العدد 14 لسنة 2009

 

الشعر السويدي

من سبعينات القرن الماضي حتى العقد الأول من الألفية الثالثة

 

ماغنوس وليم أولسون

 

ترجمة ابراهيم عبد الملك

 

 

كيف لي أن أصف ماهيةً مُركَّبَةً كالشعر السويدي لقارئٍ من المُحتَمَلِ أنه لَمْ يَسمَعْ اللغةَ السويديةَ أبداً واحتمالاتُ تمييزِه لها، بين اللغات الغريبة عنه، أقلُّ بكثير؟

 

حين اكتشفتُ الشعرَ لِتَوِّيْ تَماماً، صبيّاً في الثالثة عشرةَ، كنتُ مستلقياً، بمحض صدفةٍ على بساط العشب الأخضر خارجَ كوخِ قَشٍّ في جزيرةِ غوتلاند السويدية، أراقبُ تحليق السنونو. كان ذلك صيفا. في السويد يعني الصيف 25 درجةً مئويةً، في أفضل الأحوال، كما يعني دوماً خضرةً مُطْبِقَةً تقريباً إذ يباغتكَ هذا البهاءُ كُلُّهُ وبَهجَةُ اللونِ، اللذينِ يفتقدهما البصر حين يجول في الطبيعة الشتائية بتناقضاتها الحادة والأغصان الجرداء والثلج، أينما التفتَّ. أينما التفتَّ عبثُ الريحِ عبرَ تلاطُمِ أوراق الشجر. بساطُ العشبِ الناعمُ الداكنُ الخضرة. تغاريدُ الطيورِ الآتيةُ من الأجَماتِ المُزهِرةِ زاهيةِ الخُضرة. كنتُ قد فقدتُ لِتوّي الأملَ في حبّي الأول. وكانت المرَّةَ الأولى التي أقرأ فيها قصيدة سافو، في الكِسرة الحادية والثلاثين، التي كادت تُطيحُ بي أرضاً والتي مطلَعُها "أَشْبَهُ بالآلهة"[1]. وبالقرب من الحائط الخشبيّ، تُرابِيِّ الحُمرة سويديِّ الطِّراز، رفعتُ رأسي نحو السماء لأرى تحليق السنونو الخاطف. وكأن السنونو نسِيَتْ تماماً قيود الزمن والمادة. وكأن هوى التحليق لديها محَقَ الفرق ما بينها وبين عُنصُرِها، ما بين الجسد والهواء. ولقد راقبتُ تحليق السنونو مراتٍ عديدةً بعدها، أذكر منها المرّات التي قضيتُ فيها أصيافاً ساخنةً طويلةً في جنوب إسبانيا، حيثُ يُطلَقُ عليها "غولوندريناس"، وتطيرُ فوق المزارعِ المُدَرَّجةِ التي شَيَّدها العربُ ذات مرة، ليعتنيَ بها فيما بعدُ فلاّحونَ فقراء عبرَ القرون. لكنني، وأنا أستلقي هناك، لم أكن أعرف شيئاً لا عن إسبانيا ولا عن الثقافة العربية. كان الشِّعر يفتح لي نفسه لأوّل مرة وكنتُ ذاهلاً، دَهِشا. هكذا يكون الشاعر، فَكَّرتُ، ـ في الثالثة عشرة ـ كالسنونو مُتَّحداً بِعُنْصُرِهِ. يتحرَّكُ في اللغة حركةَ السنونو في الهواء.

                كيف يُمكنُ شَرحُ ذلك التحليق لِغَريب؟

 

تكادُ اللغةُ السويدية لا تُلائمُ الفلسفةَ، فهي فقيرةٌ من حيثُ المفاهيم وغيرُ دقيقة. وعلى من يتوقُ إلى التمايُزِ الحادّ والوصفِ السَّديد والدِّقَّة الإيمائية أن يطلبَ ذلكَ في الفرنسية أو الألمانية بين اللغات الأوربية. أما من يريدُ مخاطبةَ القلبِ والتعبيرَ عن المشاعرِ والأحلامِ وكُلِّ الدرجات اللونيةِ المُنزلقةِ لحياة الروح، فإنه يكادُ لا يَجِدُ لِساناً أفصَحَ من السويديّ. إنها لغة النَّبراتِ والتناغُم. محكيَّةً تبدو لسامعها أغنيةً ترجحُ فيها كَفَّةُ الإيقاعِ والسرعةِ وتقطيعِ العباراتِ على كفَّةِ المعنى الدِّلالِيّ. وبِمُصطلحاتٍ نَفسْلِسانيّةٍ يمكنُ القولُ إنَّ السِّمْيوتيكيَّ[2] فيها يَغلُبُ على الرَّمزِيّ. إن حُرِّيَّةَ هذه اللغة لا تكمنُ في النَّحو أو الإعراب، فالسويديةُ، شَكلِيّاً، لغةٌ رَتيبة. لذلك فإنَّ ارتفاعَها إلى سُدُمِ الشِّعر يجبُ أن يتِمَّ عبرَ سُبُلٍ غيرِ شَكلِيّة. عبرَ الصَّوْتِ والرَّنينِ والنَّظْم. تخطفُ القصيدةُ السويديةُ، كتحليق السنونو، أمامَ طَرْفِك. ولأنها لا يُمكنُ استيعابُها أو إعادةُ تركيبها فهيَ تُوقِظَ التَّوقَ والحزنَ والألمَ أو الحُب. تفتحُ لحظةَ القلب. وكُلَّ البَوّابات: تلكَ المؤدِّيَةَ إلى الذاكرة، والمؤدّيةَ إلى الآخر، إلى الأمل والمستقبل، والبوّابةَ المؤدِّيَةَ إلى الحقيقةِ نفسها أحيانا. حين تتحوَّلُ اللغةُ السويديةُ، الرَّنّانة المُغَنِّيَةُ المُغَمغِمَةُ، لَفظاً إلى شِعرٍ تنفتحُ بَوّاباتُ القلبِ كُلُّها على مصاريعها. هناك، في القصيدة، في الرّنّة، في الصوت، يُدرِكُ المرءُ فجأةً لِمَ خلقَ اللهُ هذه اللغةَ النائيةَ مُتَّحِدةً بعالَمٍ من التناقُضاتِ الشديدة: مِن صحراءَ ثلجيةٍ وخَضارٍ مُتَفَجِّرٍ، مِن أشهُرٍ من ليلٍ أزَلِيٍّ وأخرى من شمسٍ لا تغربُ أبداً. مِن أميال تتوالى من غاباتٍ تتناثرُ فيها المَزارعُ المُنعَزِلَةُ التي وكأنَّها ضاعتْ من أحدِهِم. من مُدُنٍ - عُمرُ أقدمِها ثلاثُمائةِ أو أربعُمائةِ سنةٍ على أبعد تقدير – لِكُلِّ فردٍ من سُكّانِها تقريباً جَدَّةٌ أو جَدٌّ من الفلاّحين. ومن وحدةٍ مُفرِطةٍ وحفلات. فوق كلِّ هذه المسافات والإختلافاتِ، التي واحدُها أشبَهُ بِهُوَّةٍ سحيقة، تتحرَّكُ القصيدةُ السويدية غيرَ قابلَةٍ للتَكَهُّن بها أشبَهَ بالبَرْق، كتحليق السنونو نحوَ سماءٍ زرقاءَ مُسَيَّجَةٍ بِخَضارٍ كثيفٍ نَدِيّ.

 

لقد رَنَتْ السويدُ وأصغَتْ دوماً، وكذلك القصيدةُ السويديّةُ، مِن موقعهما على حافة أوربا إلى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإنكلترا. فحين تُرَوَّجُ موضةٌ شعرية في باريس، لا يطولُ الأمرُ بالشعراء السويديين أكثر من عشرة أعوامٍ، في أسوأ الأحوال، قبلَ إلتِقاطِها. ولذلكَ، ومن وجهةِ نظرٍ أوربيةٍ، فَلَم يَكُن الشعرُ السويديّ إلاّ آخرَ العنقودِ المتخلِّفِ عن الركب دَوْماً. ولكنَّ الشعراءَ السويديين، وإن عانوا غالباً من عقدة الأخ الأصغر ارتباطاً بزملائهم القارّيِّينَ المُحَسَّنينَ، قد استطاعوا في الوقت ذاته أن ينظروا خلفَهم إلى تقليدٍ أدبيٍّ اسكندنافيٍّ مُتَمَيِّزٍ تمتدُّ جذورُه إلى القرون الوسطى. أدبٌ شعريٌّ رفيعُ المستوى، بأوزانَ خاصةٍ لغوياً، وَجَدَهُ الأوربيون أحياناً مثيراً للفضول إلى حدٍّ ما، ولكنَّه، كذلك، جوبِهَ بالحسد غالِباً. في هذه الإزدواجية كثيراً ما نَظَرْتُ إلى نفسي كشاعرٍ في زملاءَ من بلدانَ ولغاتٍ لها ماضٍ إستعماري. من جهةٍ، هناكَ مشاعر الدّونيّة أمامَ القاعدة المُعلَنة. ومن جهةٍ أخرى الإدراكُ الفخورُ بتقليدٍ خاصٍّ مُغايِر. وكثيراً ما أثبَتَ هذا الإنتماءُ المتكافئُ الضِّدَّينِ أنَّهُ مورِدٌ شعرِيّ. لقد توجَّبَ على كُتّابِ لُغَةٍ صغيرةٍ كالسويدية (حوالَي 9 ملايين ناطقٍ بها) طلبُ الإلهامِ لدى كُتّابِ لُغاتٍ أخرى. ولذا فإن عدداً محدوداً من الكتابات المحلّية يمكنُ أن يوصَفَ بصفةِ "العالَميّة" كما هو حال الكتابات السويدية، وهذه حقيقةٌ دعَمَتْها هِجرةٌ بشرية من مختلف أنحاء العالم إلى السويد في فترة ما بعد الحرب. إن حوالي 16% من سكّان السويد إمّا مولودونَ أو من آباءَ وُلِدوا خارِجَها. من السَّهلِ تَخَيُّلُ التعدُّدِ الأدبي المختبئِ خلفَ أرقام ديموغرافيةٍ جافَّةٍ كهذه. حكاياتٌ ومصائرُ من أجزاء العالمِ وَقارّاتِهِ كُلِّها، تقاليدُ أدبيّةٌ وطرُقُ تعبيرٍ وجدَت مكانَها في اللغة السويدية. لقد بحثَ الشعرُ السويديُّ والشعراءُ السويديون عن الذاتِ في الخارج دائماً، في تقاليدَ ولغاتٍ أخرى.

لهذا تحظى الترجمةُ بتقديرٍ عالٍ، وبصفةٍ عامّةٍ فإن أغلبَ السويديّينَ يتقنونَ لغةً أخرى إلى جانب لغتهم الأم. وفي فترةِ ما بعدَ الحرب كانت تلكَ اللغةُ، وبشكلٍ مُتَنامٍ، هي الإنكليزية لِيُهَيمِنَ الأدبُ الإنكلوسكسونيّ على حركة الإصدارات السويدية. وحتى وإنْ إعترضَ الكتاب والنقّادُ والمترجمون السويديون بأعلى أصواتهم على الإقليمية في إصداراتِ دور النشر، فالحقيقةُ تبقى أنّ ما يُتَرجَمُ في السويد يفوق ما يُتَرجَمُ في كُلِّ البلدانِ التي تجوزُ معها المقارنة، وبحساب النِّسَبِ يفوق ذلكَ الكمُّ مَثيلَهُ في إنكلترا والولايات المتحدة، على سبيل المثال، بأضعاف.

 

كما هو معروف، فالمُقَفّى/(Slutrimm) أحد فروع الشعر الأوربي الإستعراضية. لكنَّ اللغةَ السويدية لُغَةٌ تَفْتَقِرُ إلى القافية. ولكنها من جانبٍ آخر غنيةٌ بإمكانياتِ الجناس الإستهلاليّ/ (alliteration) والجناس المجزوء/ (assonans)، الأمر الذي دأبَ الشعر الإسكندنافيّ القديم على استغلاله. ولقد مَيَّزَ شعورَنا بالدُّونِيَّة أمام الثقافاتِ الكبيرةِ الأخرى أن الشعراء السويديين ناضلوا بلا كللٍ للفكاك من تلك القبضة الأسلوبية الغريبةِ لُغَويّاً، ولكن بتوفيقٍ محدود. إذا استثنينا بضعةَ أمثلةٍ كبيرةٍ مُتَفرِّدةٍ كشاعر القرن الثامن عشر كارل ميكائيل بيلمان أو إيريك يوهان ستاغنيليوس في القرن التاسع عشر فإنَّ الشعرَ الموزون، كما أرى، قد بدأ منذ ذلك الوقت يَخلَعُ عنه إلزامَ المُقَفّى، القائمَ في السويد وقتها، ليكونَ نتاجاً شعرياً بمعايير عالمية. ثم أتى الشعر الحرُّ كمُحرِّرٍ شعريٍّ إلى السويد بعد أن زُرِعَ على مدى القرن العشرين. فقد بدأ شُعراءُ عديدون، منهم بير لاغركفست (1891-1974) وإيديث سودرغران (1902-1923) وهارّي مارتنسون (1904-1978) وغونّار إيكيلوف (1907-1968) كتابةَ الشعرِ الحُرِّ بالسويدية مُبَكِّرا. لكنَّ الحداثةَ الشعرية لم تشتهر على نطاقٍ واسعٍ قبلَ الأربعينات. ومع ظهورِ شعراء منهم إيريك ليندغرين (1910-1968) وكارل فينبيرغ (1910-1995) و روت هيلارب (1914-2003) أصبحت الحداثةُ قاعدةً وانفتح الشعر الموزون على اتّساعٍ في أساليب الكتابة والأفكار والأعراف.

        في الخمسينات ظهر بعض الشعراء الذين كان لهم أن يحظوا بانتشارٍ واسعٍ فيما بعد، في مقدمتهم توماس ترانسترومّر (ول.1931) الذي أصبح أكثر الشعراء السويديين شهرةً وقرّاءً في العالم بفضل ميزة الخلق الصُّوَرِيّ السّديد لديه. وكذلك بيرغيتّا تروتزيغ (ول.1929)، كمثالٍ آخر، والتي تُعَدُّ قصائدُها النثريةُ بسوداوِيَّتِها وهلْوَسَتِها مِنْ أهمِّ النتاجات الشعرية السويدية على الإطلاق.

        في الستّينات وُلِدَ في السويدِ، كما هي الحالُ في أرجاءَ عديدةٍ من العالم، وعيٌ جمالِيٌّ وسياسيٌّ جديد. ونشأَ بإلهامٍ موسيقيٍّ (كيج، ستوكهاوزن، ليغيتي، بوليز) وتشكيليٍّ صوريّ (روشنبيرغ، وورهول، فلوكسُس) ما أُصطُلِحَ على تسميتِه بالحركة الكونكريتية[3]، ريادةٌ شاعرية أَدْلَجَتْ حدود الشعر جميعاً، تلك الفاصلة بين الصورة والنص وتلك الفاصلة بين الكلمة والصوت والفاصلة بين المسرح والشعر. فقد فتح شعراءُ مثل بينغت إيميل يونسون (ول. 1936) وسونيا أوكَسون (1926-1977) وإيريك بيكمان (1935-1995) مُصطَلَحَ الشعرِ التقليديَّ على أفكارَ وأساليبَ عَنَتْ الكثيرَ، مرةً أخرى، للشعر الذي كان سائداً في السويد طوال العقود السابقة، وسأعود إلى ذلك لاحقاً. لكنَّ الستّينات كانت أيضاً نقطةَ الإنطلاق لما اصطُلِحَ على تسميتِه بالشعر "البسيط الجديد"، وهو اتِّجاهٌ أدارَ ظهره لنخبويّة الحداثة باحثاً عن ذاته في اليوميِّ الشعبيِّ عوضاً عن ذلك. وحين تفَجَّرَ الإهتمام بالسياسة والإيديولوجيا في نهاية الستينات، على هيئة حركةٍ قوامُها الطلاب والمراهقون، أخذت حركةُ "البساطة الجديدة" منحىً آخرَ تمثَّلَ بالقصيدة التحريضيّةِ التي كانت مُتَصَلِّبةً إيديولوجياً في أغلب الأحيان. وهذه الأنطولوجيا التي نقدمها تبدأ بالمرحلة التي شهد الشعر السويديُّ فيها إحكامَ قبضةِ هذه النزعة الأدبية عليه. ولذلك فإن هناكَ مُبرِّراً للتوقُّفِ لحظةً لنَصِفَ عن قُرْبٍ تلكَ السويد التي رأتْ ولادةَ شاعرٍ يدعى برونو ك. أويَّر، بشِعرِهِ الفوضويِّ المهووسِ بالصورة.

 

تجَنَّبَتْ السويد الإنجرارَ إلى أتون الحرب العالمية الثانية وبالتالي فقد تَمَتَّعَتْ، مع نهاية تلك الحرب، بِسَبْقٍ اقتصادِيٍّ مُعَيَّنٍ مقارنةً بأوربا المُمَزَّقةِ التي نهضت ببطءٍ من تحتِ الأنقاض. بعدَ الحكومةِ الإئتلافية التي حكمت السويد أثناء سِنِيِّ الحرب، شهِدَت السويدُ هيمنةً إشتراديمقراطية[4] حتى سنة 1976 التي فازت بالإنتخابات فيها حكومةٌ مُحافِظةٌ ثلاثيةُ الأحزاب. وبفضل سياسةِ ازدهارٍ عامة واقتصادٍ مُختلَط وأطرافٍ راغبين بالتعاون في سوق العمل ورواتبَ دائمةِ الإرتفاع وإيقاعِ إصلاحٍ سريعٍ كان للسويد في بداية السبعينات أن تصبحَ أكثرَ دول العالم رخاءً. مجتمعٌ متجانسٌ، وعادلٌ نسبيّاً، تعلَّمَ أفرادُه عن تَجرِبَةٍ أنهم بالعمل الشاقِّ والفاعليَّة النقابيّة والدراسات والعمَلِ الديمقراطيّ استطاعوا في الواقع تحسينَ مجتمعِهِم وظروفِهِم المعيشية. ولكنه كان، أيضاً، مجتمعاً وِفاقِيّاً تسودُ فيه مَطالِبُ إتِّباعِ العُرفِ وأن لا تنحرِفَ وأن لا تكونَ مُختَلِفا. ورأى كثيرٌ ممن عاشوا تجاربَ في بلدان ومجتمعاتٍ أخرى، كالشاعر غونّار إيكيلوف، أنّ عقليَّةَ المُجتَمَع بكاملِها كانتْ خانقةً حدَّ الجَزَع. ولأولِ مرةٍ كذلك تشَكَّلَ جيلٌ كاملٌ متأثِّراً بالثقافاتِ الشبابية والموضاتِ العالمية المُتزايدة والمُثُلِ التي انتشرت في العالم والنابِعَةِ من الولايات المُتَّحِدَةِ الأمريكيةِ وإنكلترا في المقامِ الأول. موسيقى البوب. التسريحات غير المُمَشَّطة. روحُ التَّمَرُّد.

 

في خريف 1973 تفجَّرَتْ أزمة النفط، كما أُطلِقَ عليها، فوجدَتْ السويدُ نفسَها مَرمِيَّةً في قعرِ وضعٍ اقتصاديٍّ مُتَرَدٍّ وهي التي كانت تتمتع بمعدَّلٍ نموٍّ قَدْرُه 3,5 % طوالَ عقدين ونصف، لِيَتَصَدَّعَ، على حدٍّ سواء، شعور الناس بأنهم أسيادٌ على أرضهم، والإحساسُ بسويدٍ آمنةٍ مُتضامِنة براغماتِيّة مُستقِلَّة. كانت السويدُ جزءاً من العالم، في سَرّائهِ وضَرّائه، خاضعاً لِقِوىً تفوقُ قُدراتِ الأمة بأضعاف.

كانت حرب فيتنام في آخرِ مراحلها. وربِحَتْ تلك النَّزْعَةُ السياسية التي وَسَمَتْ الفنَّ والأدب والمسرح والموسيقى أنصاراً أكثرَ فأكثر، لكِنَّها إكتَسَبَتْ في الوقتِ ذاتِهِ ملامِحَ عقائديةً أشَدَّ. أيَّدَ كثيرٌ من الكُتّاب والنُقّاد والفنانين الشيوعيةَ السياسية والواقعية الإشتراكية الجمالِيَّة. لم يكن من الغريب أن يُعَنَّفَ شاعرٌ مُتفرِّدٌ لِكونهِ "يمينيّاً" أو لافتقاده روح المُشاركة المُجتَمَعية. وامتلأت الصحف والمجلات السياسية بقصائدَ تمدح الشعبَ والقضيَّةَ والأبطالَ بمنتهى الإخلاص. كانت "الرسالة" و"المفاهيم" التعبيرَيْنِ الشاعِرِيَّيْنِ المِفصَلِيَّيْنِ.

 

لكن المناخ الأدبيَّ إتَّسَعَ للخارِجينَ عن السِّرْبِ[5] كذلك. يوران سونَّفي (ول.1939)، أحد أهمِّ الشعراء السويديّينَ على الإطلاق، زرعَ، بعيداً تماماً عن العقائدية، شعراً سياسياً أثمرَ سنةَ 1975 عن مجموعة المستحيل/ (Det omöjliga)، التي قد تكون أكثر المجموعات الشعرية السويدية قراءةً في القرن العشرين، والتي عكست عبرَ أغنياتٍ شخصيةٍ سياسيةٍ ووجودية كلَّ ما في الحياةِ الحديثة بِحُلْوِها ومُرِّها. شاعرٌ مهمٌّ آخرُ، خارِجٌ عن السِّربِ، هو غونّار هاردنغ (ول. 1940) الذي أصدرَ أُولى مجموعاته سنة 1969 والذي خالفَ كلَّ الموضات بالعودة إلى الحداثةِ الطليعية الرومانسية المُبَكِّرَة. ترجمَ هاردنغ شعراء مثل بلايز سندرار وأبولينير ومايكوفسكي ليُدخِلَ أمثِلَةً أخرى في النقاش الشعري السويدي. وكَمُحَرِّرٍ لأهم المجلات الشعرية الإسكندنافية، ليريكفَنَّن/ (Lyrikvännen)[6] فَقَدْ عنى عَملُهُ الكثيرَ لشعراء ليس أقلَّهم الشعراء الذين تبدأ بِهِمْ هذه الأنطولوجيا.

        في هذا المناخِ السياسيِّ والثقافي كان ظهور الشاعر برونو ك. أويَّر سنةَ 1973 بمجموعته المنشورة استنساخاً أغنيةٌ للفوضوية/ (Sång för anarkismen) التي صدَرَتْ عن دار الشعر الصغيرة المستقلّة التي كانت حميمةَ العلاقةِ بمجلة غورو بَيْبَرز/ (Guru Papers) إستنساخية النشر. ولكنه لم يلبث في السنة التالية أن أصدرَ مجموعته الثانية صورةٌ فوتوغرافية لابتسامة الدمار/ (Fotografi av Undergångens Leende) عن إحدى دور النشر الكبيرة. تفتَتِحُ المجموعةَ قصيدةٌ عنوانُها عبارةُ رامبو المشهورة "أنا آخرُ غيري". وهذه الإشارةُ سِمةٌ لديه، فقد إعتاد برونو ك. أويَّر تضمينَ أشعارِ الغرباء والملعونين، والظهورَ كعرّافٍ ونبيٍّ تبعاً للتقليد الكبير الذي انتهجته السرياليةُ والشعرُ البوهيميّ الأمريكيّ ولوجاً في ميثولوجيات موسيقى الروك. كما أصدر بالإشتراك مع إيريك فيلكَسون (ول. 1950) كِتاباً واجهَ نقداً لاذعاً احتوى نصوصاً مُتَرجَمَةً لِبوب ديلان.

        بعبارةٍ مركزيةٍ فقد كان برونو ك. أويَّر أقربَ إلى ثقافة الروك منه إلى الثقافة الأدبية. وقد نالَ الشهرةَ حينَ قامَ بتصريف مبلغِ منحةٍ حصل عليها سنة 1975 إلى عُملَةٍ معدنية ليوزِّعَهُ في وسط ستوكهولم، كما وُفِّقَ في تثبيت صورَتِهِ كمُخَرِّبٍ ناطِقٍ بالحقيقة لا يُمكنُ ترويضُه، ملاكاً أسْوَدَ، وراقصَ مَوْت. وكان من بين وسائلِهِ لتحقيق ذلك أنه طَوَّرَ أسلوبَ إلقاءٍ إيحائيٍّ مُتَفَرِّدٍ، وما زالت أماسيهِ وقراءاتُهُ حتى الآن تجمع جمهرةً واسعةً، كما اعتادَ، عندَ صدورِ كتابٍ له، أن يقومَ بجولةٍ من القراءات تمتلئ له فيها النوادي والمسارح في البلدِ بأسرِه.

        وبعدَ سلسلةٍ من المجموعات التي صدرت خلال السبعينات إلتزَمَ برونو ك. أويَّر الصمتَ قُرابةَ عَقدٍ من الزمن. سنةَ 1990 صدرَتْ مجموعة بينما السُّمُّ يسري/ (Medan giftet verkar) التي تُشَكِّلُ ثُلاثيَّةً مع الكلمة الضائعة/ (Det förlorade ordet) (1995) و ضبابُ كُلِّ شيء/ (Dimman av allt) (2001). ومن الملائمِ الحديثُ عن أويَّر شاعراً ناضجاً هنا، حيثُ استحالَ كثيرٌ من الإيحاء المسرحيِّ المتكَلِّفِ أحياناً إلى إلقاءٍ أقربَ للخامِ وأكثرَ بساطة. وكما في السابق فأشعارهُ تتحرَّكُ غالِباً في عالمٍ سحرِيٍّ ليسَ فيه حدودٌ واضحةٌ بين الحلم واليقظة، الواقعِ والخيالِ، الذاكرةِ والرؤيا. وكما في السابق أيضاً تدورُ الأشعار حولَ صوتٍ واحدٍ وأنا واحدة، وتخلُقُ بدقَّةٍ كبيرةٍ نوعاً من الصورِ المكانِيَّةِ أو الحالات أو الكوابيس أو الذكريات التي تتركُ القارئَ وحيداً خائفاً مع خياله.

        ومن أوساطَ ثقافيةٍ قريبةِ الصلةِ خرجت الشاعرة إيفا رونيفيلت، التي ظهرَت في الثانية والعشرين من عمرها بروايةٍ إتَّجَهَتْ بعدها بصورةٍ شبه نهائيةٍ لكتابةِ الشعر. جاءت شهرتُها سنة 1981 مع صدور مجموعة آب/ (Augusti)، وكما هي الحالُ مع أكبر شعراء هذه الأنطولوجيا سناً، إيفا ستروم (ول. 1947)، فقد طوَّرَتْ إيفا رونيفيلت منذ بداياتها أسلوباً من الصعبِ نسبتُهُ إلى نزعةٍ أو موضةٍ ما. هنالكَ حِسِّيَّةٌ في اللغة، حسِّيَّةٌ تدفعني أحياناً للتفكير بالكلمات معزولةً، في قصائدها المُتْقَنَةِ، وكأنها حيواناتٌ تامّةٌ في وُجُوداتِها، غيرُ متَعلِّقةٍ بشيء ومتكاملةٌ معاً، ولكنها كذلك مُتَنَبِّهةٌ وجديرةٌ بالمُداعبة. لقد حظي بعضُ مُجايِلي إيفا رونيفيلت بعددٍ أكبرَ من المقلِّدينَ مما حظيت هي بهِ ولذا فقد يَكُوْنونَ عنَوا لتطوُّرِ الشعر السويديِّ شيئاً أكثَرَ منها. ولكنَّ أحداً لم يملُكْ ما تملُكُهُ إيفا رونيفيلت من تَطَوُّرٍ منطقيِّ الحصول وأسلوبٍ لا يُقَلَّد.

 

سنةَ 1975 خَرَقَ بعضُ الفنانينَ والشعراءِ والكُتّابِ والباحثينَ في الأدب الموضةَ الفكريّةَ السائدة فأسَّسوا مجلَّةً فكريَّةً نظريّةً مُتَعَجرِفةً تحت عنوان أزمة/ (KRIS) كانَ مثالُها إلى حدٍّ ما مجلةَ تيل كيل/ (Tel Quel) الفرنسية. تَمَّ هنا، وعلى جبهةٍ عريضة، تقديمُ ما اصطُلِحَ على تسميتِهِ فيما بعد بالفكر ما بعد البنيويّ. تمَّ التعريف بجاك ديريدا وبول دومان لِيَتَعَرَّفَ المُفَكِّرُ السويديُّ بجِدِّيَّةٍ على التفكيكيّة. ولكنَّ التقليدَ التمَظهُرِيَّ الهرمنتيكيَّ في الفلسفةِ الأوربية والنقدِ وجدَ عبرَ أزمة مكاناً في المُعلَنِ الأدبي السويدي. هنا تجانَسَ مارتن هايدغر وميرلو بونتي وغاستون باكيلارد مع هانس جورج غادامر وفيرنر هايمِشَر وجون ستاروبنسكي. وكانَ اهتمامُ أولئك الفلاسفة والنُّقّاد، الذين تم تقديمهم، بالشعر ذا دلالةٍ، كما ضَمَّت المجلَّةُ أسماءَ شعريةً مثيرةً للإهتمام حقّاً. ستيغ لارشون (ول. 1955) وأندِرش أولسون (ول. 1949). من هنا خرجت شاعرةٌ لم تَتَضَمَّنها هيئةُ تحرير المجلة، لكنها كانت تتحرَّكُ في أوساطِها، ستعني الكثيرَ بعدها للشعر السويدي. كاتارينا فروستنسون.

        أصدَرَت فروستنسون مجموعتها الأولى غيرَ الناضجةِ في الما بَيْنَ/ (I mellan) عن دارِ نشرٍ صغيرة، ولكنَّها أظهَرَتْ بمجموعتها الثالثة الآخر/ (Den andra) (1982) والتي صدرت عن دار نشرٍ كبيرة، أنها شاعرةٌ سوف تتركُ أثراً وتُغَيِّرُ، حقيقةً، التقليدَ الشعريَّ السويدي. للكلمةِ عند كاتارينا فروستنسون كذلك أهمِّيَّةٌ مركزية. بجملةٍ مركزيةٍ يمكن القولُ إنها، وعبْرَ بداياتها على أقلِّ تقدير، تعملُ على تأسيس علمِ دلالاتٍ بديل. إنها تستخرجُ الكلماتِ من معانيها وتتركها تولَدُ من جديد تحتَ حمايةِ تعبيرِها الشخصيِّ، كما أنَّ لأُسلوبها في العملِ الصُّوَريِّ على قصائدها أهمّيةٌ موازية. يمكن القول، هنا، إنها تتبع تقليدَ كونكريتيّي الستينات، ولكنَّ نُثارَ كلماتِها على صفحةِ الكتاب لا يُقَيِّدُهُ معيارٌ مُحَدَّد، فهي، على العكس، تشتغلُ كرسّامٍ تجريديٍّ في موازنتِها تأليفيّاً بينَ ظاهرِ العبارةِ ومُختَلَفِ درجاتِ اللونِ المُتَناقِضة. سنةَ 1992 تمَّ اختيارُها عضوةً في الأكاديمية السويدية لتصبِحَ أصغرَ عُضوٍ يدخل الأكاديميةَ منذ تأسيسها. لقد اقتربَتْ مؤلَّفاتُها الناضجةُ، التي أُخِذَتْ منها بعض القصائد لتنتظمَ في هذه الأنطولوجيا، من الصوتِ أكثرَ فأكثرَ. لا أعني "الصوتَ الشخصيَّ" بالمفهومِ الحداثويِّ، بل الصوتَ كظاهرةٍ طبيعيةٍ ومادّة. بلى، قد يكون الحديثُ مُلائماً تماماً عن تَمَظهُرِ[7] الصوت إرتباطاً بشِعرها المُتأخِّرِ الذي يقترب من الدراميّة في العديد من الصُّوَر. للغريبِ والمجهولِ والمَيِّتِ، حتّى، سُكنى أكبرُ، في تلك الأصواتِ التي تبحثُ فيها وتتركها ترِنُّ، مِن الموضوع الرومانسيّ. في شِعر كاتارينا فروستنسون يتكلَّمُ تَّشَرُّدٌ أبعدُ من العاطفِيَّة والحنين. تشرُّدٌ وجوديٌّ مشدودٌ إلى الكَيانِ الإنسانِيِّ الخام.

 

جاءت ثمانينات القرن الماضي لتصبحَ العصرَ الذهبيَّ للشعر السويدي. فلَمْ يبرُزْ جيلٌ من الشعراءِ، مُتَعَدِّدُ الوجوه ومُعَقَّدٌ شعريّاً، كالذي برز حينها على المشهد الشعريِّ السويدي منذُ بروز الحداثةِ في الأربعينات. إن السببَ في ذلك، إلى حدٍّ ما، يعودُ بالتأكيد إلى مركزية موقع الشعرِ، كنوعٍ أدبيٍّ، بالنسبةِ للتفكير وللنِّقاشِ الأدبيِّ المُعْلَنِ على حدٍّ سواء. كان الشعرُ ببساطةٍ مركزيّاً، محلَّ نزاعٍ، يُؤَوَّلُ ويُناقَشُ بطريقةٍ لم تشهدها السويدُ سابقاً أبداً، ربما، خلالَ القرن العشرين. وقد عَنَتْ الثمانينات كذلكَ إنتشاراً عالمياً أوضحَ وتنظيراً أقوى في الأدب السويدي. إشتراطاتُ الإتِّفاقِ الجَمْعِيِّ وأن لا يحاولَ أحدٌ جعلَ نفسِهِ "أكثر" من غيرهِ وأن يكون مفهوماً وعقلانياً، تلكَ الإشتراطاتُ التي طَغَتْ بِصِبْغَتِها على مشاريعِ القرنِ العِشرينِ المُجتمَعِيَّةِ، أصبَحتْ كُلُّها، مؤقَّتاً، مَحلَّ تساؤلٍ خلال الثمانينات. فبرزَ صفٌّ طويلٌ من شعراءَ شديدي الإختلاف فيما بينهم.

ظَهَرَ يوهان نوردبَك (ول. 1957) بمجموعتهِ الأشجار تهبط/ (Träden går ned för landning) سنةَ 1982، زارعاً أدباً مَجازِيّاً على خُطى غونّار هاردنغ. في السنةِ نفسِها ظَهَرَ أولف إيركسون بشِعرٍ مُختَلِفٍ تماماً. كانَ إيريكسون، الذي يكتبُ كذلك الروايةَ والقصَّةَ القصيرةَ والمقالَةَ، مُستَفِزّاً على الفَوْرِ بقصائدِهِ الحسِّيَّةِ المُجادِلَةِ فَلسَفِيّاً. كائناتٌ مِن عُشْب/ (Varelser av gräs)، ذلك هو عنوانُ المجموعة التي يمكن فيها لَمْسُ اقتباساتٍ جريئة عن أمّهاتِ الكُتُبِ في الشعرِ والفلسفة. يَبْرَعُ أولف إيركسون في الإشارةِ الضِّمنِيَّةِ والتَّلميح. يُزَوِّدُ قصائدَهُ عن طيب خاطِرٍ بالمُلاحظاتِ ولا يخشى مُطالَبَةَ قارئِهِ ببذلِ جهودَ مُضنِيَةٍ. مع ذلكَ فَقَدْ أصبحَ إيركسون،مع الوقتِ، أبسَطَ فأبسَطَ في إلقائه. لَم تَزَلْ المُطالَبَةُ قائمةً. لكنَّ القصائدَ لا تتزَخرَفُ بفخامةِ النصوص الإعتراضية والمعرفة الجَلِيَّة كما في السابق.

 

سنةَ 1985 ظَهَرَت آن يادرلوند (ول. 1955)، التي قد تكون أكثرَ شعراءِ العَقْدِ نفوذاً، بمجموعتِها مدينة أعلام الزينة/ (Vimpelstaden). وكانَ لِحقيقةِ كونِ مجموعَتِها مُزَوَّدةً بشعارِ لودفيغ فيتغينستاين أنْ تُكسِبَ شِعرَها سُمعَةَ كَوْنِهِ من الوزنِ الثقيلِ فِكريّاً، ولكنَّ حقيقةَ الأمر هي أنَّ شعرَها يُمكنُ وصفه بأيَّةِ صفةٍ عدا كونِهِ دِماغِيّاً[8]. إن فنَّ الكتابةِ لديها يعتمد، على الأرجح، على حساسيةٍ بالِغةٍ لِمُستوَياتِ معاني اللغةِ كُلِّها. سَبَّبَ كتابُها الثاني ما كانَ مَرَّةً مَرْجاً/ (Som en gång varit äng) (1989) أكثَرَ الجدالاتِ الأدبيَّةِ حَيَوِيَّةً في الثمانينات. رأى بعضُ النُّقّادِ أنَّها زرَعَتْ اللا وضوحَ بِغَنَجٍ، بينما حاجَجَ آخرونَ دفاعاً عن أنَّها تُمَثِّلُ أسلوباً نسائيّاً مُعَيَّناً في الكِتابة. كانت الثمانينات عقداً اتَّخَذَتْ فيه الحركةُ النِّسائية، التي كانتْ قويّةً في السويد أمَداً طويلاً، تَوَجُّهاً نَظَرِيّاً على الصعيد الرسمِيِّ في السويد. كتَبَ العديدُ وتأمَّلوا إنتقاداً، من جهةٍ، للهيكليّةِ البَطرِيَركِيَّةِ في تأريخ الأدب وللتشكيل القَداسيِّ، وبأسلوبٍ شاعِرِيٍّ من جهةٍ أخرى حولَ فِكرةِ لُغةٍ شعريّةٍ نسائيةٍ مُعَيَّنة. وقد أجَّجَتْ كِتاباتُ كاتباتٍ ومفَكِّراتٍ كَجُوليا كريستيفا وهيلين سيكسوس ولُوس إريغاراي إوارَ تلكَ النِّقاشاتِ. أشارَ الجدَلُ المُسَمّى باليادرلونديِّ على أيةِ حالٍ إلى أنَّ هناكَ مُعارَضةً للشعر الذي طغى في الثمانينات، للقصيدة النَّظَرِيَّةِ المُعتَدَّةِ بالنفسِ حَدَّ التَّبَجُّحِ رُبَّما. كانَ للمُطالبَةِ السويديةِ القديمةِ بالوضوحِ، والقَبولِِ لدى العُمومِ، ومُعاداةِ النُّخبَوِيَّةِ أنصارٌ أكثَرُ مما بالإمكانِ تَصديقُه. ورُبَّما تَعِبَ الكثيرُ كذلكَ مِن ما اعتبروه نزعةً نحو "L’art pour l’art"[9] لدى العديد من الشعراءِ والنُّقّادِ. ظهرت الرغبةُ من جديدٍ في المُشاركةِ الإجتماعيةِ والتجاربِ الحياتيَّةِ المُشارِ إليها بوضوحٍ في القصيدة.

 

سنةَ 1985 ظَهرَ آرنه يونسون، لكِنَّ شُهرَتَهُ الحقيقيةَ جاءَتْ سنةَ 1988 بمجموعتِهِ الحسِّيَّةِ المُتَدَفِّقَةِ فِردَوسٌ، محشورة/ (Ett paradis, trängt). إستَمَرَّ يونسون يكتُبُ شِعراً حميميّاً كثيفَ الصُّوَر لائحاً كواحدٍ من أهمِّ الشاعريّينَ المُغَرِّدينَ خارجَ السِّربِ في السويد.

كذلك فإنَّ كريستيان لوندبيرغ هو أحدُ هؤلاء، على أنَّهُ بدأ عضواً في جماعةٍ شعرية. تلك الجماعةُ التي بَرَزَتْ بِهَرَجٍ ومَرَجٍ نهايةَ الثمانيناتِ وأطلَقَتْ على نفسها اسمَ "زُمْرَة مالمو"/ (Malmöligan) وتكوَّنَتْ من أربعةِ شُعراءَ أصبَحَ أحدُهم فيما بعدُ أكثَرَ المُخرِجينَ السينمائيينَ السويديينَ ذُيُوعَ صِيتٍ رُبَّما[10]. كانَ كريستيان لوندبيرغ غزيرَ النِّتاجِ خلال عقدِ التسعيناتِ وبدايةِ الألفيّةِ الثالثة. تنطلقُ أشعارُه غالِباً من بيئةٍ مادِّيَّةٍ، شُقَّةٍ أو ناصِيةِ شارع، لكنَّها تتعرَّجُ بعدَها، إنعكاسيَّةً طَيِّعَةً للغناء لِتَلِجَ الأسئلَةَ الوجودِيَّةَ الكُبرى. ولا يَندُرُ أن تُجاهِرَ قصائدُهُ بعقيدةٍ مسيحيَّةٍ، الأمرُ الذي يُعَدُّ شديدَ الغرابَةِ في الأدبِ السويديِّ الذي يكادُ يكونُ مُعَلْمَناً[11] تماماً. وقد يكونُ ذا مغزىً هنا القولُ إنَّ ظُهورَ الشاعرةِ كريستينا فالكنلاند، التي تتحركُ أشعارها هي الأخرى في عالَمٍ مسيحيِّ الرّمز والصُّوَرة، جاءَ تقريباً في الفترة نفسِها التي ظهرَ فيها لوندبيرغ. وخلافَ زميلِها تَنْجَرُّ فالكنلاند مع ذلك بقوةٍ نَحوَ المُثْقَلِ والحِرَفِيِّ والمُتَحَدّي. هذا ما لا تفعلُهُ قصائدُ لوندبيرغ، فقد أخذَتْ مؤلَّفاتُهُ، التي تمتَدُّ كمؤَلَّفاتِ فالكنلاند إلى أكثَرَ من نوعٍ أدبيٍّ من المقالات الصِّحافِيَّةِ إلى رواياتِ الجرائم، بُعْداً نَقْديّاً للمُجتَمَعِ يزدادُ اتّساعُهُ مع الوقت. هكذا وبأشكالَ عديدة يعكسُ تَطَوُّرُ لوندبيرغ النَّزعَةَ العامَّةَ لدى الشعراءِ السويديينَ خلالَ العقدينِ الأخيرَينِ.

 

كانَتْ التَّغَيُّراتُ الحاسمة التي مرَّتْ بها أوربا والعالم نهايةَ الثمانينات وبدايةَ التسعينات أهَمَّ عَوامِلِ هذه النَّزعةِ بالطَّبع. ذلك السِّياقُ الذي يُرمَزُ إليهِ كِنايَةً بِـ "سُقوط الجدار".

لقد كانَ تقسيمُ العالمِ إلى كُتَلٍ إيديولوجيةٍ أمراً مفروغاً منه بالنسبةِ لنا، نحنُ المولودينَ في الخمسينات والستينات، وكأنَّ ذلك من قوانين الطبيعة. كانت زيارةُ بلدانِ أورُبّا الشرقيةِ، جيرانِنا، ممكنةً بلا شك، لكنَّ التبادُلَ كانَ ضئيلاً ومُراقَباً. وحين سقَطَ الجدارُ أُخِذنا على حينِ غِرَّة. وجدنا هنا عالَماً كاملاً من بَشَرٍ وأفكارٍ وكُتُبٍ وحَكايا ظننّاها ستظَلُّ مُخَبَّأةً عنّا داخِلَ حصنِها. كانت حرِّيَّةً فريدةً تلك التي انفتحت. وبدأ كثيرٌ من الشعراء الشباب يتطلَّعونَ شرقاً، ويتعلّمون اللغاتِ السلافِيَّةَ ويسافرون ويقومون بمشاريعَ تبادُلِيَّةٍ مع دولٍ على رأسِها روسيا ودول البلطيق. لكنَّ بدايةَ التسعينات عَنَتْ كذلك ما أُطْلِقَ عليهِ حَرْبُ الكويت والحروبَ في يوغسلافيا السابقة التي أجبَرَتْ الشعراءَ على إتِّخاذِ مواقفَ سياسيةٍ وأخلاقية. نادى العالمُ الشعرَ لكي يَصِفَهُ فَيُفْهَمَ من خلالِه.

 

في اليومِ نفسِهِ، الذي هَدَّدَتْ فيه الولاياتُ المتحدة بالهجومِ على العراق إن لم يَترُكْ الكويتَ، نشرتُ قصيدةً كبيرةً في إحدى كُبْرَياتِ الصُّحُفِ السويدية. إنتَظَمَتْ تلك القصيدةُ فيما بعد ضمن قصائد مجموعتي أنَّ ذلكَ من نارِك/ (Att det ur din eld) (1995). لَمْ أعرفْ بالضبطِ لِمَ كانَ ذلكَ بهذه الأهميَّةِ بالنسبة لي. كنتُ قبلَها دائمَ الدعوةِ إلى موقفٍ مفادُهُ أنَّ لَدى من يريدُ الظهورَ بمظهَرٍ سياسيٍّ حُقولاً عديدةً أكثرَ مُلاءَمَةً من حقلِ الشعر كي يعملَ فيها. وقد يكون بالإمكانِ القولُ إنَّ نشرَ القصيدةِ كانَ أمراً نَمَطِيّاً في وَقتِه. ومنذُ بدايةِ عقد التسعينات بدأتْ مسألةُ دورِ الشعر تَسِمُ العديدَ من النتاجاتِ الأدبية. وتساءلَ الشعراء: أيكفي أن يَزيدَ الشعرُ العالَمَ جمالاً وصِدقاً وتركيباً؟ أَفَلا يجبُ عليه كذلكَ أن يفعَلَ شيئاً بقارئه؟ يجب رؤية هذا التساؤل على ضوء الإستهلاك المتَسَلِّطِ الذي هيمنَ وما زال يهيمن على المجتمع السويدي. بدايةَ التسعينات في السويد رُوِّجَ مُصطلحُ "صناعة التَّجربة". بمعنى أن الأدب كذلك كان مُنتَجاً مُتعَوِيَّاً، سلعةً يَستمتعُ بها المُستهلكون ومادّةً للربح بالنسبةِ "للمُنتِج". وقد خضع الإعلام عن إرادةٍ لهذا الخِطاب الجمالي الإستهلاكي. لم تكن الصُّحُف في المقامِ الأول مكاناً تنعكس فيه الحقيقة، بل مُنتَجاتٍ من المفتَرَضِ أن تُوَلِّدَ أرباحاً لأصحابِ الأسهم.

كان لهذا التَّوَجُّهِ المُجتَمَعِيِّ معنىً لا يُستَهانُ به للأدبِ في العالمِ بأسرِهِ، وفي السويدِ كذلكَ بالطبع. وقد نَمَت بقوةٍ أنواعٌ وأشكالٌ أدبيةٌ جديدة تُلبّي توقُّعاتِ القارئ. رواياتُ الجرائم. الروايات التأريخية. "تشِك لِت"/ (Chic lit) [12]. أشكالُ السِّلَعِ كثيرةٌ في سوق الأدب هذه الأيام. لكنَّ الشعرَ فنٌّ  "ما قبلَ رأسماليّ". ولقد تَبَيَّنَ أنَّ من المُحالِ تقريباً أن يُعامَلَ معامَلَةَ سلعةٍ تجارية. يتوجَّه الشعرُ في المقامِ الأول إلى الذاكرة راغِباً في أن يُقرَأَ وتُعادَ قراءتُهُ مرّاتٍ عِدَّة. لو أن أقسامَ التوزيع في دور النشر، لا سمح الله، وجدَتْ طريقةً تأخذُ بها مقابلاً كُلَّما أعادَ أحدُهم، سواءً مِنَ الذاكرةِ أو من كتابٍ على الرف، قراءة قصيدةٍ ما، لكان ربحُها من ذلك سيتجاوز بكل تأكيدٍ ربحَها من رواياتِ التشويقِ وكذلك كُتُبِ الطبخِ في قوائم الحَجْز. ولكنَّ الشعرَ أيضاً فنٌّ يجبُ أن يُقرَأَ بتأنٍّ وعلى مدىً طويل، أمرانِ على الضِّدِّ من منطق تَوَسيع الإستهلاك. لهذا كُلِّهِ وأكثرَ منه، كانَ على الشعراءِ بدايةَ التسعيناتِ أن يحاولوا صياغة استراتيجياتِ دفاعٍ وأساليبَ هجوم إنتقاديةٍ ضد الأدبيات الجماليّة الإستهلاكِيَّة المُنَمِّطة. ظهرَ نقدٌ إعلاميٌّ مُجتَمَعيٌّ، لا كَفِكرٍ أو دافعٍ وحسب، بل في الحرفة الشعرية ذاتِها. أصبحَ من الممكنِ فجأةً للكتابةِ العَسِرَة أن تظهرَ، في حدِّ ذاتها، بمظهرِ فعلِ المُعارضة السياسية. إتَّخَذَ نقدُ الإيديولوجيا تعبيراتٍ لِسانِيَّةً تماماً. بدأ الشعراء يَلتَقِطونَ من تيّار الإعلام. حَرَّفوا، أسهبوا، زرعوا تقنيات عَرَّتْ البُنى الإيديولوجية المعاصرة المُحَصَّنة. نمت هذه النَّزعة بِقُوَّةٍ في الشعر السويدي منذ ذلك الحين. سأعود لذلك حالاً[13].

كان الشعرُ خلال التسعينات، رغمَ ذلك، متعددَ الوجوه. إتِّجاهٌ هامٌّ كنتُ أُسَمّيهِ "حِواريّاً"[14] في سياقاتٍ أُخَرَ، أساسُهُ موقف الشعر المُتعارَفُ عليهِ كمنطقةٍ للصدق. في القصيدة يمكنُكَ أن تكونَ جادّاً بشكلٍ من المُحالِ تحقيقُهُ في أيِّ سياقٍ آخر. حين تَجِدُّ الصحف في جني المال، وحين تُوسَمُ السِّياقاتُ الأكاديميةُ بالإختلاف المُفارَقاتِيِّ، وحين تكون الرواياتُ سلعاً تجاريةً، بلى، هنا يبقى الشعر تلكَ المنطقةَ التي يُمكنُكَ فيها أن تكونَ صريحاً كما كانت سافو يوماً ما. قد تكونُ ماري لوندكفيست (ول. 1950) في مُقَدِّمَةِ الشعراء الحِواريِّينَ، وهي التي ظهرتْ بالمجموعة المُحتَفى بها أدُورُ وألَملِمُ حديقتي من أجل الليل/ (Jag går runt och samlar in min trädgård för natten) (1992). أي أنها ظهرت في مرحلةٍ متأخرةٍ من العمر نسبيّاً، و يَتَّسِمُ شِعرُها أيضاً بتجربةٍ ناضجة ولغةٍ عفوية. أما بَتَّر ليندغرين (ول. 1965) فَيُمَثِّلُ فرعاً آخرَ ساخراً لا يندرُ أن يكونَ كوميديّاً من الشعر الحِواري. جعلَ منهُ ظهورُهُ بمجموعته "بَلَدٌ ناءٍ[15]"/ (Långbortistan) (1994) مُمَثِّلاً لِما سُمِّيَ في السويد بـ "الجيل الساخر". تسميةٌ قصَدَت الشبابَ الذين رأوا الإيديولوجيات تموت عندَ "سقوط الجدار"، والذين لم يؤمنوا بِقِيَمَ ثابتةٍ واتخذوا من الفكرة النيتشويّةِ: "الحقيقة جيشٌ من التعابير الصُّوَرِيَّة" نقطةَ انطلاقٍ لهم.

        كانَ الشاعرُ لِي لِي (ول. 1961) قد درَسَ السويديةَ في الصينِ، بلدِهِ الأصليِّ، وكانَ ظُهورُهُ المُبَكِّرُ بمجموعَتِهِ الشِّعريَّةِ نَظرَةٌ إلى الماء/ (Blick i vattnet) حَدَثاً مُثيراً سنةَ 1989. إنَّ شعرَ لي لي ذاتيُّ الإنعكاساتِ ومَنقوشٌ صُوَريّاً في آنٍ واحد. لقد قلَبَ حقيقةَ أنَّهُ لا يَكتُبُ بلُغَتِهِ الأم (وَحَسبُ) إلى إحساسٍ مُمَيَّزٍ، كما هوَ دائمُ الإجهادِ، باللُّغةِ السويدية. وقد طَوَّرَ، مثلَما هي حالُ ماري لوندكفيست، مَهارَةً صُوَرِيَّةً فائقَةً. هو الآنَ شاعرٌ مُحتَفىً بِهِ في الصينِ كذلك. وحَتّى مَعَ أنَّني لا أتَكَلَّمُ الصينيةَ فأغلَبُ ظَنِّي أنَّ لي لي قد جعلَ من تلكَ الفَسْحَةِ بين اللغات، ذلك الوطنِ الخالي للمنفى، مَمْلَكتَهُ الشعريةَ المُمَيَّزَةَ في اللغتين الصينيةِ والسويدية.

إلى جانِبِ الشعر الحِواريِّ التَّوَجُّهِ، زُرِعَ في السويدِ خلالَ التسعيناتِ أيضاً نَظْمٌ إدراكِيُّ التَّوَجُّه. أهمُّ أسمائِهِ، بلا تَرَدُّدٍ، أوسا ماريا كرافت. أصدَرَتْ أولى مجموعاتِها سنةَ 1997 وفي السنةِ التالية صدرت مجموعتُها إكسليبرِس/ (Exlibris)[16] التي تُوازِي بأسلوبٍ غَنيٍّ بالحِسِّيَّةِ بينَ خَلْقِ الطِّفْلِ وخَلْقِ الكتاب. سنةَ 1999 أصْدَرَتْ مجموعتها الإملاء/ (Diktaten) التي، إذا ما قُرِئَتْ من جهةٍ، تَصِفُ إنشاءَ جِسْر، أما إذا قُلِبَ الكتابُ وقُرِئَتْ من الجهةِ الأخرى فستسردُ فعلَ حبٍّ إباحيّاً. في وسط الكتاب، تلتقي المُطَوَّلَتانِ الشعريَّتان. لكنَّ إدراكِيَّةَ كرافت لا تتركُ أبداً ما هو شاعريٌّ تقليديّاً. فهي تكتُبُ دائماً شعراً مُمتعاً، مليئاً بالمشاعرِ وعن تجربة.

 

سنةَ 1999 ظَهَرَ أيضاً العدد الأول من مجلةٍ سيكونُ لها تأثيرٌ مُهِمٌّ في الشعر السويدي في العقدِ الأول من الألفيةِ الثالثةِ. بالإمكانِ قراءةُ إسم المجلَّةِ، OEI، كَحُروفِ العِلَّةِ في كلمة poesi[17]. وبصُوَرَ شَتّى، على المرء أن يرى المجلَّةَ إمتداداً للإهتمامِ الثمانينيِّ بالشِّعر وفلسفةِ الشِّعرِ. لكنَّ تَوَجُهَها الرئيسيَّ ليسَ التفكيرَ القارّيَّ بِعينِه[18]، بل نقاشاً مُعَرَّفاً على نطاقٍ ضيّقٍ يتَّخِذُ من الشعر الفرنسيِّ الطليعيّ والحركة الأميركية نقطةَ انطلاقٍ له، بدأَ في السبعينات على خُطى البُنيَويينَ وأُطلِقَ عليهِ "الشعر اللُّغَوِيّ" / "Language poetry". كانَ من ضمنِ هيئةِ تحريرها، عدا المختصّينَ بالأدب، بعضُ الشعراء كذلك. كانتْ ماري سيلكَبيري (ول. 1961) قد أصدَرَتْ مجموعَتَها الأولى الصّارمة تأتي وتذهب/ (Komma och gå) سنةَ 1990. وقد مَرَّ النُّقّادُ بهذه المجموعةِ مُرورَ الكِرام. لكنَّ المجموعةَ الثانية الحمراء السمعيّ/ (Akustisk Alhambra)[19] (1994) عَنَتْ بُروزاً فوريّاً. ومنذُ ذلك الحين أصدرَتْ إضافةً إلى ذلكَ ثلاثَ مجموعاتٍ إتَّسَمْنَ جميعاً بتَّحَكُّمٍ صارِمٍ، وبالدِّفاعِ عن الكَتِيمِ وكذلك بإيمانٍ عميقٍ بقيمةِ صدقِ الشِّعر المُتَفَرِّدةِ. وكأنَّها مالارميه مُتأَخِّرٌ بإصرارِها على تَمَيُّزِ الشِّعر وقد ألهَمَ شِعرُها العديدَ من الشعراءِ الأصغرِ سِنّاً.

        كانَ لارش ميكائيل رآتّاما أحدَ الشعراء الآخرينَ في هيئةِ التحرير. وقد بَكَّرَ هو الآخرُ في الظُّهور، سنةَ 1989، لكنَّ بروزَهُ جاءَ مع مجموعته لا شيءَ آخرَ (مادّة خام)/ [Ingenting annat (materia)] سنةَ 1996. قد يكونُ رآتّاما، وهو مهندسٌ معماريٌّ ومُنَظِّرٌ في الهندسة المعمارية كذلك، النّاقِدَ الأشَدَّ في الإعلامِ والسياسةِ بينَ الشعراءِ السويديين. وهو يعمَلُ غالِباً على التَّضمِينِ والإلتقاطاتِ وتقنياتِ الإجتزاء[20]. وما مجموعتُهُ الكبيرةُ أساطيرُ القِدِّيسين: نسيج/ (Helgonlegenderna: väv) (2000) في أكثرِها إلاّ جِدارِيَّةَ تَضمِينٍ، تُغَطّي السويدَ المعاصرةَ، طويلَةً مليئةً برسومِ غرافيتي[21] ومواجيزِ أنباء. وقد "أعادَ كتابةَ"[22] حُلِيِّ أنطولوجيّاتٍ سويديةٍ في مجموعةِ قصيدة سويدية/ (Svensk dikt) (2006).

        وكما فعلَتْ سيلكَبيري فَلَقد ترَكَ رآتّاما فيما بعد هيئةَ تحرير المجلّة. وتحتَ مظَلَّة المجلّة وُلِدَ كثيرٌ من الشعراءِ المهمّينَ الآخرين. لقد مَثَّلَت مجلَّة OEI، بِحقٍّ أو بغَير حقٍّ، أحَدَ قُطْبَيْ التَّطَرُّفِ في الجدال الشِّعريِّ الذي إنهارَ مَدّاً وجَزراً في السويد خلال العقد الأول من الألفية الثالثة. لقد ثارَ هذا الجدالُ بينَ من أُطلِقَت عليهم تسميةُ "مادِّيِّي اللغة" وبينَ التقليديينَ أو الرومانسيين ولم يندُرْ أن يكونَ مفهومُ المجاز مركزاً للسجالات.

        قادَ مادِّيّو اللغة وشعراء مجلة OEI بعناد فكرةَ أن على الشعر اليومَ أن يصوغَ مقاومَتَهُ في اللغةِ ذاتِها. إنَّ نقداً حقيقيّاً للثابِتِ يجب أن يقومَ في اللغةِ كمادة، تلك الواسطة التي تُصاغُ من خلالها أفكارُنا وخواطرُنا. بهذا تَمَّ عقدُ الوِثاقِ مع الحداثةِ المُبَكِّرة، مع دادا والسوريالية، وكذلك مع كونكريتيَّةِ الستّيناتِ السويدية. ماتَت الذاتُ الرومانسية. الحقيقة جيشٌ من التعابيرِ الصورية. إنَّ من يقفُ في الساحةِ مُجاهِراً بآرائهِ المثيرة للجدل يجعلُ من نفسه في الواقع عُرضَةً لمصالحَ مجهولة. إنَّ الشعرَ النَّقدِيَّ الحقيقيَّ يجبُ أن يُناورَ على مستوى الخِطابِ لا الآراءِ. على ضوء هذا الموقف أصبح المجازُ، حصراً، رمزاً لفنٍّ شعريٍّ ساذجٍ سياسيّاً وشِعرِيّاً. بمعنى أنَّ المجازَ يعكسُ ثقةً زائفةً بالتشابُه. إنَّ المجازَ لَيقومُ على علاقة التشابُه. في المِثالِ الكلاسيكيِّ "الإنسانُ ذئب" يُشَبَّهُ الإنسانُ بالذئب والعكسُ صحيح. ولكنَّ كُلَّ علاقةِ تشابُهٍ، طِبقاً لما يقولُ مادِّيّو اللغة، مشكوكٌ بها من حيثُ أنَّها تُصالِحُ ما لا يقبلُ المُصالَحَة. الهويةُ، بالنسبةِ لهم، بنْيَةٌ إجتماعيَّة. وكَتَبِعَةٍ للتفكيكية يكون التَّوَجُّهُ، بدلاً عن ذلك، نحو الإختلاف والآخَرِيَّة[23]. يُصبِحُ المجازُ، والحالُ هذه، تعبيراً عن وعيٍ زائف.

        إعتادَ النُقّادُ الكُثْرُ لمادِّيّي اللغةِ على الإدّعاءِ  أن شعراً بشروطَ كهذه يجبُ تهميشُه. لن يكونَ بمستطاعِهِ أبداً الوصولَ إلى القُرّاءِ الحقيقيين، بل يجبُ أن يَظلَّ مَحَلَّ فضولٍ لمجموعةٍ ضئيلةٍ مُستَثناة. أيَّةُ قُوَّةٍ سياسيةٍ تلك التي تكمُنُ في أن يقرأَ بعضُ الشُّعراءِ غريبي الأطوارِ قصائدَ غريبةَ الأطوار لبعضهم بَعضاً؟ كَلاّ، تَكَلَّمْ من القَلب. أعِدْ الحياةَ إلى الغِنائيِّ والمُخلِصِ للتجربة.

 

تَمَّ في منتَصَفِ التسعينات تقديمُ ظاهرةِ المباريات الشعرية/ "poetry slam" في السويد. وتقومُ فكرتُها على شكلٍ شعريٍّ شفويٍّ وشعبيٍّ، يُلقي أثناءَها الشعراء قصائدَهُم لينالوا بعدَها تقييماً من الجمهور. عُنصُرُ المسابقةِ فيها ثانويٌّ لكنه مهم. سَرَتْ الظاهرة عِبرَ البلادِ كالنّارِ في الهشيم. نهضَ شعرٌ جديدٌ شعبيُّ الثقافة من دونِ أن يُدرِكَ الرّاسخونَ في السويدِ الأدبيةِ ما حدَثَ بالضبط. هنا، بالطبعِ، سادَتْ مُثُلٌ مختلفةٌ تماماً. لقد أصغى كثيرٌ من شعراءِ هذه الظاهرة إلى موسيقى الراب أكثرَ مما قرأوا من الكلاسيكيات. فجأةً أصبحت الضواحي المُهَمَّشَةُ للمُدنِ الكبيرة، حيثُ يعيشُ أكثرُ المهاجرين، مسرحاً لِثقافةٍ أدبيةٍ تفيضُ حيويَّةً. كانت الأولَوِيَّةُ للتجربةِ والسلوكِ والكلامِ بدلاً من العلمِ والثقافة والتأليف. أجبَرَ عُنصُرُ المسابقةِ الشعراءَ على تركِ تأثيرٍ مباشرٍ كي يُوَفَّقوا. أما التفاعُلُ مع الجمهور فَصارَ عبارةً عن "آه" و "أُوه"[24].

        بعد أن مَضَتْ عِدّةُ سنواتٍ على ظهور هذا الشكلِ الشعريِّ الشَّعبيِّ فعلاً، بدأَ مُزاوِلُوهُ يوَجِّهونَ إهتمامَهُم نحوَ الشِّعرِ بِعَيْنِه. بدأوا يَقرأونَ مُجايِلِيْهِم من الشَّبابِ أصحابِ التَّجارِبِ المؤَسَّسَةِ ونادِراً ما أعجَبَهُم ما لاقَوا. مَعَ ذلك فقد اقتَرَبَتْ الثقافتانِ مِنْ بَعضِهِما البعض وخَطا بَعضُ شُعراءِ المُبارَيات مُتَحَوِّلِينَ إلى شِعرِ الكُتُب. قد يكونُ يوهانَّس آنيورو (ول. 1979) في مُقَدِّمَتِهِم. أصدرَ مَجمُوعَتَهُ الأولى ما مِن جديدٍ سوى الآلهة/ (Det är bara gudarna som är nya) التي تستَمِدُّ إلهامَها من هوميروس سنةَ 2003 وأتْبَعَها بعدَ سنتينِ بمجموعة أوميغا/ (Omega). ولقد حازَ آنيورو على رضا النُّقّادِ والجُمهور مَعاً وملأَ أماسيهِ خلالَ سنواتٍ قلائل بالمُعجَبينَ المُخلِصين. كانت الضواحي وما زالت حتى الآن تُوبُوسَهُ الأدبيَّ[25]. إنَّهُ يُغنِّي عن حياةِ وآمالِ مَنْ لَمْ يُغَنَّ عنهُم أبَداً، وهوَ يَفعَلُ ذلكَ دوماً بإحكامٍ إيقاعِيٍّ أقربَ للراقِصِ غالِباً.

 

إن كانَ شعرُ المُبارَياتِ ظَرْفاً مُهِمّاً واشتراطاً أساسيّاً بالنِّسبةِ للعقد الأول من الألفيَّةِ الثالثة فإنَّ مدارِسَ الكِتابةِ نظيرُهُ في ذلك. لقد أصبَحَتْ دراسةُ الكِتابةِ مُمكِنةً في الجامعاتِ والمعاهِدِ منذ الثمانينات، وأغلبُ الشعراءِ الذينَ ظهروا منذ التسعينات درسَ مُدَّةَ سنتينِ في مدارسِ الكِتابة تلك. بعضهُم درسَ خمسَ سنواتٍ أو أكثر. أهمِّيَّةُ ومغزى الظاهرةِ موضِعُ جَدَل. فَمِن جهةٍ يدعي النُّقّادُ أن الجميعَ يتعلَّمونَ كيفَ يكتبونَ بنفس الطريقة. ومن جهةٍ أخرى يقولُ المُدافِعونَ أنَّ نَوعِيَّةَ الشعر فوقَ كُلِّ شيءٍ قد تَحَسَّنَت باضطراد كتَبِعَةٍ لأسلوبِ العَمَلِ الدِّراسِيّ. يتِمُّ التَّدريسُ من حيثُ المَبدأ بأن يكتُبَ الطُّلاّبُ نُصوصَهم، ثُمَ يقومُ المُدَرِّسُ وطُلاّبٌ آخرون بقراءَةِ ومُناقَشَةِ ما كَتَبوا. ومن دونِ اتِّخاذِ موقفٍ مِمّا إذا كان الشعرُ قد أصبَح أفضلَ مع وجودِ مدارِسِ الكِتابة فَمِنَ المُمكنِ جدّاً الإدِّعاءُ أنَّ من دَرَسوا هناكَ تَعَلَّموا أن يقرأوا بِحِرْص. لقد خَلَقوا وعياً بماهِيَّةِ الأدبِ على حقيقتِها بينَ الكُتّابِ الشباب. عَدا ذلكَ فقد خَلَقوا مورِدَ معيشَةٍ لكثيرٍ من الشعراء. وتواتُراً مع حقيقةِ أنَّ الصُّحُفَ في السويدِ قد قَلَّتْ وأصبَحَتْ أغبى فقد كَفَّ العديدُ من الشعراء عن كتابةِ المقالاتِ وبدأوا يكسبونَ خُبزَ يومِهم عِوَضاً عن ذلكَ بتدريس الآخرينَ فنَّ كتابةِ الشعر. إنَّهُ نشاطٌ هائل. يُقالُ إنَّ ما يزيدُ على مائة ألف سويديٍّ قد التحقوا بمرَّةً بدورةٍ دراسِيّةٍ، قصيرةٍ أو طويلة، في الكتابة.

 

حَسَنٌ أو سيّئ. لقد ظهرَ العديد من الشعراءِ المُثيرينَ حقّاً للإهتمامِ في العقدِ الأوِلِ من هذا القرن ولم يندُرْ أن يكونوا ذوي مهارةٍ حِرَفِيَّةٍ عريضة مُؤَهَّلينَ بِمَعرفةٍ شِعرِيَّةٍ واسعة. سنةَ 2000 صَدَرَت أولى مجموعاتِ آن هالستروم (ول. 1970) إنَّهُ غيابٌ مِنْ خُطىً يُفَرْقِعُ/ (Det är en frånvaro av steg som knastrar). رُبَّما تكونُ هالستروم أكثرَ شُعراءِ جِيلِها أصالَةً. لقد قَضَتْ سنواتٍ عديدةً في فرنسا ووقفَتْ عندَ ظُهُورِها خارجَ السِّياقاتِ السويديَّةِ جميعاً. يبدو شعرُها مُستَقِلاً تماماً عن مُتَناقِضاتِ المعرفةِ الشعريةِ المُعاصرة. يُمكِنُها، كما في كتابِها الثاني إفتَحْ يا قَلبُ/ (Öppna hjärta) (2003)، إستخدامُ أُسلُوبٍ شديدِ الرّومانسِيَّةِ، لكِنَّ قصيدَتَها، في الوقتِ نفسهِ، ذاتُ وعيٍّ لُغَوِيٍّ هائلٍ. إنَّها قصيدةٌ تَرنو إلى لا وَعيِ القارئ، وتَزُوْرُ أحلامَهُ وتَخَيُّلاتِهِ.

        كانتْ آن هالستروم مُحَرِّرَةً ناجِحَةً في مجلة ليريكفَنَّن وقامَتْ، من بين ما قامت به، بإصدارِ عَدَدٍ مُثيرٍ مُخَصَّصٍ للشعر العربي. يَنّي تونَدال (ول. 1973) شاعرةٌ أخرى من أكثرِ شعراءِ الجيل الجديدِ إثارةً للإهتمام. أصدرَتْ هي الأخرى مجموعتينِ شعريَّتَينِ تُبْحِرانِ بِعَفوِيَّةٍ في خِضَمِّ التناقُضِ المُلتَهِبِ بينَ المادِّيَّةِ اللُغَويّة والتَّقليديّة. كانَ عنوانُ الأولى سطوعٌ مَكْبُوح/ (Hejdade, hejdade sken) (2003) وفي ربيعِ 2008 أصْدَرَتْ مجموعَتَها الفصلُ الأول/ (Kapitel ett). وكَما هي حالُ هالستروم فقد عَمِلَتْ تونَدال بترجمة الشعر كما أنَّها ناقِدَةٌ أدبيَّةٌ بارِزة ومُحَرِّرَةٌ في صحيفةِ أفتونبلاديت[26]، إحدى أكبر الصُّحُفِ السويدية. 

        وأخيراً دافيد فيكغرين (ول. 1975) الذي أصدَرَ مجموعَتَهُ الأولى سنةَ 2002، واكتَسَبَ شُهْرَتَهُ بصُدور مجموعَتِهِ الثانية نِظام/ (Ordning) (2004). يتحَرَّكُ شعرُ فيكغرين بمهارةٍ بينَ "الآن" الخاصَّةِ باللفظِ الشفويِّ وبينَ "دائماً" الخاصَّة بالشَّكلِ المكتوب[27].

        يُمكِنُ، حسبَ إعتقادي، اعتبارُ الشعراء الثلاثة، هالستروم وتونَدال وفيكغرين، تعبيراً عن أنَّ الشعرَ السويدي على أعتابِ إزدهارٍ جديد. وكما هي حالُ الكثير من رفاقِ جِيلِهم فالثلاثةُ يزرعونَ فَنّاً شعرياً براغماتِيّاً لا تُهِمُّهُ ماهِيَّةُ الشعر ولا ما يجبُ أن يكونَه قَدْرَ اهتِمامِهِ بما يُمكنُ للشعرِ أن يُعَبِّر عنه.

        على الرغمِ من هذا فالإهتمامُ العامُّ بالشِّعر يبدو أقلَّ مما كانَ عليهِ زمناً طويلاً في السويدِ. تقولُ دورُ النشر إنَّ ما يصلُها من مخطوطاتٍ شعرية أقلُّ من السابقِ ولا تُبدي المجلّاتُ الأدبيَّةُ العديدةُ أو الصفحاتُ الثَّقافِيَّةُ في الصُّحُفِ السويديةِ الكُبرى إهتماماً يُذكَرُ بالشِّعر. أقرأُ هذا الإهمالَ البَلِيدَ لا مُبالاةً فاضِحةً. قد يكونُ في السويد اليومَ مِنَ الشعراءِ الشباب المُثيرينَ للإهتمام ما يفوقُ عددَ نُظَرائهم فيها طوالَ خمسٍ وعشرينَ سنةً. آجلاً أو عاجلاً سيكتشفُ العالمُ الأدبيُّ هذه الحقيقةَ إكتشافَ الجافِلِ من نومِهِ. عندَها سيُدرِكُ أنَّ صياغةَ الحقائقِ الجوهَرِيَّةِ عن زمَنِنا تَكمُنُ في الشعر، لا في أفضلِ المبيعاتِ. ربما لا يكونُ الشعرُ الأدبَ الذي يجعلُ صاحبَ دارِ النشرِ أكثرَ غِنى، ولكنَّهُ الفنُّ الذي سيتوجه إليه المُستقبلُ حينَ يريدُ أن يعرِفَ كيف كان زمنُنا حقّاً، بِكُلِّ ما في الأخير من تَعَدُّدٍ وتعقيدٍ جَلِيَّينِ. 

 

هكذا فهناكَ ارتباط أكيدٌ بينَ سافو وشعراءِ عصرِنا. إنَّ ماهِيَّةَ الشِّعرِ مُتَغَيّرةٌِ وثابتةٌ كالإنسانِ نفسِه. ولماذا يكونُ الحصولُ على ومضةٍ من هذا الشعرِ الغريبِ أكثرَ إستحالةً، بالنِّسبَةِ لِقارئٍ عربِيٍّ، مِمّا كان عليهِ لِصبيٍّ سويديٍّ في الثالثةَ عشرةَ وهو يقرأ كِسْرَةً شِعرِيَّةً إغريقيَّةً عمرُها ألفانِ وخمسُمائةِ سنةٍ في ترجمةٍ عَتيقة؟

        حين أصبحتُ أكبرَ بسنوات، وأُضيفَتْ أحزانُ حُبٍّ أخرى إلى حُزنيَ الأول، بدأتُ، ببُطءٍ، أتَرجِمُ قصائدَ سافو. أخذَتْ مني ترجمتُها جميعاً عشرينَ سنةً، لكنَّني لستُ نادِماً على ثانيةٍ منها. فهكذا هوَ الشعرُ، أنْ كُلَّما أخلَصنا وتَمَعَّنّا في قراءتِهِ أكثرَ، كُلَّما أعطانا أكثر. لا يُمكِنُ أبداً، والحالُ هذه، أن يُعتَبَرَ "الغريبُ" عَقَبَةً حقيقية. على العكس، فالذي نتعلَّمُهُ من الشعر هو أنَّ الغُربَةَ ليستْ موجودةً في العلاقاتِ كُلِّها وحسبُ، بلْ كذلكَ أنَّ الغريبَ هو ما نُعَلِّقُ عليهِ الأملَ حينَ نبحثُ عن أنفسنا في سوانا.

 

إنَّهُ، على أيةِ حالٍ، لَتَحَدٍّ كبيرٌ للشعرِ السويدي أن يلتقي باللغةِ العربية. وجَلِيٌّ، بالنسبة لِمَنْ لم يقتَرِبْ من تلكَ اللغةِ الفريدة إلا مسافةَ تَشَمُّمِها، أنَّها مرآةٌ عميقةٌ جداً لكنَّها صافيةٌ أيضاً. قد يحدثُ أن تُديرَ القصيدةُ السويديةُ ظَهرَها رُعباً حينَ ترى صورتَها في طَيّاتِ المِرآة. لكنَّ الأرجحَ أنّ تلكَ القصيدةَ سيكونُ بإمكانِها حقّاً أن ترى نفسَها، على ضوءٍ جديدٍ، من جِهَةٍ جديدةٍ وعندَها تَتَعَلَّمُ شيئاً ما مُهمّاً. وربَّما يمكنُ للقصيدةِ العربيَّةِ أن تخرُجَ بِشَيءٍ ما من ذلك اللقاء. هذا هو اعتقادي وأملي. أن ينالَ قارئُ هذا الكتابِ لمحةً، كتلكَ التي من سُنُونُوَةٍ تَطيرُ عابرةً بالطَرْفِ، من شيءٍ غريبٍ لكنَّهُ معروفٌ مع ذلك. كظِلِّكَ في ليلةٍ مُقمِرَة. كَدَقّاتِ قلبِ حبيبَتِكَ النائمةِ لِصْقَكَ في السرير حينَ تُفيقُ أنتَ من حُلُمٍ ولا يُمكنُكَ النومُ ثانيةً. كالنّور في عين الغريب. هو ذاتُهُ، ولكنَّهُ مع ذلكَ شيءٌ آخر. غريبٌ، ومع ذلكَ أنت.

 

 

ستوكهولم – الأندلُس – ستوكهولم

يوليو – أغسطس 2008

 

 

 


 

[1]  في هذه القصيدة، التي يذكرها ماغنوس و. أولسون، تُخاطِبُ الشاعرة الإغريقية سافو، والغيرةُ تملؤها، حبيبتَها التي تجلس إلى جانب شابٍ شديد الوسامة بادئةً (حسب الترجمة السويدية المتوفرة لقصائد سافو) بوصفه: "أشبه بالآلهة..". (المترجم)

[2]  Det semiotiska (Swidish) /The semiotic (English): العَلاماتِيّ أو الأَعراضيّ بالتعريبِ الموجودِ للمُصطَلَح. أما "النَّفسلِسانيّ" فَمُصطلَحٌ منحوتٌ من مُصطلحَيْ نفسيّ و لِسانيّ (Psykolingvistisk). (المُترجم)

[3]  إتجاه في الشعر (وقبله في الفن التشكيلي والموسيقى) ظهر في نهاية خمسينات القرن الماضي إمتداداً للسريالية والدادائية، تتساوى فيه أهميّة الترتيب التايبوغرافيِّ للكلمات (The typographical arrangement of words) مع أهمية العناصر الشعرية الأخرى، كمعاني الكلمات والوزن والقافية وما إليها، في السعي إلى التأثير المنشود. وقد أُقيمَ سنة 1956 أول "معرضٍ" دوليٍّ للشعر الكونكريتي في ساو باولو البرازيلية. اصطُلِحَ على تسميته كذلك بشعر الشَّكل/ Shape poetry، أو شعر التصميم المرسوم/ Pattern poetry. (المترجم/ عن موسوعة ويكيبيديا)

[4]  نسبةً إلى الحزب الإشتراكيّ الديمقراطي، وهو الأكبر في السويد حتى الآن. (المترجم)

[5]  لولا ما فيه من إحالاتٍ تأريخيةٍ دينيةٍ سياسيةٍ لدى القارئ العربي، لاخترنا مُصطَلَحَ "الخوارِجِ" ترجمةً للمصطلح الإنكليزي "Outsiders" الذي استخدَمَهُ م. و. أولسون في أكثر من مَحَلٍّ، فَهْوَ الأقربُ حدَّ التَّطابُق في المعنى. (المترجم)

[6]  تعني بالعربية "صديق الشعر". (المترجم)

[7]  Fenomenologi بالسويدية، وFenomenology بالإنكليزية.

[8]  لم يَقُلْ "ذهنياً". (المترجم)

[9]  "الفَنُّ للفَنّ"، أوردها م. و. أولسون بالفرنسية. (المترجم)

[10]  يعني الشاعرَ والمخرجَ السينمائيَّ لوكاس موديسون. (المترجم)

[11]  من العِلمانِيَّة، ولم يَقُلْ "عِلمانِيّاً". (المُترجم)

[12]  Chic lit: نوعٌ من أنواعِ الروايات، يتوجهُ إلى المرأةِ الغربية العازب العاملة. (المترجم)

[13]  لم يَقُلْ "لاحِقاً". (المترجم)

[14]  Kommunikativ (Sw.) / Communicative (Eng.)، والمعنى الحرفيُّ لها هو "إتِّصاليّ" لكنَّ أولسون يقصدُ الحوارِيَّةَ هنا. (المترجم)

[15]  Långbortistan. نحتٌ غايتُهُ الإحالة إلى البلدان التي تتوسط القارة الآسيوية والتي تنتهي بلفظ "ستان" كأفغانستان وكازاخستان وغيرها، دلالةً على نأي المكان. (المُتَرجم)

[16]  Exlibris: لاتينية، وفي العرف الغربي لطباعة الكتب تعني ختم صاحب الكتاب. (المُتَرجِم)

[17]  Poesi تعني "شِعر" بالسويدية. (المترجم)

[18]  يعني الأوربّيَّ. (المترجم)

[19]  المقصود هنا هو قصر الحمراء الأندلسيّ. (المترجم)

[20]  The cut up-technique. وهو أسلوبٌ في الكتابةٍ الأدبيَّة ينزع إلى كسر التسطير في الأدب المألوف. (المترجم/ عن الويكيبيديا)

[21]  فن الرسم والكتابة على الجدران الذي يمارسه الشباب عادةً في الغرب (أميركا على وجه الخصوص). (المترجم)

[22]  إستخدمَ م. و. أولسون مُصطَلَحاً إنكليزياً هنا وهو "rewrite". (المترجم)

[23]  الآخرِيَّة/ Alteritet (Sw.)/ Alterity (Eng.) تعبير فلسفي مأخوذ عن اللاتينية بمعنى "Otherness/ آخَرِيّة". (المُتَرجم/ عن الويكيبيديا)

[24]  الآه تَجاوُبُ الجمهورِ حينَ يُعْجَبُ، والأُوه رَدُّهُ حينَ يمتَعِض، ويشمل ذلك إلقاءَ الشِّعرِ وتقييمَ الحُكّام على حدٍّ سواء. (المُترجم)

[25]  Topos: لاتينية تعني حرفياً "مكان". (المترجم)

[26]  Aftonbladet، وتعني "صحيفةَ المساء". (المترجم)

[27]  تعريباً وتوضيحاً لهذه العِبارة بالإمكانِ صِياغَتُها كالتالي: "يتحرَّكُ شعرُ فيكغرين بمهارةٍ بينَ الآنيِّ في اللفظِ الشفويّ وبينَ الدائمِ في الشَّكلِ المكتوب". أما ما قد يُرى على أنهُ ترجمةٌ حَرفيةٌ (مُستَهجَنَةٌ ربَّما) في النص فما هو إلا التزامٌ بأسلوبٍ يستخدمُه الأديبُ السويديُّ المعاصرُ عموماً، والشاعرُ خُصوصاً في إرباكِ القارئ وشَدِّ انتباهِه. فهو يُعامِلُ كلمةً يختارُها (أو عبارةً أحياناً) مُعامَلَةَ المُتَجَسّدِ ضِمنَ صياغَتِهِ لعبارتِهِ الأساس، لاعباً بوضعِها في غيرِ محَلِّها المتوَقَّعِ إعرابياً أو من حيث السياق. (المترجم)

 

 

 

 

الغلاف

افتتاحية

*

محمـد طالب : الظمــأ

شيركو بيكه س : 12  قصيــدة

طالب عبد العزيز : القصـــر

نصير فليّح : 4 قصائــد

معتز رشدي : أغنيــة صغيرة

 ياسين طه حافظ : 5 قصائـــد

فوزي كــريم : ثلاث قصائــد

*

سركون بولص : بغداد مركز أحلامي

ستيفن دوبينس : ريتسوس واللحظة الميتافيزيقية

فوزي كريم : الشعر العراقي: بانوراما

ناظم عودة : السيّاب الخيال المأساوي

*

 محمد خضير : شاعر باصــورا

حسن ناظم : انطباعات عن أيام خلت

عبد الكريم كاصد : قراءة في "أغنية الليل" لصلاح عبد الصبور

 طالب عبد العزيز : القصر

محمود النمر : الدرويش والمتاهة

زهير الجزائري : طفولة الحداثة الشعرية

*

حاضر الموقف النقدي : من المتنبي

حاضر الموقف النقدي : في قصيدة النثر

حاضر الموقف النقدي : في النص المفتوح

حاضر الموقف النقدي : في الفن التشكيلي

*

كريستوفر مدلتون: بعد الثمانين

معرض تشكيلي لشاعر الصمت

مقابلات مع شيموس هيني

القوى الغنائية

معرض رياض نعمة

مقالات نقدية في الشعر المعاصر

نعومي شهاب : شاعرة الحياة اليومية

ويندهام لويس : الرسام أم الكاتب؟

*

الشعر السويدي اليوم قصائــد مختارة: ترجمة جاسم محمد و إبراهيم عبد الملك

الشعر السويدي: ترجمة ابراهيم عبد الملك

 

 

موقع الشاعر فوزي كريم      الصفحة الأولى         اعداد سابقة         بريد المجلة

  ©  All Rights Reserved 2007 - 2009