العودة الى گاردينيا
فاطمة المحسن
بعد صدور كتب فاضل العزاوي وسامي مهدي وعبدالقادر
الجنابي عن الشعر العراقي الستيني ، نشر فوزي كريم مجموعة مقالات يتذكر
فيها تلك السيرة التي كان هو احد فرسانها. فهو من بين الاسماء التي
وقعّت ما سمي ببيان الحداثة الشعري الصادر ببغداد العام 1969م،
بديباجته التي كتبها فاضل العزاوي وباركها صحبه وبينهم سامي مهدي وفوزي
كريم وخالد علي مصطفى. أعلن فوزي كريم ندمه عن المشاركة في هذه الموجة
التي حوت الكثير من الزيف والخداع الأدبي والسياسي، كما وصفها في أكثر
من موقع بعد مضي أقل من عقد من انتسابه اليها، وكان كتابه "ثياب
الامبراطور الذي صدر قبل سنوات قد حوى الكثير من الآراء التي تتوجه
بالنقد إلى شعراء جيله.
في كتابه الأخير "العودة إلى كاردينيا" الصادر عن دار المدى، يتذكر
المؤلف فيما يشبه السيرة الذاتية تلك الفترة في حياته، ويمضي إلى
تفصيلات في الحياة الثقافية العراقية خلال أزمنة مختلفة وبينها تلك
التي أحكم فيها البعث سيطرته، كاشفاً عن أدوار قام بها جمعة اللامي
وسامي مهدي وعزيز السيد جاسم في خدمة الأجهزة الحزبية والأمنية التي
ادارات الثقافة العراقية أو آنذاك، كما تطرق إلى دور المثقفين العرب
الذين قدموا بغداد في تثبيت قيم الارتزاق والتعامل السلبي بين المثقف
والسلطة.
يبدأ فوزي كريم سيرته من طفولته في "العباسية" وهي من أرياف بغداد التي
أضحت جزءاً من كرادة مريم في فترة قريبة، ثم يعّرج على رحلته التي
قطعها من محلته الصغيرة إلى قلب الستينات، حيث تصخب المقاهي بالاصوات
المتضاربة للحداثة، ما بين متشبث بالوجودية أو الماركسية أو مازج
الحالين ضمن تعريفات هي أقرب إلى السذاجة والوصف الشعبي للافكار.. كان
فوزي يصنف نفسه حسب تسمية أهل محلته بالوجودي، وتلك استذكارات تعيد إلى
الحاضر بعض ما افتقده من براءة، فالوجودية هي تهمة اللامنتمي إلى جهة
حزبية، وبما ان فوزي كريم لم ينتم إلى البعثيين ولا إلى الشيوعيين، فإن
الوجودية هي أقرب إليه في حق اقتسام الافكار! تغيم في الذاكرة مرحلة
الطفولة وعبثها لتحل بدلها الايام التي يمارس فيها الشاب حرية العبور
من الواقع إلى الخيال قبل ان يزحف الخوف مثل حيوان خرافي ليحطم كل شيء
في العراق.
يمضي المؤلف إلى جمع شتات ذكرياته في بيروت التي شهدت محاولته الاولى
للاقامة في مكان خارج الوطن، عشقه مثقفة ثرية، ومقارنته الحياة الفقيرة
التي يعيشها وحياتها المترفة، ثم فشل مشروعه وعودته إلى بغداد. غير ان
محطته التي استقر فيها لاحقاً، أي لندن التي يبدأ منها شريط ذكرياته،
هي التي رسمت له ملامح الستينيات الشعرية على ضوء الكثير من التجارب
الأدبية والحياتية التي تفاعل معها، في هذا المضطرب.
ولعل الذي يشرع به فوزي كريم يؤكد جانباً مهماً من وعي الكاتب بمفهوم
السيرة الذاتية، فهو يقول انه كتب ذكرياته: "على ضوء مشاعر الحاضر
ورؤاه وأفكاره، حتى لتبدو غير وفية بالضرورة للتاريخ قدر وفائها
للذاكرة. والذاكرة ليست التاريخ، ولا تتطابق معه. بل هي فاعلية شخصية
مستقلة، وعلى قدر من الحرية.."
"كاردينيا" المكان الذي يلتقي فيه الأصدقاء يتخذ صورة مستعادة من واقع
يحوي الكثير من العبث والتمرد، فزمن هذا المكان يطل على فسحة من الحرية
لم يدركها أصحابها لحين ما انتهى امرهم إلى حصار لف كل الأماكن ببغداد.
فوزي كريم يرصد التحول الاول في حياته من فتى يعيش يومه بين وقت خيالي
يرحل فيه الاصدقاء إلى عالم الكتب متلمسين تجارب تسع العالم وتلامس
الأماكن القصية، يرصد قراءته وتصوراته عن الواقع، ثم ينتهي بصدمة
السياسة التي يؤرخها بمقتل نوري السعيد، بعد اندلاع ثورة تموز وسحله مع
عبدالاله في شوارع بغداد. هذه الحوادث يستعيدها عبر فقرات مطولة ينقلها
من كتاب أحد العسكريين الذين شاركوا في الانقلاب، ويصف فيها بالتفصيل
طريقة قتل العائلة المالكة. وان كانت رائحة الجثة المحترقة لنوري
السعيد تلاحق الفتى الصغير الذي خرج إلى الشارع فرحاً، والذي وزع والده
الفقير بائع الخضار بطيخة فرحاً بالثورة، فقد تحولت تلك الثورة في
سنواته اللاحقة إلى كوابيس يحاول أن يحمي فيها نفسه من مد هذه
الاندفاعة الجارفة.
عبر شريط الذكريات يرى فوزي كريم نفسه صورة للمثقف المستقل الذي تحاصره
حراب السياسة، فلا يجد منها فكاكاً سوى بالهرب إلى الخارج. غير أن نزعة
الافتخار بامتياز استقلاله عن الاحزاب تجعل من تصوراته عن صراع الأفكار
في منحاه الأدبي وفي تمثلاته التي يعيشها المثقف، يتخذ بعداً تبسيطياً،
وان حوى الكثير من الانتباهات المهمة. فالمشكلة الاساسية في تلك الفترة
والفترة التي سبقتها ولحقتها كما نتخيل، ليست مشكلة سياسية حسب، بل هي
مشكلة مفاهيم وقيم ثقافية، فالوعي بالحرية بقي في أعراف الجمع الثقافي
الذي تمثل صيغ التجديد الغربي أو آنذاك، يفتقد إلى كفاية الايمان
بفردانية أو ذاتية المثقف، سواء كان داخل حزب معين أو مؤسسة أو خارجها
أو تنظيم، فالكثير من المستقلين كانت طروحاتهم أقرب إلى المساطر
الايديولوجية منها إلى الآراء المنفتحة، بل ان ذاتية المثقف أو
استقلاله يتوضحان ضمن اطار مشروع ثقافي تنبثق فيه ومن خلاله مفاهيم
وانماط من التفكير تصبح موقع جذب معرفي قبل أن تدرج في باب المواقف
الشخصية.
كانت مرحلة الستينيات أو السبعينيات في العراق أفقر من أن تنتج بدائلها
الفكرية الناضجة، فهي قامت على تراث شعري صخاب كان يكتسح العراق، وهو
بالضرورة ثوري ومسيس، ولم تكن الهوامش التي أتت بها الستينيات سواء على
مستوى الابداع أو الفاعلية الاجتماعية، سوى الامتداد الطبيعي لهذا
التراث.
يتحدث فوزي كريم في كتابه، عن النزعة الانقلابية في حداثة الستينيين،
التي لا يرى كبير اختلاف بينها وبين نزعة الحزبيين أو العسكر الذين كان
همهم الاستيلاء على السلطة، وهؤلاء - كما يقول المؤلف - يعمدون لتحقيق
هدفهم على توفير أكبر عدد من الاعداء النوعيين، والاتجاه نحو حرق
المراحل والاجهاز على الماضي، وادعاء التكافؤ الحداثي مع الغرب، أو
محاولة تسفيهه دائماً، والتزام النزعة الثورية العدمية. يستشهد المؤلف
بقول شعري لفاضل العزاوي اشتهر حينذاك: "اخرجوا إلى الشوارع وانسفوا
العالم القديم بالقنابل".
والحق ان العراق الثقافي بدا في الستينات وما بعدها، كمن يكرر نفسه
وبثياب جديدة، فهو يستبدل عاطفة بعاطفة، وثورة بثورة، ولكن الصراع بقي
ينحصر ضمن الاطار الحماسي للايمان بقيم ثابتة، ولهذا احكمت الدائرة
الشعرية سطوتها على الثقافة، فالمعارك حول اللغة والارجحية الأدبية
لتمثل الاخلاق، تجري تحت حجب الشعر أو القصة، ولا خطوة تفضي إلى معرفة
تتخطى خيال القول إلى فن التفكير. وإلى اليوم يجد فوزي كريم في محمد
خضير القاص الستيني قيمة تنطوي ابداعياً على تصور مختلف للانسان وموقعه
في المجتمع، وهو على صواب ان نظر إلى معارك الحداثة الستينية بما لها
من موقع في مجريات التطور الاخلاقي، فالمجتمع العراقي ذاته يبدو إلى
اليوم وكأنه يمضي خطوات إلى الورراء، ليبقى مفهوم الوعي بالعالم أسير
التقاليد المعرفية المتوارثة.
النشاط الثقافي يتحول جذرياً نحو التحديث من خلال تراكم الخبرة
التاريخية والمعرفة بمناهج التفكير الجديدة، وهي لا تتشكل عبر واسطة
خيالية مثل الشعر أو القص، بل من خلال تحول في ادراك جوهر وقوانين
الاشياء، ومغزى وجودها، فإن بقي الوعي اسير مثاليته، فهو يتحرك ضمن
الحدود الضيقة للخيال الشعري الذي بقي في العراق، عبر كل مراحل
تحولاته، بما فيها التحولات الستينية أسير تهويماته. معضلة الحداثة
الستينية لا تنحصر بالاشكال السياسي والاخلاقي، كما ورد في المذكرات
التي خطها فرسانها، إلا في حدود تورط ممثليها الاساسيين في الجانب
السياسي، أو عزوف بعضهم أو اضطراره الهرب أو المسايرة، ولكن الاساس
يكمن في سقف المعرفة ذاته الذي ما كان قادراً على تخطي ميراث التقاليد
الشعرية.
فوزي كريم في كتابه يتذكر شخصيات يضع امامها على استعجال ملاحظات سريعة
تخبرنا عن مصيرها، وهو في الغالب تراجيدي، أما الموت أو الرحيل عن
العراق أو هجر الكتابة أو الصمت والعزلة. ويقدم لنا صورة سريعة عن
محمود جنداري القاص الموصلي الذي اعتقل بجريرة عشيرته التي تمردت على
صدام، ومات بعد خروجه من السجن بفترة قصيرة. العلاقة الحميمية التي
تربط فوزي بالجنداري تضيء صورته الرقيقة، وتمرداته التي لا تتعدى
الأمنيات الطيبة.
محمود جنداري كتب عن كوابيس العراق قبل اعتقاله، وكان غموضه هو الوسيلة
الوحيدة التي حاول فيها أن يهجو لا عقلانية العنف وانفلاته.
عبدالستار ناصر وأحمد خلف من بين الذين يتعرض المؤلف إلى سيرتهما
القصصية باقتضاب، ونكتشف ان الثاني كان من هواة عروض الكمال الجسماني،
وهذه الحالة من مفارقات تلك المرحلة العجائبية، فأحمد خلف يعرض على
فوزي كريم صورته وهو في مسابقة لعروض الاجساد، ويقول له: أنظر ما الذي
أخرجني من الهوى الخفيف المضاء برعاية الجسد إلى الهوى الثقيل المعتم
برعاية الروح؟..
كانت الستينيات في العراق تصنع الغرائب، غرائب الاقوال والافعال،
فالشخصيات تتلبس فعل الكتابة، بل تتحول بين الخيال والواقع. وفي
المقاهي والأماكن التي يرتادها ممثلو تلك الفترة، تبرز شخصيات تظهر
وتختفي مثل الطيف، وبعضها مصاب بلوثة الثقافة: سكيرون وعصابيون، أو
هادئون يتصرفون كحمائم، وصاخبون اقوياء كمستزلمين وقبضايات. وحتى بين
النساء من الأديبات من كن يحملن سمة الغرابة، غرابة الشخصية والافعال.
كانت هوامش الحرية السياسية قد اطلقت اثار الواقع المحافظ الرسمي، قبل
ان تحوله فترة الهيمنة البعثية إلى حطام. ومن بين زوار الكاردينيا،
يكتب فوزي كريم عن شخصية غامضة قصد المقهى متأبطاً مجموعة قصصية تحت
عنوان "دكان التوابيت" كان اسمه كما يقول المؤلف: "جاسم الناصر: خريج
حقوق ويعمل في حقل المحاماة شديد التهذيب، شديد العناية بهندامه، وشديد
الشبه بكافكا. بالعين ذات الحدقة السوداء المنحرفة قليلا والمحاطة
ببياض مشع، والجبهة التي تبدو ضيقة، والاذن البارزة، واستقامة الرقبة
التي توحي بالتطلع، وبالغامض السري الذي يهمس بما هو شيطاني من الهيئة
عامة. انتهت علاقة هذا الشاب بالكتابة بعد صفع وجهه اليه أحمد خلف
وكأنه يصفع الشبح الكامن داخل جسم جاس
م المسكين". ينقل الينا فوزي كريم بعض تلك القصص التي يدخل فيها
الستينيون ويخرجون من مرايا الخيال، وكل نزعات الاستعراض والطموحات
التي قتلت الكثير من أهلها، كانت تحمل براءة المزاح الذي ما لبث ان
تحول من الضحك إلى بكاء مستديم.
(جريدة الرياض،
الخميس 18 صفر 1425العدد 13075 السنة 39)
|
|