|
|||||||
شاعر باصــورا
محمد خضير
باصورا, مدينة الأسماء المتشابهة, تعيش اليوم نسختها الحادية عشرة أو السادسة عشرة أو العشرين أو المائة. الحقيقة إني لا أعرف عدد نسخ باصورا السابقة, ولا أستطيع أن أحدد مدّة كل فترة, إذ تداخلت إحداها في الأخرى, بل لعلّي أستطيع أن أعيّن الثلاث الأخيرة منها, على وجه التقريب. تبدأ فترة كتابة الدستور القديم بعام 1925, وتتلاشى في فترة كتابة الدستور الجديد عام 2003, ولكثرة انقلاباتها العسكرية عُرفت هذه النسخة بفترة الانقلابات. تنحشر فترة حروب الخليج, وطولها ثلاثة وعشرون عاما, في أحشاء فترة الانقلابات التي تشملها بطولها. أما النسخة الحديثة من باصورا ـ فترة الاقتراع على الدستور الجديد ـ فقد سميّت بفترة الاقتراع. ولدَ شاعر باصورا في مطلع الفترة الطويلة, فترة الانقلابات, وتوفي في منتصفها, بعد عام من أفظع انقلاباتها. ويوم أن طرأ على فكري تأليف كتاب عن أحلام حشود باصورا, خصصتُ شاعرها بحلمين, كما خصصتُ كل نسخة من المدينة بعدد من الأحلام. يُعرف مواطنو باصورا بحرف الميم المشترك بين أسمائهم الرمزية التي تنسبهم إلى مهنهم. عُرف شاعر باصورا باسم (ميم الشاعر), كما عُرف غيره باسم ميم الرسام وميم الممثل وميم النسّاخ وميم العطار وميم البستاني وميم الحالم وميم القاتل .. إلخ. لا أحد من الباصوريين هنا يستعمل اسمه الحقيقي الذي علق به في النسخة الأصلية التي صعد منها. كان اسم شاعرنا في نسخته الأصلية (بدر شاكر السياب) لكن الآن لا يُشار في باصورا إلى هذا الاسم إلا في الأحلام, أو في يوم الاحتفال بصعود الشاعر السنوي. ومن أجل سنوية الشاعر أذيع أحد الحلمين على الملأ الذي قلما سمع عن بلادي, بلاد الأسماء المتشابهة. * لم تكن روما مدينة (الحياة اللذيذة) في حلم فيدريكو فلليني، وحده, فقد زارت نساء روما المتبرجات غرفة شاعر باصورا الذي حلَّ ضيفاً على منظمة حرية الثقافة العالمية في تشرين الأول عام 1961. منذ تلك الليلة الرومانية, والعظام الناخرة تحمل بنية الشاعر الهزيلة على الانتقال بين أسرة المستشفيات في عواصم ثلاث مدن خلال ثلاث سنوات, حتى النهاية المحتومة في المستشفى الأميري بالكويت. كان الشاعر من عصبة (التموزيين) الذين التهموا أسطورة البعث السومرية, كما التهمَ ممثلو فيلم (ساتيريكون) جثة رجل ميت. إلا أن الوليمة الرومانية تراءت للشاعر ممدودةً في منزل جدّه المعروف بمنزل الأقنان الذي آوى أجراء البساتين, في أعماق أبعد قرية في العالم, جيكور. في تلك الليلة اختلط حلم روما بحلم جيكور, والتفَّ أعمام الشاعر مع عبيدهم حول مائدة الخرفان المشوية بعد انتهائهم من دفن أمّه على ربوة في القرية يظللها النخل. مُدّت الوليمة تحت سقيفة من السعف اليابس تصطفق بريح الجنوب التي تأتي بالسفن المحملة من بضائع الخليج. حملت الريح رائحة العشب والصوف إلى حواس الشاعر الطفل, فهرع يلتقي الراعيات المنتظرات وراء الربوة, مستبقاً حلم فلليني بعشرات السنين. مرة أنبأته عرّافة غجرية أن حياته المقسّمة على أربعة وثلاثين عاماً, ستحتمل أكثر مما تحتمله حياة فرجيل الطويلة في مملكة دانتي السفلى. ولم يفطن الشاعر إلى معنى النبوءة حتى زارته نساء الحياة اللذيذة في الفندق الذي نزله بدعوة من منظمة حرية الثقافة. ظهرت أنيتا إكبرغ في ملبس خادمة الفندق, ودنت من سرير الشاعر وسألته إن كان يرغب في نوع من أنواع الشراب. خُرِع الشاعر بعاصفة الجسد الذي انحنى على فراشه وغطى حواسه الجائعة بعبير النهدين المندلقين. طلب الشاعر قنينة نبيذ من النوع المخزون في قبو القصر الذي صُوّرت فيه حفلات (الحياة اللذيذة). في الشطر الثاني من الليل عادت لتسـأله عن الكتاب الذي يرغب في صحبته, فأراد أن تلبي رغبته في قراءة أشـعار هوراس المترجمة إلى الإنكليزيـة. ((هوراس؟)) قالت إكبـرغ (( لدينا نسخة من أشعار كوزيمودو بالإنكليزية. إن مذاقها كطعم طبق محارٍ صقليّ)). وعندما همّت بالخروج, كفكفت أذيال ثوبها المعطرة, وصبّت شُقرة شعرها في حجره, ثم استدارت وأولته صفحة ظهرها السدوميّ. ناداها الشاعر بصوت متهدج مطالباً بباقة زهور تُقطف في أول الصباح. (( أزهار؟ بالطبع لدينا أزهار تناسب مختلف أنواع الجثث)). لبّت ممثلة الحياة اللذيذة رغبات الشاعر على التوالي, ونفحته وعداً بوصاله في الليلة التالية بصحبة أنّا مانياني وجوليتا والأخريات. (( أترغب بمقابلة فلليني نفسه؟)). صاح الشاعر بذعر رافضاً مقابلته ((ما أدراني من سيأتي معه؟ قد يستدعي قسيساً شريراً لينتزع روحي. النساء فقط. النساء يا غجريتي)). نساء غادرات! حفرت الفئران في فقرات الشاعر نفقاً صديدياً, ينسلّ إليه حلمه, كلما انتقل إلى سرير أبيض جديد, وتناوبت على رعايته الممرضات الرقيقات والممرضات الشريرات, ولربما انتعشت أوصال الشاعر لمرأى باقة قرنفل ونسخة من ديوانه الجديد (المعبد الغريق) مع قناني مياه معدنية, وُضعت جميعها في متناول يده, خاصة أنه رأى مقدم النساء الغجريات نهار يومٍ أشرقت فيه الشمس على حديقة مستشفى سانت ماري في لندن, عقب ليلة ممطرة. خرجت أولاً مجموعة العبيد من بوابة منزل الجدّ الطيني الكبير, لاستقبال الغجريات المحمولات على سفينة قادمة من الخليج, رست على شاطئ المنزل في جيكور. كان اللقاء في بيت الأقنان تتويجاً للفصل الختامي من حلم الشاعر إذ تضمن رقصة التضحية برأسه. امتزج اللون الأسود للبشرات المحروقة بهجير جيكور, بالأفخاذ البرونزية لغجريات روما, وقد سقطت عنها الأزر الحريرية الملونة, وجيء بفقرات الشاعر على صينية تحملها أنيتا إكبرغ. إيقاع عنيف, دورات سريعة, انتهت بارتماء أيروسي على الأرض. راقب الشاعر رقصة التضحية من خلال زجاج نافذة المستشفى, وأحسّ بوهج الجزر الصخرية يسقط على وجهه العظمي, وبرذاذ البحر يغسل شفتيه المنفرجتين. تكرر مشهد الرقصة ثانية, بتنويع جنسي أهدأ من سابقه, في حديقة المستشفى الأميري بالكويت, ثم انطفأت شمس الشاعر, وهمد البحر مبتلعاً آهة الغريب. |
|
||||||
|