|
|||||||
الدرويش والمتاهة
محمود النمر
عدة طرقات خفيفة على بابه، تتكرر برتابة، هي ما يسمح لي بدخول عالم الدرويش في عزلته. أراه وقد خرج لي بابتسامة بسيطة، سامحا لقطعة من عالم الخارج بالدخول إلى عزلته شبه التامة، التي يفرضها على نفسه، والتي لا يقطعها إلا لسبب هام، أو لنفاذ ذخيرته من شراب الروح، مؤنسه إزاء السكون المستشري في أرجاء البيت. لا يزال الدرويش يمضي في رحلة العمر، التي ناهزت السابعة وستين عاما، منذ مجيئه الأول إلى هذا العالم، في قرية (أبو نعيجة) في قضاء الميمونة، حيث لا تزال النخلة الأولى، نخلة الله، في مقامها الحي في ذاكرته، كلما تطلع إلى عجلة الأعوام وما قطع فيها من دروب. في بيته الذي يشاركه فيه ابنه محمد وزوجة محمد، يمضي حسب الشيخ جعفر معظم وقته، يستيقظ في العاشرة صباحا، ليعد فطوره بنفسه (محمد وزوجته موظفان)، ثم يتابع بعض الأخبار على التلفاز (إذا كانت ثمة كهرباء طبعا)، ويذهب إلى مكتبته عائدا إلى روايات دستويفسكي، للشعر الروسي، أو بعض الكتب و المجلات التي أوصلها اليه أحيانا. حتى إذا ما عاد محمد وزوجته إلى البيت، جلبا معهما الصحف المطلوبة، وهي واحد من الروابط الواهية التي تربطه بهذا العالم. يهبط الليل عليه كل يوم، ليبدأ رحلته مع الكأس والروح، ناسجا من خياله عوالم يجول فيها، مطامنا غربته المستفحلة عن الأشياء، حتى إذا ما استبد به النعاس، غفا على رؤية من عالم الروح، بعيدا عن كل ما يطوف حوله. قد يستيقظ بغتة في الساعة الثانية أو الثالثة صباحا، ليباشر القراءة، أو ليكتب أشياء لا يعلن عنها. غير انه ورغم مرض السكر الذي يعانيه، يتمتع بصحة جيدة، وينظر بتفاؤل الى المستقبل ، معتبرا كل ما يجري زوبعة لا بد أن تخلي مكانها لعالم أفضل. الدرويش يعيش اليوم من راتب ابنه المهندس محمد، وهو يفخر بذلك، إذ لم يستطع أن يقدم الوثائق المطلوبة إلى وزارة الثقافة، بما فيها كتاب مباشرته بالعمل أواخر ستينات القرن الماضي! وهناك في موسكو، يدرس ولده الأصغر (علي )في معهد غوركي حيث استقبلته الحكومة الروسية حبا بأبيه الشاعر الذي درس في معهد غوركي أيضا وعاش احلى ايام حياته التي كتب أجمل قصائده فيها... فعجبا، روسيا تستقبل ابن الشاعر بغصن الزيتون والفودكا بلا مقابل والقائمون في وزارة الثقافة العراقية يتجاهلون الشاعر بلحمه ودمه !! غير أن الدرويش يمضي ويمضي في متاهته، بعيدا عن كل هموم الخارج ومشاغله، يطوف، راسما على جدرانه ظلال أشكاله الأولى، أشياءه الأولى، وأحلامه الأولى... سألته مرة: بعد طول عمر، أين ترغب أن تُدفن إذا ما خيرت في ذلك؟ أجابني: هناك، عند النخلة القديمة، التي كنت اقرأ تحتها، وأخبئ قربها بعضا من مطبوعات الحياة السرية، النخلة الأولى...نخلة الله.
|
|
||||||
|