من إصدارات ( المدى):
قراءة في (يوميات نهاية الكابوس) للشاعر فوزي
كريم .. متى يصل
مغني القيثارة إلى مسرحه ؟
نشرت في جريدة المدى 27/3/2005
كاظم محمد
كعادته ، في كتابات سابقة ، يصر الشاعر فوزي كريم ، على مد جسوره
الحّية ، إلى أرضه الأولى.. إلى عراقٍ ، بقي هو الآخر حيّا في ذاكرته ،
وضميره . لم يستطع ، خلال عقدين ونصف ، أن يتجاوزه إلى ( الزمان
الإنكليزي) أو ( الحياة الإنكليزية ) ، حيث يعيش، الآن، هناك ،( لقد
أودعت الزمان والحياة بين دفتي دجلة والفرات ) . أودعها في رائحة
الأسماك ، والغوايات ، والوساوس التي تحيط برؤوس أصدقائه ، كهالةٍ في
زمن الفجيعة ذاك .
وهذه المرة ، يعود إلينا بكتابٍ جديد ،استمد
عنوانه ومضامين فصوله ، من كابوسٍ مقيت ، خضّب حياتنا ، لأكثر من ثلاثة
عقود ، بالدم والإذلال . فسمّاه ( يوميات نهاية الكابوس) .. .
( يوميات تتأمل داخل المساحة الزمنية المتبقية
للدكتاتور ) . ولكن الشاعر لا يستطيع إلا أن يعود ، بقلبٍ ممرور ، إلى
المساحات الأكثر عمقا في حياتنا . حيث أهواء المثقفين اللاعقلانية،
وثقافة الإعلام البعثي ، والعربي، ورايات
العقائد العمياء ، هي المقدمات التي أنتجت ، وسببت لنا ، كعراقيين ، كل
هذا العذاب ، والألم ، والخراب ، ولوعة المنافي .
فأهواء المثقف ، وحلوله المعتمدة على الكلمة
الوافدة على الورق ، تحولت إلى يوتوبيا مثقلة بوهم التطبيق على الأرض .
وأتسع هذا الوهم في أذهان الناس ، وقاد ، فيما بعد ، إلى صعود دكتاتور،
لم يعرف التاريخ مثيلا لدمويته .
ويعود الشاعر، إلى تجربة الستينيات في العراق،
يوم هيمنت العقائد ، ومفاهيم الأحزاب ،على الثقافة ،وأذهان المثقفين .
وتحدّد موقف المثقف بدرجة انتمائه ، لتلك العقيدة ، أو ذاك الحزب.
وارتدى معظم المثقفين ( عدسة بلون واحد ) لا ترى إلا مفهوما يقينيا
مطلقا ، تحولت، في ظله ، الأفكار ، والكلمات ، والكتابات ، إلى (
سكاكين ) و( مشانق)، ودكتاتور ( من بين أصابعه ، تفجّر نهر الدماء ) .
وبأصابعه ، أيضا ، تهدمت المؤسسة ، والدولة ، والإنسان .
ولو تأمل هذا المثقف إنتاجه ، خلال العقود
الأخيرة ، وكاشف نفسه بما حصل ، لوجد خيطا من مشنقة ، أو شفرة سكين ،
أو إصبعاً على زناد . عندها سيعرف ، بأنه لم يكن بعيدا عن ارتكاب
الجريمة . هناك أجيال من مثقفي (الماكنة الرسمية) تولدت من ردود
الأفعال ، أجيال بلا ارض مستقرّة ، بلا نمو طبيعي داخل حضن موروثها ،
وليس لها حوار مع الموروث العالمي. وبسبب مناخها المتهاوي ، ظلت
أفكارها مجرّد بالونات هواء ، تتضخم خارج الحياة . وتتفجّر مفاهيم
مجرّدة عن ( الثورة)،و( التمرد) ،و ( التغيير) ، و( الجنون) . في وقتٍ
، لا يكف مفجروها عن السعي ، في أرض الواقع ، لأن يكونوا الأبناء
المدللين للسلطة . وهم لا أكثر من صانعي كتب ، لا تمتّ بصلة إلى تأسيس
ثقافة مجتمع وحياة . وظلت تلك المفاهيم تغلي في رؤوسهم- بالوناتهم ،
لينحسر، ويدمّر مفهوم القانون ، والدولة ، والتطور الطبيعي . وتحولت
نظرية القداسة للمفهوم العقائدي ، ورموز القوة النظرية ، إلى ( حيوان
كاسر) انقضّ على تجربة الإنسان العراقي ، وتاريخه . لقد نسي هؤلاء
المثقفون ، أن حرية الكاتب ، والمثقف ، لا تتحقق خارج ضوابط ، وشروط ،
وقوانين المعرفة ، وان الحرية الحقيقية ( تُزهر من كتاب القانون ) ،
وفي حضرة القانون . وهي بدون ذلك ، مجرّد قناع لفظي للفوضى ، ( تسمن
وتبتغل ) في غياب القانون .
فمنذ عقود تمتد طويلا في طيات التاريخ ، ونحن
يتامى غياب المؤسسة ، لم نتعرف على أدوارنا، كبشر لهم حقوق ، وعليهم
واجبات محددة بدستور .
نتحدث عن الحرية ، دون الإحساس بها ،نتجادل حول
مفهوم الدولة ، دون أن نتعامل مع مؤسسة دولة . والمشهد الذي تكرر
أمامنا ، ولأجيال عديدة ، هو ( انقلابي حاكم ، ومرتزقة يرتقون جثث
الدستور ) . مرتزقة يصنعون مخاضة الدماء ، ويحلقون فوقها كالغربان .
ولكن الشاعر لا ينسى ، في خضم تلك المساحة
السوداء ، من كانت حياتهم ، وكتاباتهم ، إضاءة وومضة حب إنسانية في
معترك الوهم . ومنهم الشاعر حسين مردان ، حيث وجد في شعره خشونة تعكس
معنى الحياة ، وفي روحه ثراء العاشق الإنساني الكبير. كان طائر الحرية
الجالس (على قمة أفرست ، يعلك الصبّار) . والقاص محمد خضير ، والشاعر
محمود البريكان اللذان لم ينشغلا ، في حياتهما ، وكتاباتهما بالأفكار
اليقينية ، ومنظور اللون الواحد .
ومن هناك ، ينطلق إلى المساحة الأكثر عمقا لما
هو إيجابي في نتاج الشاعر، حيث ( خشونة الحروف) ، واللفظة الصادمة
للذائقة العادية ، في قصيدة لأبي العلاء ، تأخذانا إلى عمق المعنى
والجمال الداخلي الكامن في باطنه . وتغوي الذاكرة الشاعر بالعودة إلى
الجذر ، إلى ( صلة الرحم ) بشعر الشرق . ذلك الشعر، الذي له نكهة ،
تتطلبها أرواحنا المرتبطة بتاريخ ووجدان شعوبنا . فالشعر ، بخلاف العلم
والفكر ، لا يمكنه أن يبتعد عن جذوره . وهذا ما هو مفتقد في شعرنا
العربي ، الذي اعتمد ثقافة الغرب أفقا له . فكان الاغتراب كبيرا في
كياننا الشعري . كما أن الشاعر العربي ، بقي مصرا على عدم الاعتراف
بفقر لسان شعره ، في إضاءة معاني حضارة الغرب ، كما فعل ، يوما ،
الشاعر والفيلسوف الروماني لوكريتيوس ، حين كشف فقر لسان الشعر
الروماني ، بالنسبة لمعاني الحضارة اليونانية ، فكان لقصائده معنى ،
ومستقبل في الثقافة الرومانية . إن تسامي الشاعر العربي فوق قصوره ،
وإيهام نفسه بالتفوق ، جعله بعيدا عن كل ما يُثير العقل .
ولم يكن الحال أفضل ، بالنسبة لنقادنا ، الذين
اعتمدوا النظريات النقدية الغربية، وحولوها إلى ( بالونات) ، يتعاملون
من خلالها مع النصوص التي يراد نقدها . مما عرض العلاقة بين الاثنين
إلى الارتباك . إن النظريات النقدية الحديثة ، كالبنيوية والتفكيكية ،
هي نتاج واقع فاض فيه الإنسان والحياة بهيمنة العقل ، وفاضت فيه اللغة
بقوى المعرفة والاتصال . أما نحن، فأحوج ما نكون إلى لغةٍ تطور (
قاموسنا الصامت ) منذ مئات السنين .
أما لغة حداثتنا ، فهي ثمرة الهجنة بين حياتين
متباينتين ، وغير متكافئتين . هجنة احتفينا بها ، وتبنيناها ، منذ
رأينا في الجملة المترجمة ، أفقا جديدا ، وهواء حرية . وهذا يشبه حال
من يتنفس برئةٍ غير رئته . كذا هو شاعر المنفى ، حيث تختل علاقته مع
الأشياء التي حوله ، حين يقف وحيدا مع حقيبته ، وقصيدته ، في انتظار لا
يحمل معنى العودة إلى أرضه . إن انقطاعه عن جذور تربته ، يورثه إحساسا
بالفقدان ، والمرارة . وتظل قصيدته بلا قارئٍ حاضر ، وبلا وطن . وهو
ليس أكثر من ( شاعر يحمل قيثارة.. في جزيرة مهجورة ) . وهنا ، يتذكّر
الشاعر رائحة الأمل ، وهي تشدّ مشاعر المنفيين العراقيين للعودة من
الشتات . وكيف كانت هذه الرائحة تصطدم بخلافات السياسيين العقائديين،
وأفكارهم ، التي كانت تخرج من الرؤوس ، ولا تمس حاجات الروح والجسد .
ويريد هؤلاء المنفيون من السياسي ، أن يتعامل مع الوطن والناس ، مثلما
يتعامل مع مصير عائلته وأبنائه ، ومثلما يريده لهما . يريدون ( أفقا
خاليا من النظريات والأناشيد ) التي دفعوا ثمنها عمرا ، وحياة مريرة
على أرصفة المنافي البعيدة .
ويبقى حلمهم ، كما هو حلم الشاعر ، وحلمنا
جميعا ، كعراقيين ، أن نخرج من قبضة الكابوس الثقيل ، ونتجول في (
محلاتنا ) و ( درابيننا ) دون أن يسألنا أحد عن هويتنا العقائدية ،
والقومية، والعشائرية ، وحتى الوطنية..التي تحولت في ظل ذلك الكابوس
إلى ( زبدة سوداء سامة ) فقدت صفاتها الأولى ، على يد أجيال سلبتها من
القاموس ، وحولتها إلى دهان يفسد ( رائحة الجدائل ) . ويبقى اليوم
الموعود ، بعد كل ذلك العذاب الجهنمي ، الذي أحاطتنا به مراجل
الدكتاتورية ، لأكثر من ثلاثة عقود ، هو أن يكون لنا وطن عارٍ ( نتبادل
وإياه الشتائم دون مخاوف ) من أحد يحاول ، من جديد ، تصنيع أشكالٍ أخرى
من التسلط ، والأوهام .
إن مشاعر الأمل لدى العراقي ، الذي مازال (
يصغي لنزيفه) معقودة بزوال الطاغية ، ومشاعر يأسه مرتبطة ببقائه . ولا
توجد في كيانه فسحة للاهتمام بصراع القوى العالمية ، أو صراع الطبقات .
ولأنه ينزف منذ أكثر من ثلاثين عاما ، فهو لا يفكر إلا بإيقاف نزيفه .
ذلك النزيف الذي لم تهتم به ، يوما ، قوى تقدمية ، أو إسلامية ، أو
عربية . وأن ذاكرته ، هي ( ذاكرة الذبيح) التي يعرف ، من خلالها ،
الوجوه التي ساهمت بذبحه . وعليه أن يعرف ، من تجربته الدامية ،
والأضرار التي سببتها لحياته ، بأن الحياة البشرية تحكمها ، اليوم ،
سوق مصالح وتبادل سلع ، فلم لا يدخل ( مرحلة اللاعداوة واللاصداقة )
ويتعامل مع الآخر على وفق هذا المبدأ ، وبذكاء العارف . فمنذ ارتقى
صدام قمة السلطة ، ظل العراقي يشعر بأن غزوا أجنبيا بالغ الشراسة
والقسوة حل في مدنه، وأن من كانوا في السلطة هم قطاع طرق ومحتلون ،
وأكثر وحشية من الأجنبي العسكري . وحين تكون لهذا الأجنبي، قوة تزعزع
تماسك الجلاد والقتلة ، وتساهم بصنع واقع جديد ، لا يتسع ، كما كان
سابقا ، لآلاف المقالات ، والقصائد ، والكتب ، التي تقول لك يوميا (
انظر إلى السمكة وقل يعسوبة ، أو إلى برزان وقل قمر الزمان ) ، يكون
للأمر معنى آخر ، يفهمه العراقي وحده .
ويظل حلم العراقي المنفي ، بعد أن رأى مفاتن
الحرية ، وجلال القانون ، وقداسة الإنسان هناك ، أن تصبح الدولة في
بلاده مؤسسة ، ومختبر كفاءات اختصاص ، لا كفاءات ( مناورة واحتيال ).
وحيث يتحقق ذلك ، فان الشاعر سيصفق لوزير ثقافة يحسن الحديث ، ووزير
تربية يحتفل بصدور كتابه الحادي والعشرين . وأن يعود رجل الدين إلى
حوزته ، مرجعا فقهيا ، وذو العقال إلى ركن مضيفه . يومها ستعود المدينة
مدينة ، والريف ريفا ، والوطن للجميع .
ويتوسل الشاعر ، بذوي الوعي الثقافي المسّيس ،
أو السياسي الثقافي ، أن يتركوا للعراقيين ، الذين خبروا التعامل
الإلزامي مع ( حماة الوطنية والقومية والأممية ) ، أن يجربوا التعامل
مع أطماع العالم الخارجي ( لعل هذه الأطماع تكتفي بنصف خيراتنا ، وتترك
لنا الإنسان حيّا ، لا جثة على مذبح مفاهيمها وشعاراتها الخالدة ) .
وعلى القوى التي ستتسلم عراق المستقبل ، أن تتعلم من ذلك الإرث الدموي
الكثير مما عليها أن تعمله للإنسان العراقي ولمستقبله ، دون وصاية من
عقيدة ، أو شعار جرّبنا ما أصاب حياتنا من شحوبٍ في ظلهما . وعلى هذه
القوى أن تعرف ، بأن الخطر ، كل الخطر، يكمن في الطمع باحتلال المواقع
الجديدة في السلطة . لأن ذلك يؤدي إلى إرادة قوة ، وإرادة مال ،
ستغذيان فعل ( الغرائز المتدنّية ) الطامعة بالتسلط على الآخر ،
وإحالته إلى أداة ، وخادم .
وهاهو الدكتاتور يسقط . ويدخل العراق طريقا
جديدا ، لم يألفه من قبل ، طريق الحرية . والحرية هذه المرة ، فعل
وليست كلمة أو فكرة . وعلينا أن نتعامل ، اليوم ، مع حريتنا ، بطريقة
تقود الإنسان العراقي المتعب ، المضطرب ، إلى ما ينفعه ، ويكون فيه
سعيدا معافى .
وعلينا ، بعد هذه التجربة الجديدة ، أن لا نبقى
داخل ( معتقل الأيمان الإيهامي ) في التعامل مع القوى الموجودة على
أرضنا ، بل من خلال مصلحة ومنفعة العراقيين قبل كل شئ ، وإعادة
الاعتبار للإنسان والحياة في بلادنا . وهذا جزء من عمل المثقف ، الذي
عليه أن يتأمل ، من جديد، بمعنى الثقافة ومغزاها وهدفها . كما علينا أن
نبتعد عن (المعجزة العربية) التي ظلت كامنة في لغة التأليب ، والحماسة
، وتوهم القوة والجبروت ، واحتقار قوة وحضارة الآخر ، بعد أن فُقد
الأمل بأي معجزة سماوية أو أرضية .
لقد صارت هذه اللغة مرآة للكيان العربي ( من
المحيط الهادر لغويا ، إلى الخليج الثائر لغويا ) ، حاصدا بها كل أنواع
الموت ، والقتل ، والخراب . وبإنزال هذه اللغة من علياء وهمها ، سيكون
للإنسان الأضعف ، وللطائفة أو القومية الأصغر ، حق المساهمة في بناء
الحياة . وسنعيش السعادة ، والحب ، والتآخي بدل أن نقرأها مجرّد كلماتٍ
في القصائد ، والكتب . وأن من يريدون إدامة الهواء الفاسد في حياتنا
الجديدة ، ليشبعوا بطونهم ، وخزائنهم على حساب معاناة ، وجروح الإنسان
العراقي ، لن يطول الوقت بهم (لأن المغني المقبل بقيثاره ، سيحتاجهم
ديكورا لمشاهد المقابر الجماعية على مسرحه التراجيدي) . فمتى يصل هذا
المغني إلى مسرحه ، الذي هو مسرح حياتنا الجديد ؟ ومتى يصبح مثل هؤلاء
، من ذوي الخزائن الفاسدة ، صفحات منسية في كتاب ؟
• الكتاب :
يوميات نهاية الكابوس
• المؤلف : فوزي
كريم
•
الناشر : المدى 2005