الظمــأ
محمـد طالب*
أينَ ينابيعُ
الروحِ النَّاضبة،
منذ عصورٍ خلت؟
حيث تجمّعت الأحْجَارُ..
تجمَّعتِ
الأتربةُ...
تجمّعت الأشجار، وماتت،
وانتظر الطيرُ ضراعاتِ الأمواهِ
المتدفقة،
وهمسَ الأَثمارِ الضائعَ في زَمَنِ الموتِ..
..
تَجَمَّعَتِ
الأغراب،
وقوافلُ صارعتِ الصحراءَ،
وصارعتِ التيهَ،
وصارعت
النسيان
أين السحبُ المارَّةُ عبر سموات المنفي،
المزدحم بأهوال
المهزومين
الصائمِ كهجير..
الرادعِ كعصا..
المُتَّسِعِ
كَبَحْر..
الضيِّق كالمأزقِ..
المطروق بآلاف الأقدام التعبي..
العازمة
المتخاذلة
المسحوبةِ كجثث طرائد
عاد بها الصيادون
المنتصرون أمامَ فيافٍ
جائعة،
وضَلالاتٍ شاسعة
..
هذا المنفي المقرون بكل مرامي الخوف،
والأفواه
اللاهثة الجافة،
وسُلالاتِ النَّكِراتِ المنطفئين.
..
هذا المنفي الغاصُّ
بأنواع الصُّبَّار،
المتآكل من عطشه،
الضاربِ بجذوره
في
الأعماق..
الضائع بحثاً عن آثار رطوبات في الأرض العطشي..
..
هذا المنفي
المكتظّ
بأفاعٍ عمياء،
وضِبابٍ تقتنص رطوبات الأنسام،
بِرِئاتٍ
صابرة.
..
هذا المنفي الحافل بجذوع الأشجار المتحجرة،
منذ الحقب
الأولي..
الحافلُ بالمَوْتي، والآبارِ الناضبة..
..
وأوهامِ صداعٍ
مطبق
وحدائقَ مزروعة
بالأحجار وبالنسيان
وبالموت.
حَالَتَان..
مَرَّةً،
حِينَ كُنَّا صغَاراً،
كانَ
بَعْضُ النَّهارْ
حُلُماً..ِ
كانَ لَيْلُ الصِّغارِ أَرَاجِيحَ
مَأْخُوذَةً
بالضَّجِيجْ؛
كَتَبَ الخَائفُونَ تَفَاصيلَهُ
واسْتَرَاحُوا
إلي ما حَبَتْهُمْ بِهِ
ألْمَنَافي البَعيدَةُ عن مَوْطِنِ الحُلُمِ
حَيْثُ
لَنْ يَتَزَيَّا النَّهَارُ بِزِيِّ المُهَرِّجِ ثَانِيَةً..
حَيْثُ صارَ
الصِّغَارُ كِبَارا،
وصارَ اخْتِفَاؤهُمُو قَدَراً..
لم يَعُدْ، مِثْلَمَا
كانَ، غُمَّيْضَةً..
مَرَّةً،
حِينَ كُنَّا صِغَاراً؛
كانَ مَنْ
يَعْتَصِب..
كانً مَنْ يَخْتَفي..
كانَ مَنْ يُفْتَضَح..
كانَ مَنْ
يَتَدَرَّأُ خَلْفَ الظُّلَف..
حينَ صارَ الصِّغَارُ كِبَاراً
كانَ مَنْ
يختفي..
كان من يُفْتَضَح..
كان مَنْ يَتَدَرَّأُ خَلْفَ
الحُدُود!
مَنْظَر خَارِجِي..
وَصَل المدْعُوُّونَ،
ولَم يَبْقَ
سِوي أن يُعْلَنَ عَن بِدْءِ الحَفْل..
كانَتْ رَائِحَةُ
اللَّحْمِ،
ورَائِحَةُ السَّمَكِ المَقْليّ،
تَسْتَعْمِرُ أَرْجَاءَ
البَيْتِ..
وتَنْسَرِبُ إلي الخَارج،
حَيْثُ تَمُوءُ القطَطُ
المُتَشَرِّدَةُ،
..
وَتَنْجِذبُ كِلابٌ
ضالَّةْ،
...............
وَيَعِمُّ شِجَارُ الأَصْوَاتِ
المُتَنَاحِرَةِ؛
نُبَاحٌ ومُواءٌ وضُبَاحٌ وعُوَاءٌ وزَئيرٌ..
ثَمَّةَ
أصْواتٌ أخْري تَتَنادي
قَادِمَةً مِنْ أنْحَاءِ القَرْيَة؛
أصْوَاتُ
الصَّيَّادِين..
أصْوَاتُ بَنَادقَ..
أَصْوَاتُ الجَرْيِ المُتَدَافِعِ في
الأَنْحَاءِ الضَّاجَّة..
يَبْدُو أنَّ هُنَالِكَ مَنْ عَادَ
بِفَرْو..
عَمَّ الصَّمْتْ،
وتَرَاخَتْ آذَانٌ مُشْرَعَةٌ
وَرِقَابٌ
مُتَشَنِّجَة..
أُعْلِنُ عن بِدْءِ الحَفْل.
* "...
أنا في الجزائر، حيث خرجت من العراق في أواخر 1968، وذهبت
مرتين إلي العراق. مرة في صيف 72 ومرة في صيف 74، وأقيم حالياً في
مدينة قريبة من
جيجل في الساحل الشرقي من الجزائر. وتزوجت من هنا وعندي خمسة أبناء،
ثلاثة أولاد:
رافد وفرات وأنيس، وابنتان: صبا ونجد.. وقد أصدرت في العراق مجموعتي
الأولي التسول
في ارتفاع النهار سنة 1974، وصدرت لي في دمشق مجموعتي الثانية متاهات
لا تنتهي عن
اتحاد الكتاب العرب. وعندي مجموعة من المخطوطات الشعرية والقصصية
ورواية ودراسات عن
الرواية الجزائرية ألقيتها في الملتقيات هنا. أنشر أحياناً في الصحف
والمجلات،
وأوضاعي مستقرة في الجزائر...
"
من آخر رسالة بعثها محمد طالب إلى مجلة اللحظة
الشعرية 1993/9/19 قبل أن يقتل على يد مجهول من متطرفي الحركة
الإسلامية في
الجزائر.
|
|