|
|||||||
معرض تشكيلي لشاعر الصمت
في الأكاديمية الملكية RA معرض استعادي لفنان دنماركي بعنوان مثير: "شعرُ الصمت". العناوين لا تُصاغ جزافاً في الغرب. والفنان لا عهد لي به، إلا في بضعة لوحات في كتاب. صورة البوستر أكثر من مغرية: امرأة تعطي الفنان ظهرها لعلةٍ ما، تحمل صحناً، وتواجه الجدار وقد شغلها أمرٌ ما مفاجئ. الإناء الصيني والخزانة الخشبية ينمان عن مهارة تكاد تكون فوتوغرافية. يُقرأ اسم الفنان في العربية بهذه الصياغة: هامَرْسْ هويْ Hammershoi، (1864-1916). ولد في العاصمة كوبنهاغن، وبدأ مشروع حياته كرسام منذ الثامنة، بدعم من والدته. في سن الواحد والعشرين حاز على جائزة الأكاديمية بلوحة "امرأة شابة"، التي أثارت خلافاً بين الأكاديميين، بسبب تكتّمها اللوني، وخطوطها المرتخية، والضربات غير الدقيقة للفرشاة. شيءٌ من استجابة لضرورة داخلية لا تلتفت للضوابط المدرسية.
لوحاتُ المعرض التي تبلغ 71 لوحةً رحيلٌ داخلي، يبدو الزمن فيه لا ضرورة له. إلا إذا استجبنا لرأي الفنان في أن اللون الأخضر المكتوم في أكثر لوحاته إيحاءٌ بالنهاية والموت. باعتبار الموت خاتمة حركة الزمان. اللوحاتُ في معظمها تصورُ تفصيلاً داخل بيتٍ أو غرفة: بيانو على الحائط، خزانة، كرسي، طاولة، أبواب بيضاء مُشرعة أو مغلقة، وامرأة (عادةً ما تكون زوجته)، إن وُجِدت، فمصوَّرة من الخلف. وكأن الفنان بذلك يُضفي مزيداً من الغموض، ومزيداً من السكينة التي تهيمن على عالمه. حتى اللوحات التي ترصد مشاهد خارج البيت عادةً ما تكون بالهدوء ذاته، وخالية من البشر، ومُثقلة بالصمت، وتُذكر بلوحات الأمريكي هوبر.
تقنيتُه لا تتجاوز عدداً محدوداً من الألوان الكامدة، قد تبلغُ الثلاثة أو الأربعة، في مقدمتها الرمادي والأخضر الغامق، حتى لتبدو مع دقتها أقرب إلى الفوتوغراف بالأسود والأبيض، كما أن تأليف اللوحة محدودٌ ببضعة عناصر أولية. الأبواب المشرعة في مشهد واحد توحي بمتاهة. وإذا انفرد بابٌ واحد أمام كرسي فكأن أحداً ما قد غادر تواً. لا نرى الإضاءة إلا في أشعة شمس شمالية واهية عبر نافذة، دائمة الحضور، ولكن شحيحة. هذه الخصائص للصمت لا شك شعرية. وإيحاء عنوان المعرض له أكثر من صدى في مشاهد اللوحات المتتالية. ولعل تتابع اللوحات الموحّدة بأكثر من عنصر تجعل الشاعرَ المولع بفن الرسم، يستعيد نقاط اللقاء الخفية بين الفنين. هل الصمت هو مركز اللقاء؟
يُروى عن هَمَرسْهوْي بأنه كان ذا طبيعة حييّة، صامتة. عاشَ حياةَ عزلةٍ، بعيدةٍ عن الجمهور حتى في افتتاح معارضه. قليل التعليق على لوحاته وفنه بصورة عامة، ولا يرغب بإعطاء حوار للصحافة الفنية. الشاعر الألماني ريلكة حين زاره من أجل الكتابة عنه، عانى من استنطاقه. ولكنه قال عنه الكلمة التالية: "هَمرسْ هوي ليس من أولئك الذين يجب أن نتحدث عنهم سريعاً. فعمله ذو مدى بعيد وبطيء، ولحظة فهمه تمنح أحدنا أكثر من سبب للحديث عن ما هو مهم وجوهري في الفن". زوجته "إدا" ظلت بطلة أكثر لوحاته. حين تُرسم في بورتريت تبدو هادئة وفي لحظة تأمل. وتأملها حزين في الغالب، بسبب مرضها الذي لازمها طوال حياتها، بالرغم من بقائها حية بعد وفاة زوجها المبكر بسرطان الحنجرة، وهو في عمر الواحد والخمسين. في لوحة بورتريت مؤثرة تبدو جالسة أمام قدح شاي، وكأنها على مشارف نهاية وشيكة. لون البشرة الأخضر الغامق يوحي بذلك. الأبوابُ البيضاءُ المشرعة أو المغلقة، وأثاثُ الغرفِ الخشبية الصقيلة، والأرضية اللامعة، توحي جميعاً بزوال الإنسان. حتى الأشعة الواهية للشمس لا تصور في أحد اللوحات إلا وهي تكشف عن غبارٍ مُثار.
ظل هَمرسْ هوي معروفاً داخل حدود بلده الدنمارك حتى سنة 1900، بعدها صارت المعارض الشخصية تُقام له في برلين، باريس ولندن. مع الروح المضطربة والتجريبية غير المستقرة للقرن العشرين تلاشى اسم هَمرسْ هوي في النسيان. في السبعينات ومع نشاط المدرسة الرمزية التي تبنته رائداً من روادها، شرعت دور العرض الغربية في استعادته وتعزيز حضوره.
|
|
||||||
|