التجربة الروحية المتأملة إلى التفلسف . ولذلك شاعت في كل الكتابات الدراسية والنقدية حول أبي العلاء صيغة "الشعر الفلسفي" . وكأن أبا العلاء خرج بتأملاته من حقل الشعر إلى حقل الفلسفة . وكأن الشعر لم يكن في لغات أخرى ، وفي مراحلها الكلاسيكية والحديثة ، حقلا أصيلا للتأمل الفلسفي . حتى ليكاد يكون مصدرا ملهما واستـثـنائيا لفكر الفلاسفة المجرد . ولكن الأدب كـ "صناعة" صاغ الذائقة والوعي العربيين بهذا الاتجاه الجمالي . فصار الشعر حقلا ترعى به قطعان الجمال الفسيفسائي المصنوع بمهارة . أما قطعان الأفكار ، أو المشاعر التي تتسامى بفعل التأمل إلى أفكار ، فحقلها الفلسفة . ولذلك أُبعد أبو العلاء في هذا الاتجاه . أو على الأقل مُنح فضيلة إبداع ضرب من الكتابة الشعرية جديد هو "الشعر الفلسفي" . ولكن هذه التسمية تـنطوي على معنى غير المعنى الظاهر الذي يراد بها . فهي تقول ، في العمق ، إن الشعر لدى أبي العلاء ينتمي إلى الفلسفة . لا أن الفلسفة لديه تنتمي إلى الشعر ، وإلا لكانت محاولة أبي العلاء هي الصيغة المثلى لدفع الشعر الجمالي إلى مهمة أكثر أصالة وأقرب إلى خبرة الشاعر الفردية الداخلية . وهذه اللمسة لم أجدها صريحة إلا عند طه حسين ، خاصة في الشاهد الذي أوردته سابقا في هذا الحديث . النقد العربي لم يطلق هذه التسمية على شعراء غير عرب من أمثال عمر الخيام وسعدي شيرازي وجلال الدين الرومي وغيرهم . وشعر هؤلاء جميعا يزدحم بالتأملات الفلسفية ، على أنه مشوب لدى الأخيرين بهواجس ونشوات المتصوفة . وكأن احتكار الشعر للصنعة الجمالية ، أو للبعد عن تطلعات الخبرة الروحية ، قد خص به العرب دون غيرهم . في حين ينعم الشعر الإنساني ، في الشرق القديم وفي الغرب الحديث بهذه الخبرة الداخلية . حاول أبو العلاء معـجزة عصية على المحاولة . حاول أن ينـتـشل الشعر من براثن صيغ المخـيلة الجمالية . أن يعيد خـبرة الروح وقـواها المـتأملة إلى محور الشعـر . أن يزحزح ، قدر الإمكان ، الهيمنة الصخرية "للأغراض" الكبرى ، وأن يخفف من القطيعة في علاقة الشاعر مع داخله ، ومع عزلته . ولكن أبا العلاء ، شأن كل الشعراء الذين ربطوا مصيرهم برغـبة التغيـير ، يعرف أنه لن يستطيع مواصلة مشروعه دون حيلة تـنطوي على قدر من المحاباة والمسايرة . فقد التزم في الظاهر ، لكي يرضي السياق السائد ، بعدد من خصائص المذهب الشامي : المحسنات البديعية ، الاستعراض اللفظي ، المباهاة بصرامة الشكل . ثم تحرر ، وراءها ، من كل ما اطمأن له العرف الشعري العربي ، بصورة أكثر فاعلية في التأثير ، وعمقا . لقد فعل مع الشعر ذات "التـقية" التي فعلها مع الدين . حـيث وضع ظاهـرا يرضي الذوق العام ، وباطنا يرضيه هو . وإذا كانت تقـيتـه في الدين مفضوحة ، فتـقـيته في العمل الشعري أكثر خفاءً . لأن الذائقة العـربية يأسرها الشكل ، ولا تلـتـفت بيسر إلى ما وراءه . لذلك تبدو أوراق أبي العلاء لـبُـناة وأبناء "ما بعد الحـداثة" صفراء في عزلة الظل بالقياس إلى أوراق المتـنبي المتـلألئة الحية أبدا . كان أبو العلاء مزحوما بالعواطف الملتبسة الطموحة إلى التسامي إلى مستوى أفكار ، وبالرغائب التي يعركها بعصمة المعتـزل ليحيلها إلى تأملات . ولقد كشف عن كل ذلك ، لا في "سقط الزند" و "اللزوميات" وحدهما ، بل في كتبه النثـرية التي بلغت لغتها غاية في الوحشية ، وكأنه يصطنع منها ستارا معتما يتـخفى وراءه . إن ازدواجية كهذه ، في مراضاة "المذهب الشامي" الذي صار ينتسب إليه بعرف النقاد القدامى والمحدثين ، وفي الانتساب للخبرة الداخلية في عزلتها ، وهي عماد "المذهب البغدادي" في عرفه الداخلي هو ، تبدو ازدواجية يمليها منطق الحال . ما يحدث مع أبي العلاء يحدث مع نموذج عربي آخر لعله أروع نموذج في النثر ، يصور هذا "المذهب البغدادي" خير تصوير ، في تمثـل الانسحاب إلى المعاني الثرة داخل تجربة المبدع الاستثـنائية ، وإلى الالتحام بالخبرة الروحية واحتقار الميل اللفظي . إنه أبو حيان التوحيدي . في عام 1952 أصدر أستاذ علم الاجتماع الدكتور علي الوردي كتابا بعنوان "أسطورة الأدب الرفيع" . جمع فيه سلسلة مقالات كتبها في مناقشة الدكتور عبدالرزاق محيي الدين ، أستاذ الأدب العربي في دار المعلمين العالية ، حول هذا الانحراف الذي يأخذ بمسار الشعر والأدب العربيين على امتداد حياته الطويلة حتى اليوم . الانحراف باتجاه البيان الشكلي وباتجاه الزخرف اللفظي وفصل النص الخيالي عن التجربة الروحية . ولعل الدكتور الوردي ، في الخمسينات ، كان متـفائلا في اعتـقاده بأن تطور الحياة الحديثة والعلوم الحديثة كفيل بتقويم هذا الانحراف في المستقبل القريب . وتفاؤله لم يكن في مكانه تماما ، لأنه لم يقدّر أن هذه العلة التي تـتلبس الجذور ، على هذا الامتداد التاريخي العميق ، ليست يسيرة على دواء الحداثة وعلاجها . أو أن المستقبل القريب لن يكون أسوأ بكثير من حاضره الذي عرفه في الخمسينات . فلقد توفي في منتصف التسعينات ورأى بعينيه أن ترهات البلاغة في زمن التخلف كانت أهون على القلب من خدعة الحداثة في زمن الانهيار . فالشاعر العربي الحديث لم يعد "يمدح" سلطانا أو "يهجو" مداناً أو "يفخر" بالنفس والعـشيرة ، بصورة صريحة يكذب فيها على الملأ ، معولا على موروث وعرف شعريـين ضاربي السيادة . كما لم يعد يتـوسل بلاغة تـقليدية وسحر بيان لغوي يعتمد مرجعا مقدسا ، قرآنا كان أو قاموسا . بل هو ، بفعل احتيال أشد خطرا ، وفر لكل هذا الميل الدفين أكثر من قناع حداثي خادع يستر بألوانه ، التي تبدو باهرة ، كل ذلك "المدح" و "الهجاء" و "الفخر" . وكل ذلك الميل "الشكلي" و "اللفظي" الذي لا يعنى بـ "المعرفة" و "الحقيقة" ، وليدتي خبرة الكائن الإنساني الروحية . فقد وفّر "موقفا" مذهبيا ، على قدر لا إنساني من القناعة واليقين ، وجعله منطلقاً وهدفاً ، وعبره تـتنفس حاجة "المدح" فيه . كما وفّر ، بحكم الضرورة ، أعداءً لهذا الموقف المذهبي وأصبح هو بفضله حكماً بالمقاييس الأخلاقية التي يفرضها السوق أو المرحلة . وعبره نفّس عن حاجة "الهجاء" الدفينة . أما "الفخر" فقد أخذ أكثر الأقنعة ابتذالا ومرضية . فما من شعر ، في لغات هذا العالم الحديث ، غذى الشاعر بسموم "الذات المتضخمة" و "النجومية" و "النبوية" كالشعر العربي . أما الأسر "الشكلي" و "اللفظي" فقد وجد في الحداثة التي جاءت من لغات وثقافات محكومة بحياة حديثة مركبا سهلا ، وعطية من السماء . لأنها تيسر له التحليق في أفق مخيلة مفرغة من الدلالة ، مجردة ، ومعلقة داخل بالونة لغوية ، فيها ما شاء اللعب اللغوي والخيال المجانيان ، من تراكم صور ، صادقة ومدهشة وجريئة . ولا "فكرة" أو "حقيقة" أو "عاطفة" وراء هذا الصدم والإدهاش والجرأة ! وفي أحد فصول كتابه توقف الدكتور علي الوردي عند أبي حيان التوحيدي تحت عنوان "غربة أديب" ، ليلقي الضوء على محنة كاتب لم "ينزلق وينافق" ولم يخضع للميل الشكلي اللفظي السائد ، وهما آفتان عربيتان بني عليهما السياق الشعري والنثري : "في الوقت الذي كان فيه الصاحب بن عباد يسيطر على الجو الأدبي برقاعاته ويحف به المتزلفون يزينون له ما يصنع . ظهر أديب عبقري لا يعرف كيف يتـزلف أو ينافق – هو أبو حيان التوحيدي . وفي الوقت الذي كان فيه الهمذاني ينتـقد أسلوب الجاحظ لسهولته ووضوحه ، كان أبو حيان يقـتدي بالجاحظ في أسلوبه مؤثرا المعنى على اللفظ ، وقد أدى إلى أن يعيش مغمورا ويذهب إلى ربه منسيا" (34) . والحق أن أبا حيان لم يكتف بوضوح الجاحظ وإيثار المعنى على اللفظ ، ونحن نعرف كيف وقف الجاحظ من المعاني التي يتعثر بها الكاتب على "قارعة الطريق" ، بل هو امتاز بشيء آخر غير مألوف بين الناثرين ، هو محاولته ردم الهوة بين النص وتجربة الكاتب الروحية . عكس نثر أبي حيان عواطفه وأفكاره ومزاجه ، بصورة فريدة أثارت حماسة أول مستشرق يلتفت إلى التوحيدي التفاتة خاصة هو "آدم متز" : "لم يكتب في النثر العربي بعد أبي حيان ما هو أبسط وأقوى وأشد تعبيرا عن مزاج صاحبه مما كتب أبو حيان ولكن الجمهور كان يميل إلى طريقة الآخرين ، فيجري عليها ويعظم صاحبها ولقد كان أبو حيان غريبا بين أهل عصره ، وكان يعاني وحشة من يرتفع عن أهل زمانه ويتقدم عليهم" . هذه الوحشة التي صادفت طبعا مرهف الحساسية وروحا لائبة ، أصبحت ينبوع أبي حيان الإبداعي في كل ما كتب . إن مناجاته الشاكية لا تـشبه "أدب المناجاة والشكوى" الذي عرفه الأدب العربي . فهذا الأخير "فـن" و "غرض" من أغراض النثـر مستـقل في ذاته ولا يكشف عن عاطفة أو حقيقة ، تماما شأن أغراض الشعر . كان أبو حيان خارجا على العرف الأدبي على "طريقة الآخرين في البديع" . ومن هنا تـفجرت مشاعر الغربة لديه . هذه المشاعر التي دفعته إلى إحراق كتبه في أواخر أيامه ، مقتديا بحفنة نادرة من "الغرباء" الذين اضطروا إلى العزلة والانفراد في تيار ثـقافة سائد ، يسحق بدولابه الواثق المعتمد والمكابر كل تطلع روحي وكل عناق بين الفن والخبرة : "وبعد ، فلي في إحراق هذه الكتب أسوةً بأئمة يُقـتدى بهم ، ويؤخذ بهديهم ، ويعشى إلى نارهم ، منهم : أبو عمر بن العلاء ، وكان من كبار العلماء مع زهد ظاهر وورع معروف ، دفن كتبه في بطن الأرض فلم يوجد لها أثر . وهذا داود الطائي وكان من خيار عباد الله زهدا وفقها وعبادة ، ويقال له تاج الأمة ، طرح كتبه في البحر وقال يناجيها : نعم الدليل كنتِ ، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول ، وبلاء وخمول . وهذا يوسف بن أسباط : حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحها فيه وسد بابه ، فلما عوتب على ذلك قال : دلّنا العلم في الأول ثم كاد يضلّنا في الثاني ، فهجرناه لوجه من وصلناه ، وكرهناه من أجل ما أردناه . وهذا أبو سليمان الداراني : جمع كتبه في تـنور وسجرها بالنار ثم قال : والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك ، وهذا سفيان الثوري مزق ألف جزء وطيّرها في الريح وقال : ليت يدي قطعت من ها هنا ، بل من ها هنا ولم أكتب حرفا ! وهذا شيخـنا أبو سعيد السيرافي سيد العلماء قـال لولده محمد : قـد تركت لك هذه الكتب بها خير الأجل ، فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعـمة للنار ، وماذا أقـول وسامعي يصدق أن زمانا أحوجَ مثلي إلى ما بلغـك ، لزمان تدمع له العـين حزنا وأسى ، ويتـقطع عليه القلب غـيظا وجوى ، وضنى وشجى ..." (35) . يرى الدكتور الوردي أن مشكلة أبي حيان تكمن في "أنه عاش في عصر بلغ فيه التناقض بين أقوال الناس وأفعالهم مبلغا لا يدانيه فيه عصر آخر" (36) . وفات الوردي أن هذه المفارقة لم تقـتصر على عصر أبي حيان . بل هي غطت ، بصور متفاوتة ، كل عصور الثقافة العربية . ولعل عصرنا العربي الحديث هذا – الذي وضع الوردي كتابه "أسطورة الأدب الرفيع" وكل كتبه في نقده – لا يختلف ، من حيث حدة المفارقة ، في التناقض بين القول والفعل ، عن عصر أبي حيان . وكما يستخلص في نهاية فصله "غربة أديب" أن الأديب "رائد فكرة قـبل أن يكون صانع ألفاظ . وأظن أن أبا حيان هو خير من يمثـل هذا النوع من الأدب في العصور القديمة" . تخونه البداهة من أن يستـنتج أن أبا حيان "قد أخفق في حياته ، لأنه عاش قبل أوانه . ولو أنه ظهر في زماننا هذا لكان سيد الأدباء" (37) . وكأن الوردي يفترض أن زماننا العربي الحديث قد تجرد بصورة نهائية من الصنعة اللفظية والمفارقة الحادة بين الفعل والقول ، ومن ممارسة الحكم بالإعدام للذات التي تختبر وتـتأمل وتـتـفلسف . في فصل تالٍ تحت عنوان "الجاحظ وأبو حيان" ، يعاود الدكتور الوردي استعمال مشرطه للكشف عن الداء العضال في الثقافة الأدبية العربية عن طريق المقارنة بين أبي حيان والجاحظ ، أبرز مثـقفي وكتّاب النثر جملة وأكثرهم شهرة . كان الجاحظ معتزليا يعتمد علم الكلام في مجادلاته ، وهو علم يعتمد على أقيسة المنطق الأرسطوطاليسي . وقدرة هذا المنطق على إحقاق الباطل وإبطال الحق تجد ما يقابلها ويعززها في الأعراف الشعرية العربية . ولذلك لم يكن الجاحظ يتيما بل منسجما مع هذا المنحى الذي ثبت موقعه لقرون تالية بعده ، وتستر تحت أقنعة جديدة في عصرنا الحديث . "وقد دفعت هذه الطريقة المنطقية بالجاحظ إلى أن يكتب في أي موضوع يشاء ذماً ومدحا . فهو يكتب في الشيء ونقيضه . ويستطيع أن يأتي لكل وجهة بما يؤيدها من الأدلة المنطقية . فإذا أراد أن يمدح الشيء بحث عن مقدمة تصلح له فيبني عليها النتيجة التي يريدها . وهو لا يبالي بعد ذلك ، إذا أراد أن يذم الشيء ، أن يبحث عن مقدمة مناقضة" (38) . ولذلك نجد الجاحظ يكتب عن الشيء ونقيضه ، دون أدنى شعور بالتناقض . فهو يكتب رسالة في مدح النبيذ وأخرى في ذمه ، ورسالة في مدح الكتّاب وأخرى في ذمهم ، ورسالة في مدح الورّاق وأخرى في ذمهم . ولا بأس من إيراد الحكاية الطريفة التي تورط بها الجاحظ بحكم التزامه منطق علم الكلام . كان قد اجتمع مع ابن ماسويه الطبيب على مائدة أحد الوزراء فقدمت الأطعمة وكان فيها سمك ومضيرة . والمضيرة طعام يطبخ باللبن الحامض . وكان المعروف عن أطباء ذلك الزمان أن أكل المضيرة مع السمك مضر بالبدن . فنصح ابن ماسويه الجاحظ بأن لا يجمع بينهما في الأكل . فلم يسمع الجاحظ نصيحته وأخذ يجادله جدلا منطقيا إذ قال : "أيها الشيخ ، لا يخلو أن يكون السمك من طبع اللبن أو مضادا له ، فإن كان أحدهما ضد الآخر فهو داء له ، وإن كانا من طبع واحد فلنحسب أنا قد أكلنا من أحدهما حتى اكتفينا" ، فقال له ابن ماسويه : ""والله ما لي خبرة بالكلام ، ولكن كل يا أبا عثمان ، وانظر ما يكون في غد" . فأكل الجاحظ عنادا ، فأصيب بالفالج في ليلته ، وقال : "هذه والله نتيجة القياس المحال" . بالمقابل كان أبو حيان يبغض علم الكلام ، وكان علماء الكلام أبغض الناس عليه : "جذّ الله عروقهم ، واستأصل شأفتهم ، وأراح العباد والبلاد منهم . فقد عظمت البلوى بهم ، وعظمت آفتهم على صغار الناس وكبارهم ، ودب داؤهم وعسر دواؤهم" . وهذه الكراهية لهذا المنطق لا تكشف عن ضيق أبي حيان بالإيهام المفتعل للنفس بالتزام العقل فحسب ، بل ضيقه باللعب الذهني البارد الذي لا ينطق عن لوعات روحية حارة . والغريب أن الدكتور عبدالرزاق محيي الدين في كتابه عن أبي حيان يكشف عن هذه الخصيصة لدى أبي حيان مقارنة بالجاحظ ، ولكن كشفه يرد التقاطة ذكية عابرة لا يجدها تستحق أن تكون قاعدة نقدية كفيلة بقلب موازين دراسته بكاملها : "وأبرز فرق نلاحظه بينهما أن الجاحظ كان يتناول الأفكار بروح يبدو أنها خالية من حرارة الإيمان ، وأنه يأتي الفن بقصد العبث والتلاعب ، وإظهار المقدرة البيانية ، وهي روح تقصيه عن مكان الكاتب ذي الرسالة السامية ، والذي يقول ويعني ما يقول ، ثم يؤمن بما يقول . لذلك لا يحس قارىء الجاحظ إلا بالنشوة تخامره ، وباللذة تساوره ، وبالإعجاب بقدرة هذا الفنان إذا أخرج من الحق باطلا ، ومن الباطل حقا ، لكنه مع ذلك يعجز أن يحمل القارىء على الإيمان بما يرى والتصديق بما يقول . على حين يبدو أبو حيان كاتبا يؤمن بها ، ويصدق فيها ، ويحس بحرارته ، فلا يفتأ قارئه يحس بالحرارة قد انتقلت إليه ومشت في أوصاله" . ويضيف الدكتور محيي الدين في فقرة أخرى : "ولو كان فن أبي حيان لغويا لبادر شراح اللغة إلى شرحه ، ولو كان صنيعه بديعا لتناهض البديعيون إلى درسه ، ولكنه أدب رفيع يأتي حظ اللفظ منه في الدرجة الثانية ، وحظ الفكر في الدرجة الأولى ، على توافر في الحظين ، هذا ودارسو الأدب منا لا يزالون كما كانوا بل دون من كانوا رادة ألفاظ ، وبغاة صناعة ، وعمال حاسة . وعسير على من يكون هذا مرتاده ، وتلك بغيته ، وهذه أداته ، أن يدرك شوارد الفكر ، أو يعاق بضوامر المعاني قبل أن يدركه الجهد ويبلغ منه العياء" ... "وما غلبة المدرسة اللفظية في نفسه إلا إيذان بموت البلاغة الحقة ، لأن انصراف الكتّاب إلى هذه الناحية وإغراقهم بما سيعود ببلاغتهم إلى عمل آلي صرف ، ومهمة لفظية فارغة ، وكذلك كان الأمر ، فإن الكتّاب منذ عهد ابن العميد وابن عباد انصرفوا إلى هذه المحسنات والمزوقات ، وزهدوا في الآراء وعاد الحال بالبلاغة إلى ما تعرف من أسلوب القاضي الفاضل ومن درج أدراجه ، حتى عهد النهضة الأخيرة ... إن هزيمة أبي حيان ومن على شاكلته كانت هزيمة لبلاغة الأفكار والمعاني السامية ، ولو قُدّر لبلاغة أبي حيان أن تنتصر لخطت البلاغة العربية خطوات فسيحة في عالم الرأي والفكر ، ولشهدنا في الكتّاب من أبنائها قادة الأدب القيم والمذاهب المتفننة في دنيا الناشئين" (39) . ويعلق الدكتور الوردي على هذا بقوله : "يخيل لي أن هذا الاختلاف بين منهج الجاحظ ومنهج أبي حيان كان من الأسباب في اختلاف المصير الذي كُتب لهما في تاريخ الأدب العربي . مات الجاحـظ فتـرك وراءه دوياً هـائلا وسمعة أدبية كبرى . وظل الأدباء يحـرصون على قراءة الجاحظ والإعجاب به حتى يومنا هذا . أما أبو حيان فـقد كان على العـكس من ذلك ، إذ هو لم يكـد يمـت حتى نسيه الناس ، وظل منسيا طيلة العصور التالية ، لا يأبه به المؤرخون ونقاد الأدب إلا نادرا" (40) . إن بلاغة الأفكار والمعاني ، ومن ثم بلاغة المشاعر والوجدان ، كيانٌ روحيٌّ مغتربٌ داخل سياق بلاغة الألفاظ والعضلية الصوتية . وبحكم انتماء أبي حيان إلى ذلك الكيان الروحي المغترب فقد كتب واحدا من أجرأ كتبه شذوذا عن السياق وأبلغها في حرقته الروحية وخروقاته . "الرسالة البغدادية" (41) تـتوفر على خصال نادرة في نصوص الموروث النثري الأدبية . فهي تكشف في السطح عن هدف لتـعرية الجانب الاجتماعي والثـقافي المبتذل في القرن الرابع الهجري ، بصورة جـدّ كاريكاتورية لا تعكس الظواهر إلا بمرآة مقعرة ، مشوهة ، مغالية في التـشويه . ولكنها ، فيما وراء السطح ، تكشف عن لـوبات روحية لفنان مرتبك الحواس ، غير سوي ، يائس وغاضب . والتوحيدي لم يكتبها على هدى نثره الذي ألفناه في رسائله القصيرة . وفي "البصائر والذخائـر" ، حيث المناجاة الوجدانية الملتهبة التي يطلع بها علينا بين حين وآخر ، وفي "الإمتاع والمؤانسة" و "الشارات الإلهية" ، بل هو يتوسل – وقد لبس قناعا خفيّاً – نثرا عامي الطابع ، لا في مستوى الصياغة الفنية واللغوية فحسب ، بل في مستوى التلقائية والعفوية ، ومستوى المخيلة . فأبو حيان ، فيها ، يتدفق كما يتـدفق متحدث بغدادي ، عاش على شيء من التهريج ، في مقهى شعبي ، مازجا الجملة البليغة بالجملة السوقية ، ومقرناً المفردة العربية بالفارسية ، التي كانت شائعة آنذاك على لسان العامة . ومخيلته في التعبير تخدم غرض التعبير ذاته الذي لا ينتمي ، في عموم الرسالة ، إلى هموم الصياغة الفنية في ذاتها ، والتي ابتلي بها النـثر العربي . بل هو ينتمي عن عمد إلى المخيلة الشعبية ، والسوقية إن شئت ، التي تدفع بها العواطف حيث تشاء . "الرسالة البغدادية" بهذا المعنى ، دفقة عاطفية ، شقشقة هدرت على لسان فنان أراد ، لرغبة سوداء في أعماقه ، أن يتلبس شخصية مهرج سوقي لا يعرف مقياسا لذوق وخلق ، ولكن يتخذ من افتقاد المقياس ذريعة لفضح الأعراف البائسة التي تحكمت بالحياة الفكرية والأدبية . إنها محاولة لتمزيق القناع الذي أطبق على وجه الأديب العربي ، بفعل موروث ضارب الشكلية والصنعة . إن أبا حيان لم يعد "أديبا" بالمعنى الذي أفرغ فيه من دم الحياة ، بل أعاد صيغة الإنسان الذي وجد في الكتابة الأدبية وسيطا للخلق والتـعبير . كان بطل "الرسالة البغدادية" هو ذاته "التوحيدي" ، ولكن بقناع الأزدي : "كان هذا الرجل ... شيخا بلحية بيضاء تلمع في حمرة وجه يكاد يقطر منه الخمر الصرف ، وله عينان كأنه ينظر بهما من زجاج أخضر ، تـبصان كأنهما تدوران على زئبق" . ولكنه سرعان ما يجعله وعاءً لسخطه واستهانـته . وهو لا يترك فرصة إلا ويقارب شخصه من شخص بطل الرسالة ، وكأنه بذلك يخشى من مغادرة الحياة ، بفعل النـثر العربي الفني ، إلى الصنعة . إن الحقيقة تحترق في داخله . وهو معنيّ بإيصال شظاياها . حتى لو كانت هذه الحقيقة على هذه الدرجة من القبح والشر . وهل يخرج الأدب العظيم من الخير وحده ! . كان التوحيدي مفرط الحساسية حد المرض ، تماما شأن ابن الرومي ممن سبقوه ، وشأن السياب ممن جاءوا بعده . كان يحب الحياة الدنيا ويطمع بكل فيضها . ولم يكن فرط الحساسية هذا وسيطا صالحا بينه وبين عطايا الحياة . فعطايا الحياة لا تُمنح بفعل الرغبة وحدها ، بل تحتاج إلى كثير من الاحتيال والمناورة . وإلى شيء من الوجاهة والمظاهر الملفقة . ولم يكن التوحيدي ، شأن ابن الرومي والسياب ، لحسن الحظ ، يملك واحدة من تلك . لم يكن قادرا على القناعة بالحقائق المطلقة ، شأن الأرسطوطاليسي الجاحظ ، ولم تأسره الحقيقة النـسبية التي جاء بها سفسطائيو علم الكلام ، ولم يكن الجاحظ بعيدا عنهم . ولم يكن حاذقـا في توفير حد أدنى من خبرة المصالح ، في سوق الثـقافة . ولم يكن يحسن توفير المظهر اللائق ولا الوجه الأنيس . كان يفتـقد كل ذلك . فانقطعت عنه صلات الحياة مما جعله أكثر احتراسا من اليقين ، وأكثر تخـبطا وأشد ضـيقا وأقـصر نفسا وأثـقـل شكوى ، لا يفزع إلى أحد إلا إلى نفسه ، ونفسه سوداء . ولا يستـشير أحدا إلا قلبه ، وقلبه عـقدة أفاعٍ . * لم تفلت هذه المعالجة الشكلية واللفظية للشعر من يد الفلاسفة العرب أنفسهم . فقد عنوا ، شأن أفلاطون وأرسطو ، بالنظرية الشعرية لا بالنص الشعري . وهذا أمر مألوف مع الفلسفة . فهي تعنى بالتصورات النظرية والمفاهيم الذهنية . ولذلك درس الشعر كفرع من علم المنطق وذي مهمة معرفية . ولقد ساهمت هذه المعالجة الفلسفية ، إلى جانب الدين والنقد والشعراء أنفسهم ، في تعميق الهوة بين خبرة الشاعر الداخلية وبين نصه الشعري . لا بصورة مباشرة ، بل بما تـتيح مساهمتهم هذه في المناخ الفكري العام من إضافة ذات معنى . إن كتابة الفلاسفة ليست إلا حصيلة استـقراء تأملي للنصوص الشعرية . ولكنها ، أيضا ، مساهمة في تعزيز ما يرونه حقيقة . خاصة وأن المناخ الشعري في المراحل المزدهرة أصبح عميق التداخل مع المناخات الفكرية عامة ، ومنها الفلسفية بالضرورة . ولك أن تـتابع هذا الخيط منذ مرحلة بشار بن برد ، مرورا بأبي نواس وأبي تماما وابن الرومي والمتـنبي وأبي العلاء . وبالرغم من أن الفلاسفة أعطوا هذا الدور المعرفي للشعر ، وأنهم فرقوا في التوصل إلى الحقائق ، بين الفلسفة وقياسها البرهاني وبين الشعر ووسيلة التخيـيل (بمعنى التأثير) ، إلا أنهم قصروا قيمة هذا التخيـيل وفاعليته على الشكل . "فالشكل في الشعر – المقدمات المخيلة – هو الذي يحدث التخييل – التأثير – وبعبارة أخرى ، أن الأثر النفسي للشعر يتأتى من اللذة الناجمة عن الشكل وليس المضمون ، لأن الشعر لا يروم بيان صحة اعتقاد رأي ما ، على عكس البرهان الذي يلتـفت فيه إلى مطابقة الحقيقة التي يقدمها للواقع ، ومن ثم يشترط صدقها ..." (42) . لقد وضع الشعر على مفترق طرق بين الشكل الذي يبعث على اللذة ، وبين "صحة اعتقاد رأي ما" . بين اللذاذة الحسية وفاعلية العقل . وفي النتيجة بين الشكل الجمالي وبين الفلسفة . وكأن لا وجود لطريق ثالثة في مفترق الطرق هذا . طريق خص بها الشعر والفنون جميعا . طريق المشاعر والانفعالات التي تـتشكل في رؤى وصور وتصورات . إن إهمال هذه الطريق الثالثة لم يحصل عفوا عند الفلاسفة ، بل هو تحصيل حاصل لإهمالها لدى الشعراء ونقاد الشعر أنفسهم . وبالرغم من أن علاقة التأثر بين الفلاسفة العرب وأرسطو ظلت أشد متانة منها بينهم وبين الشعراء العرب ، إلا أن هذه العلاقة ، في موضوع الشعر بصورة خاصة ، ظلت غائمة وملتبسة . فالعرب لم يقرأوا الشعر اليوناني ، ولم يفهموا فنّيْ التراجيديا والكوميديا على حقيقتهما . وحين ترجموا المصطلحين إلى "الطراغوذيا" و "القوموذيا" لم يترجموا معهما موقف أرسطو النقدي كاملا . بل نقلوا شيئا يسيرا منه وأكثره يدل على اختلاط المفهومات (43) . الفلسفة تعطي للشعر دورا معرفيا . ولأنها خُصت بالبرهان ، فقد خصت الشعر ، بالمقابل ، بالشكل . وأبعدت الشاعر عن مهمة التأمل في مشاعره ومحاولة اكتشاف داخله ، أو الاكتشاف عبر داخله . ولكنها بسبب ذلك الدور المعرفي ، حاولت ، على يد الفارابي مثلا ، أن تحقق معادلة بين اللذة التي يوفرها الشكل وبين الفائدة المعرفية التي يوفرها المضمون . ولكن هذه الفائدة المضمونية لا تصب في النهاية إلا في مهمة البرهان الفلسفي . ولذلك يبدو الشعر ، إذا ما أراد أن ينطوي على تجربة تأملية ، وعاءً للمحتوى القيمي والأخلاقي الذي تسعى إليه الفلسفة ، أي شعرا تعليميا . وإن مجرد التفكير بمهمتين منفصلتين للنص الشعري ، يتكفل إحداها الشكل والأخرى المضمون ، إنما يشكل عاملا جديدا من عوامل تعميق الهوة بين خبرة الشاعر الداخلية ونصه . والغريب أن الفلاسفة هؤلاء (الفارابي – ابن سينا – ابن رشد) يهاجمون الشعر العربي بسبب اعتماده أغراضا كاذبة . فهو لدى الأول شعر ينصرف لـ "النهم والكدية" . والثاني يرى الشعر "انفعاليا وذاتيا لأن العرب كانت تعني بمحاكاة الذوات ، ولم تكن تقول الشعر للحث على فعل أو الردع عن آخر ، إنما كانت تقول الشعر لأحد أمرين : لاستمالة المتلقي إلى أمر من الأمور ، فيدفع إلى انفعال ما أو فعل ما ، وإما لإثارة الدهشة أو اللذة فقط" (44) . ويرون ، أيضا ، بأن الصورة الشعرية – خاصة في التـشبيه والاستعارة – تقوم بتـقريب الأفكار المجردة عن طريق ما يماثـلها أو يشابهها حسيا . ولكن كل هذه الالتـفاتات تصب في مسعى واحد هو هدف الفلسفة وحدها ، أو العقل وحده . في حين تفرد الشعر لمهمة تخصه وحده . وهذه المهمة شكلية في جملتها * . الهوامش
(1) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام . د.جواد علي . ج9 ، ص 158 (2) المصدر السابق ، ص 97 (3) المصدر السابق ، ص 95 (4) تاريخ النقد الأدبي عند العرب . د.احسان عباس . المؤسسة العربية . ص 27-28 (5) المصدر السابق ، ص 87 (6) المصدر السابق ، ص 34 (7) حديث الأربعاء . د.طه حسين . ج 2 ، ص 210 (8) تاريخ الأدب العربي . د.عمر فروخ . ج 1 ، ص 179 (9) المفصل . ج 9 ، ص 87 (10) العمدة . القيرواني . ج 1 ، ص 80-81 (11) العمدة . ج 1 ، ص 83 (12) المفصل . ج 9 ، ص 145 (13) الحيوان . الجاحظ . ج 2 ، ص 93 (14) المفصل . ج 9 ، ص 146 (15) المفصل . ج 9 ، ص 77 (16) أسطورة الأدب الرفيع . د.علي الوردي . ص 93 ، 95 (17) الحيوان . الجاحظ . ج 1 ، ص 75 (18) تاريخ النقد . ص 57 (19) تاريخ النقد . ص 96 (20) عيار الشعر – ابن طباطبا (1965 – القاهرة) ص 5 (21) عيار الشعر . ص 9 (22) تاريخ النقد . ص 118 (23) مفهوم الشعر . د.جابر عصفور (مطبوعات فرح) ص 81 (24) المصدر السابق ، ص 36 (25) تاريخ الأدب العربي . ج 2 ، ص 42-43 (26) المصدر السابق . ج 1 ، ص 127-128 (27) السابق ، ج 2 ، ص 141 (28) السابق ، ج 2 ، ص 43 (29) تدوروف في مقاله "Poetry and Morality" ، مجلة "Salmagundi" عدد (111) سنة 1996 (30) Writer at work . 1979 . Penguin . p. 250 (31) جون بريس The Fire and the Fountain. Oxford 1955. p. 37 (32) عبدالله القصيمي . العرب ظاهرة صوتية . باريس 1977 ، ص 271-280 (33) تعريف القدماء بأبي العلاء . الدار القومية ، القاهرة 1965 ، ص : ح (34) علي الوردي : أسطورة الأدب الرفيع 1944 ، ص 222 (35) رسائل أبي حيان التوحيدي . د. ابراهيم الكيلاني . ص 408-411 (36) أسطورة الأدب . ص 224 (37) السابق ، ص 229 (38) السابق ، ص 231-232 (39) السابق ، ص 236-237 (40) السابق ، ص 235-236 (41) "الرسالة البغدادية" نسخة حققها ووضع لها مقدمة وشروحا غنية الأستاذ عبود الشالجي . مطبعة دار الكتب ، بيروت 1980 (42) "نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين" د.الفت محمد كمال عبدالعزيز ، ص 133 (43) "تاريخ النقد" ، ص 213 (44) "نظرية الشعر" ، ص 154
* وقعتُ ، وأنا بسبيل نشر الكتاب ، على واحدة من هذه الإضاءات العـقلانية في تأمل مأزق الشعر العربي ، تُضاف إلى إضاءات طه حسين وجواد علي وعلي الوردي وعبدالله القصيمي . وهي تـصدر ، أيضا ، من خارج دائرة الشعراء ونقاد الشعر . كتبها الأستاذ سلامة موسى عام 1927 ، رسالة للشاعر أحمد زكي أبو شادي على أثـر صدور ديوانه "الشفق الباكي" . وهذا هو الجزء الأكبر من الرسالة : شعر التسامي أخي الأستاذ أحمد زكي أبو شادي أرسلت إليّ "الشفق الباكي" ودعوتـني إلى أن أخبرك عن رأيي فيه . وأنت تعرف أنني لست شاعرا ، لم أنظم بيتا قط ، ولكنك تستـند بالطبع إلى أني أديبٌ وأن الشعر أصيلٌ في نفس الأديب ، وأن الشاعر بل الإيقاع نفسه يتضح في النثر الجيد والأسلوب الرصين ، وكلنا مع ذلك ينتـقد الصورة ولو لم يكن رساما . وقد نشأت على أن أتذوق القليل من الشعر العربي بل أني لا أكتـمك كراهتي لملوك الشعر العربي كالمتـنبي وأضرابه ، وحبي لصعاليكه كأبي نواس والبها زهير ، وقد ملت إلى الشعر الأوروبي وخاصة الانجليزي الذي لا أظن أن في العالم شعرا يساويه ولا أقول يسمو عليه . وما ذلك إلا لأن لفظة "الشاعر" عند الأوروبيين تعني العامل المبتكر ، وهي عند العرب تعني المغنّي لأن "الشعر" مشتق من "شير" العبرانية بمعنى الغناء . ومن هنا صار من تقاليد الأدب عند العرب أن يقصر الشاعر مجهوده على الزخرفة اللفظية ، بينما هو يخترع ويبتكر عند الأوروبيين . وأي شيء أدلّ على الابتكار من الدرامة التي عرفها الأوروبي وجهلها العربي ؟! ولست أستقل شأن الإيقاع والغناء والزخرفة اللفظية في الشعر ، فإني أكاد لا أعرف ميزة أخرى للبها زهير ، ولكني وأنا أقرؤه أشعر أني ألهو كما أظن أن هذا كان شعوره عندما كان ينظم . ولكني عندما أقرأ شعرا أوروبيا وخاصة انجليزيا أشعر أني أعالج مع الشاعر موضوعا ساميا لا مجال فيه للهو إذ هو عين الجد . وإذا كنت ألـتذّ ما فيه من إيقاع فإنما تعود هذه اللذة إلى زيادة الشعور بالجد ، وما في موضوع القصيدة من خطر . وقد يتوهم الإنسان من وقار المتنبي وقوته على الأداء أنه جادّ لا يلهو ، ولكن الواقع أنه أكثر الشعراء جدا في اللهو . وأي لهوٍ أكبر من أن يضيع الشاعر وقته وعبقريته في مدح الأمراء وهجوهم ؟! وقد ورثـنا نحن هذا التـراث عن شعراء العرب ، فنشأ شعراؤنا في نهضتـنا الحديثة على احتذائهم في الأسلوب والغاية ، وفي الإكبار من شأن الصنعة اللفظية . بل نحن مازلنا في النثر نتحرى اللفظة الرشيقة والعبارة المنمقة ولو كان فيها التضحية بالمعنى ، أو ضياع وقت القارىء فيما لا يفيده . ومع أن كثيرين من كتابنا يدعون كراهية السجع ، فإنك تراهم من وقت لآخر وفي طيات عباراتهم يخالسون القارىء ويدسون له سجعة قد انطوت على مترادفات يعرفون هم أنه لا فائدة منها للقارىء وأنه لا يدفعهم إليها سوى التقليد ! وأكاد أقول إن المحسنات اللفظية والإغراق في الصنعة والنزوع إلى تأليف النغم ، كل هذه خصال تكاد تكون أصيلة في اللغة العربية ، وهي من البواعث المثبطة في التأليف عندنا ، لأن المؤلف الذي يعرف موضوعه وقد حذقه درسا وبحثا يخشى الاستهداف للنقد ، لأنه يظن أن عجزه عن الصيغة اللفظية سيعاب عليه ، وإن هذه الصنعة ستحتاج منه إلى مجهود كبير ، فهو لذلك يحجم عن التأليف ! ومما يدلك على الإكبار من شأن الصنعة عندنا أن في البلاد الآن حزبين كبيرين يتـنازعان السلطة ، أحدهما "الوفد" والمحرر الظاهر في صحيفـته هو العقاد ، والثاني هو حزب "الأحرار الدستوريين" والمحرر الظاهر في صحـيفته الآن هو المازني ، وكلاهما كاتب صنعة بضاعـته تـنميق الألفاظ وتـزويق العبارات ، أما الدرس والثـقافة فلا قيمة لهما عندهما . فلا تـشك بعد ذلك في أن جمهور الأمة يحب الصـنعة من الناثـر ، أما حبه لها من الشاعر فواضحٌ في جميع شعرائنا الظاهرين . وعلى هذا سأتـنبأ لك منذ الآن بأن الناقدين سيعيبون عليك قلة عنايتك بالصنعة ، وبأن ألفاظك عامية غير شعرية ! أما مقاصدك العليا وعناياتك السامية فسيضربون عنها صفحا ، وذلك لأننا على الرغم من صيحات التجديد التي تـتكرر أمامنا ما نزال نعيش من حيث الأدب في القرون الوسطى . ومعظمنا إلى حدٍ ما أزهريّ يقول بالنقل دون العقل ، وكما يكره "الاجتهاد" في الدين كذلك يكرهه في الأدب ، وكما أن البدعة ضلالة في الدين كذلك هي ضلالة في الأدب ! ...
|
|