استعادات فوزي كريم في "العودة الى كاردينيا": حسابات قديمة بمهارات جديدة
ماجد السامرائي
اذا اخذنا كتاب الشاعر فوزي كريم "العودة الى كاردينيا" (دار المدى - 2004), بما ارادنا ان نتمثله ونراه في انه لا ينطوي "على رغبة استعادة لسنوات التاريخ الشخصي", وانما هو "محاولة لادراك الماضي على ضوء مشاعر الحاضر ورؤاه وافكاره".. فإننا سنسقط منه ما يقرب من النصف الذي لم نجد فيه اكثر من "تاريخ شخصي" منظوراً اليه من زاوية ضيقة, وقد اعطى لذاكرته - التي تبدو وهي محتشدة بالخصومات بما يحفزه على الثأر من الماضي - ما بلغ بهذه "الذاكرة" حد الاستباحة لذلك الماضي. كنت دائم التمني على "جيل الرواد", من شعراء ورسامين وقصصيين, ان يدوّنوا "مذكراتهم" أو يستعيدوا ما يتحصل لهم من "يومياتهم" عن المرحلة التي عاشوها وانفعلوا بها وتفاعلوا معها, واقعاً وتيارات ادبية وفنية وفكرية وسياسية, لأنها, في كل ما اجتمع لها, تمثل واحدة من أغنى المراحل في تاريخ الابداع العربي الحديث, وفي التأسيس لفكر جديد ومجدد. ويوم نشر جبرا ابراهيم جبرا بعض يوميات الفنان, الكبير جواد سليم (ضمن كتابه الرحلة الثامنة 1967) كم كان غير واحد ممن قرأوا تلك "اليوميات" تمنى لو انها استوعبت المزيد من الاوراق التي كان الفنان الراحل دوّن فيها المزيد عن حياته وعمله وعلاقاته بالناس والاشياء, وخصوصاً تلك "التعليقات" و"التخطيطات" النادرة, لأنها - وقد اتيح لي الاطلاع على شيء منها - تمثل "مدونات فنان" لعلها من اغنى ما ترك من بعده من وثائق تخص فنه, وتمثل طبيعة تفكيره, وتكشف عن علاقاته, فضلاً عما تعكسه من رؤية للعالم والاشياء, متمنياً ألا يضيع شيء من تلك الوثائق وقد أصبحت في عهدة زوجته الفنانة "لورنا سليم". وكم من مرة اقترحت فيها على الصديق الراحل الكبير جبرا ان يكتب من بعد ما كتب في "البئر الاولى" - التي اخذ فيها سيرته طفلاً - مذكراته عن الحياة التي عاشها في المملكة المتحدة, ومن ثم في الولايات المتحدة, صعوداً الى بغداد اواخر الاربعينات والخمسينات, لأنها تمثل مراحل غنية لا في حياته وحدها بل وفي حياة الابداع في العراق امتداداً وتواصلاً مع لبنان, حيث مجلة "شعر" و"جماعة شعر" التي ربطته معهما علاقات لا أوثق ولا أغنى في تفعيل حركة الحداثة في الشعر والنقد والرسم بوجه خاص - وفي كل مرة كنت أعيد عليه طرح الفكرة فإنها بمقدار ما كانت تغريه كان يجد نفسه امام "عمل صعب" لا تحيط به مئات الصفحات.. فكان ان اقتصر على ما يمكن ان نعده "شذرات" من تلك السيرة, وهي ما جعله في كتابه "شارع الاميرات", وقد اخذ معه الى عالم النسيان ما لو كان تم تدوينه لشكل به تمثيلاً لحياة هي من الغنى بالعطاء والمعطيات والافكار... من خلال ما تكرس له منها في الحياة التجديدية في ادب الحداثة. ويبدو ان البعض من "جيل الستينات" في العراق, ومن الشعراء تحديداً, قد تنبه الى هذه الناحية في الكتابة, فكتب الشاعر سامي مهدي كتابه عن تجربة هذا الجيل في "الموجة الصاخبة", اعقبه الشاعر فاضل العزاوي بكتابة "الروح الحية". الا انهما, وكل على طريقته وبمقتضى خصوماته, لم يكن أميناً في ما كتب, وخصوصاً في تدوين ما هو "تاريخي" بخصوص هذه "الحركة" التي كانا من بين ابرز اقطابها... مفارقين في ذلك الكثير من الحقائق, تجاهلاً او تزويراً... وقد اخضع كل منهما الكثير منها لمصلحة "اسمه". فقد نظر كل منهما الى "اسمه" و"دوره", وجعل "الحركة" تدور من حوله كأنه "قطبها", كما أراد هو, وليس كما يقول التاريخ. ويأتي كتاب الشاعر فوزي كريم: "العودة الى كاردينيا" ليكون اشد من "زميليه" انجرافاً الى ما هو شخصي, وعابر, بل ولا اهمية له في ما هو شعري. وقد انشغل فيه عن الشعر وهموم الابداع بما هو يومي وعابر: لا يضيف رؤية الى عمل, ولا يؤطر حركة جيل شعري - ليس من شك في اهمية ما قدم - بما ينبغي ان تتأطر به من اهمية شعرية ونقدية, بل نجده ينصرف فيه الى "وقائع" و"احداث" لا قيمة لها او اهمية, لا بالنسبة اليه شاعراً ولا لشعره.. فهي من قبيل "تصفية حسابات" متأخرة, وقد أجراها على حساب الشعر وما هو شعري بل لقد وجدته فيها ومن خلالها أصغر بكثير مما اعرف له من حجم شعري ونقدي, انا الذي عرفته على تفتح بداياته الاولى, وعمل معي في المجلة "الف باء" التي دارت كل وقائعه "الثأرية" فيها, من دون أن أعرف, من قبل, شيئاً عن الكثير مما أورد من وقائع - لا احسب انها جرت بالحجم, وعلى النحو - من حيث النيات - الذي عرضها فيه... ولعلها بالشكل الذي قدمها فيه لم تكن سوى "انفلاتات مواقف" و"تدوينات غربة" قد تحاصر المتغرب بكل ما يجعله ساخطاً على الماضي, مهما يكن ذلك الماضي قد قدم اليه. بل كنت انتظر من الشاعر فوزي كريم ان يحدثنا عن "صراع" التيارات الشعرية, والفنية والسياسية داخل "حركة الستينات", وان كان دخلها متأخراً بعض السنوات عن بداياتها. وان يقول لنا ما كنا ننتظر منه قوله حول الملابسات التي احاطت بـ"البيان الشعري" الذي كان "فوزي" رابع الموقعين عليه من الشعراء: فاضل العزاوي, سامي مهدي, خالد علي مصطفى, وفوزي كريم, وكيف تمت كتابته, ومن كتبه اصلاً... ثم ردود الفعل التي اثارها ذلك "البيان" في مستويين: شعري, وسياسي. اذ وقف بعض الشعراء موقف الرافض لكل ما جاء فيه, وعده سياسيون في التيارين القومي والماركسي متقاطعاً مع الفكرين. وكنا ننتظر منه - وهو الذي تنصل يومها من ذلك "البيان" بعد الضجة التي ثارت حوله - ان يكتب عن "الحركة الشعرية الستينية" من أفق أوسع من نطاق "الخصومات الشخصية" الذي حصر فيه نفسه وبعض ما كتب, لأنه - وبحسب معرفتي الشخصية - كان يقف خارج طرفي الصراع الرئيسين في "الحركة - المعركة". وكما كان كتب يومها بعض الدراسات الموضوعية الدالة على شخصية نقدية لا تفتقر الى النضج (مما جمعه في كتابه النقدي الاول: "من الغربة الى وعي الغربة"), فضلاً عن "شخصيته الشعرية" التي كانت شخصية بعيدة عن التطرف, ومطبوعة بطابع التميز الشعري (تجربة, ولغة, وبناء شعرياً), مما جعله اكثر قرباً من "التجربة السياسية" منه الى بعض "تطرفات" جيل الستينات, الا انه للأسف, أهمل هذا كله, وكرس جل اهتمامه لما هو أقل أهمية, وأدنى.. مما قد يعطي انطباعاً سلبياً عن هذا الجيل في نظر الاجيال الجديدة. فماذا اضاف فوزي الى واقع الحركة الشعرية في كل ما كتبه عن زميله الشاعر سامي مهدي؟ وماذا أضاف, في ما كتب, الى رصيده الشخصي - شعرياً؟ ولماذا عرض الآخرين, في مشاهد كتابه, وكأنهم اشباح, لا كيان لهم ولا وجود مؤثر؟ وهناك تساؤلات أخرى لا أود اثارتها من باب تقديري للشاعر في شخص فوزي كريم.
(الحياة 2004/09/18)
|
|