العدد 14 لسنة 2009

 

 5 قصائـــد

 

ياسين طه حافظ

 

 

 

العربات محّملةً تصل

 

جناح ضرب نافذتي

وحطّ يلهث, اضطربت عيناه اكثر

وازداد لهاثا حين رأى وجهي.

"كم تخطؤن الرؤية,

وكم قساة انتم!"

 

اصابني الدوار, فهبطت أتكيء وليس

ما أتكيء عليه.

دوار ولاحبة تجهض الظل,

تدفعه عن وجهي.

 

"أنتَ مهووس بريشي وبحركة جنحي

وبلوني, لون التراب المتّسخ,

لون العشب الذي ايبسه الدخان.

كم قساة انتم!"

 

"أنت هنا, معزول في غرفتك,

في الطابق الثالث,

منقطع لا تصل.

لم تفهم المصير مُذْ قُذِف الكوكب في المتاه

ظل الفراغ وطنك

والفراغ حبَّك

والفراغ شارعك المُصان بجدران زائفة

توهمك بالوصول

وتقتلك ان صدَّقتَ..

نحن الطيور لم نخدع,

فقد ادركنا ان عالمنا هو الفراغ.."

 

لكي ابعد عن رؤية هذا الطائر,

لكي اهرب من نظرات الازدراء والغضب في عينيه

ادرت وجهي,

رحت انظر للجهة الأخرى:

رأيت العربة القديمة تختفي,

لم أر حمولتها

ولكن الغبار الذي خلفته,

واتجاه القدر المضبب الذي يجري بها,

يجعلاني اعرف

انها محملة بأمثالي, ممن لم يعودوا

يحتملون الدوار.

 

قال الطائر الغريب: "استمر على النظر في ذلك الاتجاه.

حسنا انك بدأت ترى.

فاستمع لي اذن:

المدينة تكره الطيور, تكرهك وتكرهني.

لا تريد ان تُرى من فوق,

وتخاف من صرخات الطيور في الأعالي."

"انظر انظر, تلك هي العربات تنتظر,

تريد مكانا تُلقي به هذا الكوم من البشر

الذين قطعوا الصحراء وقطعوا البحر

حتى اذا وصلوا

لا يعرف احد منهم مكانا يتجه إليه..

 

لست أول من وصل طبرق. ولست اول

من ظل حائرا بعد وصوله.                                   

 

 طبرق 2001

 

 

 

القمح

 

كان القطارُ هناكَ ينتظر الحمولةَ،

كانت العربات من صدأ وشمسٍ

تسفح الرَهَجَ الذي يأتي به القمحُ المرُحّلُ،

كانت الاكياس تغفو حالما تُلقى كأنْ

أنهَتْ حكايتَها.

ظل الشذى قلِقاً يحوّمُ بانتظار الريحِ

تحملهُ وتمضي.

 

وأنا أمرُ هناك, جارتُنا بخطوتها العزومِ

ولونها القمحيّ تختصر الطريقَ, "تقولُ :

هذا الدربُ أسلمُ, هل تشمُّ شذى الجذورِ

ونفحةَ القشِ المبلّلِ؟

في الحقول ترى العجائبْ." 

 

"كانت فسائلََ هذه النْخلاتُ اذْ كنا صغاراً,

هل ترى؟

كبُرتْ ويسقطُ تمرُها في الصيف نَلْقطُهُ

إذا جعنا …توقّ الدربَ  !" جارتُنا

مالتْ الى يَبَس وترفع ثوبها تجتازُ شوكاً،

لمْعةٌ في الساق باهرةٌ،

سرعانَ ما غطىّ الحريرُ اللمْعَ، غيَّبَ

ذلك العجَبْ العُجاب /

تشعُّ ساقيةٌ

لاءلاءةً دخلت تشقُّ طريقها المكتظّ أدغالاً

كما فجر يسيل على الظلام

هذي شِعابٌ لفّها النِسيانُ توقظُها ملامَسَةٌ

والدغل قد خجلَتْ زهورٌ فيه من شيء يُلامسُها.

القمْحُ حُمّلَ كلُّه، بقيَتْ هنا وهناك سنبلةٌ

تهزّ برأسها للريحِ /

لا حقلٌ،

هنا قصَبٌ وحلْفاءٌ ولمْعُ الماء يولجُ

في عروق الأرض رِعْشَتَهُ.

والزعفرانُ يشبَّ والأسَلَ استشاطت روحُهُ

غرثانَ منفرجَ الشفاه.

 

قالت "عطِشتُ، الصيفُ لم تبرَحْ حرارتُه، تَقَرَّبْ

وابترِدْ ، رقّتْ شفاهُك ايها الولدُ اقتربْ

هذي مرايا الله رائقةٌ وصافيةُ. ألا تدنو وتشربْ؟

شمّرَتْ للماء تكشف في الفضاء ذراعَها "الريّانَ"،

شعّتْ بضّةً تلك الذراعْ،

الماءُ يركض فوقها،

الماءُ جُنّ من الفرَحْ!

 

غرفَتْ تبلّل صدرَها وتُبرّدْ الثديين، هذا عالمٌ

ما كنتُ أعرفهُ. رأت عينَيّ تائهتين منبهراً

أرى الدنيا الخفيّةَ، أومأتْ للماء: لو تدنو

فهذي الريحُ لافحةٌ ووجُهكَ يافعٌ، والدربُ

مازالت، ولكنا وصلنا، والقطارُ يسير بحمل قمحَهُ ..،

كم صارَ عمرُك؟ قد كبُرتَ، شذاك هذا

أم شذى القمح المسافر جاء يتبعُنا؟

 

مُحْمرّةٌ مسمرّةُ الخدين، ضاحكةٌ، يدٌ في الماءِ

تأخذ غرفة ويدٌ تشيرُ "تعالَ، لو تدنو

ثناياك العِذابُ ترُيدُ ماءً، انه عطشٌ

تعالَ هنا!

شعاع مرَّ أو صوتٌ لصادحةٍ ؟

فأنهَتْ ضَمَّةً طرأتْ على عَجَلٍ،

وقبرّةٌ رأتْ أمراً فصاحت في فضاء الله،

لكنا اقتربنا، ما تزال ذراعُها مكشوفةً

قالتْ "وصلنا" ثم جَسَّتْ صدرها تتفقّدُ

الأزرارَ … مغلقةُ.

 

كان الصبيُّ مرافقاً او حارساً / 

شاخَ الصبيُّ وضاع حقلُ اللهِ، أذكر قولَها

"رقّتْ شفاهُكَ ايها الولدُ اقتربْ،

كم صارَ عمرَكََ؟ صوتُها الريانُ خيط الماء

في صحراء أيامي ….

وكان الماء يرشق صدرََها

ويبلّل الثديين" كنتُ اراهما

خلف الثياب مبلّلَينِ، أراهما !

 

الشيخُ مبتسماً، يهزُّ الرأسَ مصباحٌ

قديمٌ سوف يُطفَأُ "لمعةٌ في الساقِ" اذكر، قولها

"كانت فسائلََ هذه النخلاتُ قد كبُرَتْ

ويسقط تمرُها في الصيفِ نلقطهُ إذا جعنا.."

وكانت ضُحكةٌ.

محمرّة مسمرّة الخدين تطفح رغبةً …،

الشيخُ محنيٌّ، يهزّ الرأسَ: قد غربَ النهارْ !

 

أنجز التصحيح الثالث 6/11/2007

 

 

  

رجل مات في سالف العصور

 

رجل مات في سالف العصورْ

ليس يُعرَف تاريخُهُ

لا سطورَ تدلُّ على أهلهٍ أو سلالتِهِ

فهنا لِحَدٌ حجري

وهنالك جمجمةٌ

وعظامٌ مرتَّبَةٌ في أماكنها،

لحمُهُ أكلتْهُ السنونْ.

 

قال لي رجل عارفٌ بالمقابرِ

يعرف أسرارَها والفنونْ:

"ان رأسه حُزَّتْ بسيفْ

قطْعُها جيدٌٌ

والنهايات ليست مثلَّمةً

او مُهدَّمة مثلما يأكل الدودُ

أو تتلفُ الأزمنه.

هل ترى القطعَ؟

حَزَّةُ محترِفٍ

ماهرٍ.

قد يكون الذي حمَلَ السيفَ وأنجزَ فِعْلَتَهُ

عاملاً للملكْ،

ربما هو سيّافُهُ

او منفّذُ أهوائِهِ في ظلام القصورْ.

 

هل ترى؟ مثلما تقطع في الصحن تفاحةٌ،

مثل خيطِ حريرٍ يدورْ

خِبْرَةٌ لا تُضاهَى بقطع النحورْ.

 

نحن لا نعرف الآن أي معالمِهِ

وأختفتْ في الزمان دلالاتُهْ.

كل ما نتبيّنُ:

رأسُهُ خُزَّتْ بسيفٍ-

ولكنْ، ولكنَّ هذا

مكانُ رصاصه !

 

في مقابر هذا الزمان غموضٌ كبيرْ!

 

 

 

الزوبعــة

 

كم أُحسُّ بوخز الزمن واحزنُ

ان كلَّ شيءٍ سيبقى كما كانَ

وآمالنا تتأخرُ اخبارُها.ُ

وإذا ما أتى فرحٌ هاربٌ

نسمع الباب تُطْرَق بعد انكسار الزجاجةِ،

نسمعها بعد ان يملأ الغرفةَ الدخانْ.

 

وأنا قد تأخرتُ حتى عرفتْ

أنني كنت أُخْدَعَ في كل يومْ

والحب صّرافُ أرواحِنا

ومزيّفُ أصواتِنا،

بعد  ان تنتهي اللعبةُ

يضحك في سَرّه مِن حماقاتنا.

 

هي تلك الحقيقة: خيطٌ من السمّ

في الخبز يمنحُهُ لذةً

وانا جائع يتراقص لي قرصُه المُشْتهى.

يالخيبة أعيننا، ما ترى؟

فجأة، واستدارت خيول عواطفنا المُسرعه

تركت شوْطَها وأتت لتنام على دَغَلِ المزرعه.

 

هكذا هكذا نحن نحيا اقاصيصَنا المُمتعه

والحياه

اغلقَتْ بابَها.

ليس غير الهدوءِ

ونسيانِ ما راح في الزوبعه!

 

 

 

اعترافات منتصف الليل

 

ولكي يكون الحديثُ كريماً ، فلا بدّ أن

انحني للسلام الذي قد منحتني في زمن الخوفِ

ولا بد لي أن أُقِرَّ بأنيَ لو لمْ تمدّي

يديكِ لضعتُ

وإن لم أضِعْ لفّني السجنُ أو عيّبَتني الدروبْ

 

كل ذلك حقٌّ.

فبيتكِ كان مزاراً وبيتَ مباهجَ

بيتُكِ كان محطةَ هذا القطار الأخيرْ.

 

وأنا الآن أذكر كلَّ تفاصيلِهِ والمحاذيرَ

وأذكر أنكِ كنتِ مؤهلةً للمغامرة الأعمق مَوتاً،

وكنتِ الجريئةَ حدَّ انكسار السياجِ

وحبُّكِ كان حياةً تهالكتُ فيها سنينْ

 

ولكي أُكملَ الاعترافَ ، ولا تشمتي،

انني الآن في قَحَطٍ قاتلٍ

وأنا الآن أهلكُ جوعاً إليكِ،

اتبتسمين بخبثٍ ؟

لكم أتمنى ، وفي هذه الليلةِ،

أكدح فوقكِ مثل شغيلٍ

وأرعش أنضحُ حتى تغيّبني لحظةٌ في الأبَدْ.

 

كان هذا النهار غريباً. وكنت أدورُ

وارسم في كهربائكِ قوسَ حياةٍ

من الوهْجِ

غير التي أوجَعَتْنا دمامتُها ..

 

أنتِ تدرين اني

تجرّعتُ كلَّ رداءاتهم وقذارات هذي الحياة

إنما،

شرفٌ سوف يبقى ورائي وشعرٌ

ويبقى وراءهُمُ عارُهم،

عارُهم وحدَهُ لا يموتْ !

 

سوف نتركها

قبّعاتِ القباب الذهبيّة فوق أكاذيبهم

ودخان الدهاليز يتبعُنا

يتعقّبنا في النهار وفي ثُكُنات الكتابه.

ولكننا

سنجرُّ الحياةَ الوضيعةَ من قدميها الى قبرها !

 

لستُ في غفلة.

أنا أعرفُ زهريةَ الزمن الباقية

سوف تُسقِطُها رعشَةُ الرفِّ

وأعرف أن القصيدةَ تأتي من الظُلُماتِ

تنوءُ

وما بين أعمدة الصمتِ

نوقدُ مشعلَتَها.

 

في احتفالية النصر هذِهِ ،

ارتشف الليلَ حتى نهايتِهِ

وأنا أتذكرُ أنكِ في الزمنِ المُثلِجِ

كنتِ الوحيدةَ تشتعلين معي !

 

 

 

الغلاف

افتتاحية

*

محمـد طالب : الظمــأ

شيركو بيكه س : 12  قصيــدة

طالب عبد العزيز : القصـــر

نصير فليّح : 4 قصائــد

معتز رشدي : أغنيــة صغيرة

 ياسين طه حافظ : 5 قصائـــد

فوزي كــريم : ثلاث قصائــد

*

سركون بولص : بغداد مركز أحلامي

ستيفن دوبينس : ريتسوس واللحظة الميتافيزيقية

فوزي كريم : الشعر العراقي: بانوراما

ناظم عودة : السيّاب الخيال المأساوي

*

 محمد خضير : شاعر باصــورا

حسن ناظم : انطباعات عن أيام خلت

عبد الكريم كاصد : قراءة في "أغنية الليل" لصلاح عبد الصبور

 طالب عبد العزيز : القصر

محمود النمر : الدرويش والمتاهة

زهير الجزائري : طفولة الحداثة الشعرية

*

حاضر الموقف النقدي : من المتنبي

حاضر الموقف النقدي : في قصيدة النثر

حاضر الموقف النقدي : في النص المفتوح

حاضر الموقف النقدي : في الفن التشكيلي

*

كريستوفر مدلتون: بعد الثمانين

معرض تشكيلي لشاعر الصمت

مقابلات مع شيموس هيني

القوى الغنائية

معرض رياض نعمة

مقالات نقدية في الشعر المعاصر

نعومي شهاب : شاعرة الحياة اليومية

ويندهام لويس : الرسام أم الكاتب؟

*

الشعر السويدي اليوم قصائــد مختارة: ترجمة جاسم محمد و إبراهيم عبد الملك

الشعر السويدي: ترجمة ابراهيم عبد الملك

 

 

موقع الشاعر فوزي كريم      الصفحة الأولى         اعداد سابقة         بريد المجلة

  ©  All Rights Reserved 2007 - 2009