الشاعر فوزي كريم في عودته الى قبو الأسرار على دجلة
كاظم محمد
في أزمنة الخوف والقهر وتسلّط الفكرة الواحدة، تختّل علاقة الفرد بمحيطه الخارجي -بشر وأمكنة ومشاهد- بفعل انحسار الحياة، وغياب القدرة على الاختيار أو الأمل. ويختبئ الضمير والوجدان والعقل ، في أقاصي الروح المعذّبة. فكيف يكون الأمر، بالنسبة لشاعر؟ كان اولئك البشر، وتلك الأمكنة والمشاهد جزءاً من مكوّنات روحه، وخياله، ونقاء صلته الاولى بالحياة، وهو يرى كل ذلك، يشوّه ويُقتلع من جذوره، بأيدٍ تخرج من ظلمة التاريخ، مهووسة بالثأر والانتقام، لتحرق كل ما هو أخضر على الأرض. مخلوقات، بمخالب الحقد الأسود، لاحقت الطرائد الهاربة في دروبها الموحشة ولم تقبل، بعد ذلك، بأقل من شعب خائف، مذعور، وجمهور مباد ببارود حروبها وباحات قتلها السرّية. انه احتراف القتل مهنة، وهواية البحث عن الطرائد، في أمكنة لاتسلم من الهدم والتخريب، كيلا تكون ملاذا آمنا لفرائس القتلة، وأن تكون مثلما كانت يوما، في مشهد العراء. وهي، أيضا، المدن المستباحة، تحت خطوهم الثقيل، ضحية ثأرهم لعراء الصحراء وجفافها، ثأر الشوك من الوردة، والسيف من القلم. قد تتوارى الأشياء، والكثير من الكائنات، وراء ستارة الرعب والموت، ولكنها تبقى حيّة في أعماق الذاكرة الوفيّة، ذاكرة الشاعر -الانسان، الذي لايمكن أن يكون بدونها، تنتظر زمنا آخر وحياة مختلفة، للظهور بقواها الكامنة، قواها اللازمنية، لتفرض وجودها على الأزمنة القادمة، بفعل تشكلاتها الانسانية، وبكونها علّة للكثير مما حدث بعدها. الى هناك، قصد الشاعر فوزي كريم، بذاكرة ملأى بصور الأمكنة والناس، ومشاهد الطفولة والأصدقاء، ضمن مشهد أوسع من حياتنا العراقية، التي حولها برابرة البعث الى جحيم. ولم يرد، لعودته هذه، أن تكون بحثا في التاريخ الشخصي. فتاريخ الفرد، برأيه، كثيرا ما يكون إيهاميا، وربما خادعا، لذا تصبح السيرة الشعرية، هي الأقرب الى ما يريده من كتابة، تعتمد الذاكرة، والوفاء لها. وان مثل هذه الكتابة تضمن له (فاعلية شخصية مستقلة، وعلى قدر من الحرية). فالتاريخ له شأن آخر في الحكم على الماضي. لهذا، لم يبدأ بحدث تأريخي: إنقلاب..إغتيال سياسي..تأسيس حزب.. إستلام سلطة...الخ. بل كان الدخول من بوابة الخمّارة (كاردينيا)، وبساتين محلته الصغيرة (العباسية). لقد شكّلتا (لحنين متداخلين في اغنية رقيقة باكية). اغنية أُقتلع مغنيها -الشاعر من جذوره، يوم اقتلعت سلطة البعث الاستبدادية لحنيها الجميلين من ضفتي النهر، بفعل قوة غاصبة، مدمرة، لا يعنيها (حكم التاريخ)، ولا أحكام الزمان. لكنهما، ظلا حيّين في ذاكرة الأوفياء لجذورهم، ولحن اغنياتهم، مثلما هما الآن في ذاكرة فوزي كريم، يطاردان رؤاه وأحلامه، ووفاءً، يجد لهما مكانا ولغة في حاضره. فيوم وجد الشاعر نفسه (مقذوفا بين ثنيات البرد الأزرق)، ينوء تحت ثقل الضيف الغريب، وأحاسيس المتشرّد، في أمكنة لا يعرفها، كفّ عن التدخل فيما سيأتي بلا رغبة في (التهام المستقبل)، يومذاك، أوقظ، أو أيقظته، تلك الاغنية الباكية في ذاكرته، بلحنيها المشرّدين. أخذته الى مرآتها القديمة. وبدأت سيرة الشاعر، قصيدة حياته، من نزهة صباه، في (العباسية)، بين أشجارها وأدغالها الممسرحة في خيال طفولته، بغرابة الصور وسحر الكلمات. ومن الامسيات المضيئة بضحك الصحبة، ودفء أسرارهم، على موائد (كاردينيا)، بزرقة سقفها السماوية، الحائلة اللون، وصوت ام كلثوم الذي لا يفارقها. إنها (قبو أرواحنا السري). في تلك السنوات البعيدة، لم يتحقق للشاعر (اللقاء بين يد الله ويد آدم)، ولم تخفق الملائكة في فضائه، الذي أراده رحبا (احبه يملأ وجه الأرض / ويفتح الزهو الذي يريد). كما أن قسوة التجارب، ومرارة ألأيام، قد تركت ندوبها في روحه المتطلعة الى افق الحرية (إنها موقدة في الدرب أيامي / ولي صوت تكسّر). وظلت ثنائية شجرة التوت والدفلى، في بيته الطيني، على دجلة، تلاحقه في منفاه البعيد، مغرقة أحاسيسه، بصداها ألقوي. حيث تتحول شجرة الدفلى الى الغجرية (كارمن)، وتصير العاشقة الناعمة (ميكائيلا) شجرة توت تظلل (اوبرا كارمن) التي أضاف الشاعر لموسيقاها، نكهة من حياته. وتظل الأفكار والصور، تتناسل، وتتباعد، في ذاكرة الشاعر، وتتخذ مصائر الأمكنة والناس، ألوانها، وأشكالها، من نحت الحياة، وتذكار الروح المعذّبة بثقل الأسرار. وكان نهر دجلة، وحده، (حبل الوصل السحري)، بين الشاعر وأساطيره، التي تكوّنت هناك. فهو (نهر الستينيين)، الذي حملت ضفافه أسرارهم، مثلما احتضنت مياهه الكتب التي ألقتها جيوش هولاكو، أو يدا السيد اللبناني، الذي كان، وقتذاك، قيّما على شؤون (حسينية الكرادة). ولم ينس الشاعر وجوه أبناء محلته الصغيرة، وكان لهم حضورا تشكيليا مؤثرا ضاجّا بألوان الحياة، وفضاء البساتين، الذي يحتضن بيوتهم، وأحلامهم. تلك الأحلام، التي كانت لها عذوبة النهر، وتدفق مياهه الصافية، حولها برابرة البعث الى كوابيس سوداء، ودروب للمنافي البعيدة. مثلما هو حال نهرهم، الذي تحول الى جدول أدغال، وقمامة. ويتذكّر الشاعر، علاقاته مع أبناء جيله، وقتذاك، منهم : شريف الربيعي، الشاعر (الوجودي) الذي كان يعيش حياته بروح ساخرة وعدمية في (حوض الضحك المجاني). وأخرجه تيار الحياة العامة، فيما بعد، من (اهاب المثقف المحترف)، بتوازنات صعبة، أثرت على عمق تجربته الشعرية. عبد الأمير الحصيري (بوهيمي بغداد) الشاعر الذي كان يتردد على مجالس الأصدقاء، في خمّارات بغداد، بقامته الفارعة، وشعره الأسود المنسدل على كتفيه، وبدلته السوداء المتهدّلة. كان (مظهرا رمزيا) لجيل توهم النور في 1958، فكان له الرماد لونا أبديا، طغى على كل حياته القادمة. فاضل العزاوي، الشاعر الذي ظل يحث الناس في المدن العراقية (المسكينة)، على طريقة غينسبرغ في هجاء امريكا، أو على طريقته في مواجهة نيويورك (اخرجوا الى الشوارع وانسفوا العالم القديم بالقنابل). أحمد خلف، كاتب قصة (لم تكن قدرته بحجم رغبته)، إذ ليس هنالك قدرات مسموح لها بالتحقق داخل سلطة البعث (التي تأخذ المواهب من ياقاتها وتلقيها في هاوية المخاوف والمساومة). سامي مهدي، شاعر وهو (أعرف الكثيرين بذر قطرات البول على جرح الضحية) فهو مثل الباقين من شعراء البعث الذين وقفوا (ضد أنفسهم، ضد الأنسان في دواخلهم). ولا تتشكّل القصيدة لديه الا من الأسى الذي يسببه الشعور بالذنب. جمعة اللامي.. (بعثي مستجد وشديد الحماس في استنفار ذكائه النظري....وانسان على درجة عالية من الالتباس وضحية حاجة مرضيّة الى ايمان عقائدي شبه ديني... ظل يتطلع، وهو في دور الضحية الدائم، الى مقعد الجلاد، دون أن يحقق مبتغاه). موفق خضر، على الرغم من كونه بعثيا، فان (مجرد ارتباطه بسلطة، كان يربك روح الطفل فيه ويملأه بالمخاوف). منذر الجبوري، يتذكره الشاعر ككاتب تقارير حزبية لا أكثر. نجمان ياسين، يبعث تقريرا عن الشاعر، لأنه أشار، في أحد اللقاءات، الى(أدبية) كتابات ميشيل عفلق. عزيز السيد جاسم، (شبه ريفي معبأ بقوى نظرية هي حصيلة جملة من العقائد المغلقة مستلة من الكتب وتتناسل فيما بينها ولا تمس تربة الحياة ولا هواءها. لقد وجد في الحزب الذي استلم السلطة طريقا حديديا لتفريغ حمولة حصاده من تجربته كمفكر شيوعي....لجأ في عزلته ألمتأخرة الى الأفكار التصوفية، بفعل الذنب). أما اتحاد الادباء، يومذاك، فقد أصبح (قبوا من أقبية الجحيم). ولكن فوزي كريم لاينسى من ظل حريصا على أن يكون نموذجا أمثل للشاعر والانسان، ومثله في ذلك الشاعر حسين مردان، الذي كان شاعر العزلة المطلقة والتشرد المطلق، والانسان التوّاق أبدا للحب وصفاء الروح. لقد كان حسين مردان (متماديا في تطرفه باتجاه الفرادة، وكانت المرحلة متمادية باتجاه ثقافة القطيع..ثقافة العقيدة الملتبسة العمياء). والقاص محمد خضير الذي (عرّى الخبرة الغامضة الملتبسة بأيسر السبل دون مرارة في فمه....وقد انطلق من الانسان وانتصر له دون أن يشاور أو يستشير أحداً) كما يأخذ فوزي على الشاعر العربي فصله الشعر عن الموقف الأخلاقي، ليسّوغ ضعف مسؤوليته إزاء ما يحدث حوله، غارقا بأنانيته ونرجسيته، وقامعا للشاعر في داخله بفعل (الدناءة والجبن). ثم ينتقل الشاعر الى بذور الخلافات السياسية والمناطقية بعد 1958، حيث كانت هناك مقهى لكل حزب واتجاه في المنطقة الواحدة، وتباعد واضح في الأفكار، لعب المثقفون دورا سلبيا في تكوينه، وتصنيع عقائده العمياء. ولكن العهد العارفي الذي غفل عن الكثير من الامور، أتاح للمثقفين فرصة العودة الى إهتماماتهم الثقافية، وإختصاصاتهم المختلفة، ناسين، لبعض الوقت، خلافاتهم العقائدية. وفي تلك الفترة، ظهر جيل الستينيات، فكانت القصة والشعر والنقد والرسم والمسرح. ولكن الأمر لم يدم طويلا، إذ سرعان ما عاد الكثير منهم الى الأحزاب، يغذوها بصور وأفكار التناحر، ويحفّزون السياسيين للعمل على إستلام السلطة. وهذا ما حدث عام 1968 يوم استلم حزب البعث السلطة، وانفرد بها. وأقبل هؤلاء المثقفون على الحكم الجديد بالتهليل والاسهام في بناء منظمته الاعلامية الخطيرة. وفي تلك الفترة، لم يكن المشهد في بيروت أفضل حالا. ان يوتوبيا المثقفين هناك قد عززت بقوة السلاح، والأفكار والمفاهيم تخرج من الغرائز العمياء، كما أن الصحافة قد تم شراؤها من قبل أجهزة الاعلام العربية. لم تكن بيروت تعرف ما سيحدث لها من جرّاء تحول الكلمات الى أسلحة (انها الحيوانات الكاسرة، التي أفلتت، في ليل اللغة، من النظريات). ان المثقف العربي، برأي الشاعر، لايثق بالكلمة، ويعتبرها (وسيلة صنعة وزخرف). فنزار قباني (يكتب عن الحب ولا أثر للحب في قلبه). وعبد الوهاب البياتي (يكتب عن الحرية والثورة ولكنه يعمل مستشارا ثقافيا – بعد النفي – لنظام صدام حسين). وأدونيس (يؤلب الشبيبة للتحرر والتجاوز والجنون وهو يسعى الى حياة محصّنة بالضمانات). ومن (الوحل) الذي كان يغطي الحياة في العراق، آنذاك، خرجت ثلاثة أنواع من النصوص الشعرية، وهي، حسب ترتيب الشاعر، النوع الثالث وهو الذي كان يتأمل الوحل من فوق،وتتشكّل روحه (التراجيديه) هناك. والثاني يزاحمه وينقضّ عليه، ومن ذلك تتشكّل روحه (الهجائية). أما النوع الأول فهو الذي كان يمتص روح الوحل ويأخذ شكله. وهذا النوع هو الذي كتبه شعراء البعث. شعراء يشحب الانسان ويتلاشى داخل كيانهم، ووعيهم العقائدي. شعراء تحولوا الى عثرات في تلك الطريق الموحلة، طريق اللافتات والصور التي دُقت في أذهان الناس بمسامير دامية، يوم صار (السيد النائب أعلى قوة في هذا الكيان الغائب الذي يسمى العراق) ويوم حول، بحضوره الارهابي، (التركيبة المفتعلة لدولة البعث) الى مجرد ظلال واهية أمام سلطته وتحكمه بمفاصلها الرئيسة، وأمام قوة (المنظمة السرية) التي أراد لها أن تكون السلطة الوحيدة في العراق. لقد كان (التاريخ المسكين) يتعفن في لغة العقائد المشحونة بالقداسة والحقد وسوء الطوية في ظل حكم (أبناء البراري الملفوظين خارج المدن)، الذين إغتصبوا، في لحظة غفلت فيها الحياة وغفت، أرضا محرّمة عليهم. ويعود الشاعر الى سيرة المشاهد الدموية التي تخللت أحداث 14 تموز 1958، يوم جرت عملية قتل أفراد العائلة الملكية، والتمثيل بجثثهم وحرق أجزائها المبعثرة في الطرقات، (كنا جميعا نشم رائحة اللحم تدخل مسام أجسادنا منتشين، عائذين بالحيوان الرابض في أعماقنا). ولم يرض ذلك الحيوان المنفلت من قرون الظلام أن يُحبس في مؤسسات دولة تحاول (عقلنته)، وكان متحرّقا لأجواء الفوضى المتجذرّة في نفسه، ليمارس الأفعال الهمجية بإنتشاء. ولم يكن عبد الكريم قاسم (الرجل الطيب السريرة) الا أداة بيد أفكار أنضجها مثقفون جرّدوا (الحرية) و (الثورة) من صفاتهما الأرضية في مجتمع متخلف، فيه الكثير من صعوبات التوازن السياسي، والتماسك الاجتماعي، فكان لمثل تلك الأفكار المجرّدة دور سلبي لما حصل هناك وما تلاه في الحقب اللاحقة. فهل هو الضوء، الذي توهمناه فجرا، مازال ينبعث من جثث القتلى المحترقة، اليوم، في ليل بغداد ومدن الرافدين ؟ وهل هم أحفاد (طلائع الموكب الوحشي المرعب) مازالوا يصرون على السير فوق جثثنا على لحن نشيد (الله أكبر).
جريدة المدى: 18 كانون أول 2004 |
|