|
|||||||
انطباعات عن أيام خلت
حسن ناظم
كان ذلك في شتاء 1993-1994. كنا ستة طلاب دكتوراه يجتمعون في بيت أستاذنا الدكتور علي جواد الطاهر بالجادرية ببغداد. الطاهر يعاني المرض في تلك الأيام، لكنه بالمتبقي من طاقته، يلقي محاضرة على طلبة دكتوراه وسط مكتبته. الرجل المفصول من الخدمة الجامعية، لأسباب دكتاتورية، يُسمَح له بإلقاء محاضرات بجهود الدكتور ثابت الآلوسي. لم يكن الطاهر يلقي محاضرة بالمعنى المألوف للكلمة والمحاضرة على حد سواء. ففي أكناف مكتبته، كنا نقوم بنزهة علمية. وما كنا فيها طلبة يجلسون إلى أستاذ محاضر، بل مجموعة من المتحاورين يجلسون إلى منسّق حوار. حين نصل البيت نجده، غالباً، جالساً إلى طاولة صغيرة في الحديقة، يبدأ صباحه الأبكر بالقراءة. ندلف معه إلى الصالة التي يقف عليها جزء من مكتبته المهمة، تحتلّ ثلاثة جدران لتبقي الرابع لأشعة الشمس. في بداية الفصل الدراسي، بدأ الطاهر باختبار قدراتنا واحداً واحداً من دون أن يأخذ الاختبار شكلاً رسمياً أو حتى محسوساً. كان ينتخب نصوصاً تراثية صعبة، يشيع فيها الغريب والحوشي من الكلمات، وتطفح بأشعار قديمة لشعراء معروفين ومغمورين ومجهولين. "ثم أهداه [الأمير للمتنبي] هدية فاستقلّها ..."، يقتحم الطاهر القراءة "ما معنى فاستقلّها؟" يقول القارئ: "فأخذها"، يقول الطاهر: "لكن المتنبي يأخذ دائماً الهدايا، فلماذا تشدد الرواية عليها هنا؟، يلتفت أحدنا إلى مرماه فيقول: "لا لم يأخذها، بل وجدها قليلة بحقِّه...". بعد مدة قضيناها في النقد اللغوي، انتقلنا إلى مناهج التحقيق. فاحتلّ نقده لتحقيق محمود محمد شاكر كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجُمَحيّ جلّ المناقشات. نُشر نقده في أحد أعداد مجلة المورد بأربعين صفحة كبيرة. الأمر الذي اقتضى ردّ محمود محمد شاكر بكتاب كامل أسماه برنامج طبقات فحول الشعراء. كان الطاهر مستاء من ردّه لأنه خلط قضايا التحقيق العلمي باتهامات غير علمية. قال: "لقد رماني بالشينيْن [شيعيّ شيوعيّ] لأني قلتُ إن عنوان الكتاب طبقات الشعراء وليس طبقات فحول الشعراء"، ثم التفت صوب النافذة فاتحاً يديْه وكفّيْه وقال: "ما ذنبي إنْ كان وجد لطخةَ حبرٍ على مخطوط فقرأها فحول، ها ههههه" كان معنى تحليل النصوص الشعرية لدى الطاهر يتخذ من الشرح ستراتيجية وحيدة، شرح يراوح بين النصّ وحياة المؤلف. وكانت تلك ستراتيجية لا تروق لأمثالي والبنيوية والتفكيكية تجتاح الثقافة العربية. بدا لي الطاهر قديماً في تحليل النصوص شرحاً. كان المتنبي، مرة أخرى، المادة الأثيرة لديه. يفتح ديوانه الضخم وينتخب قصيدة، ثم يبدأ بإجالة النظر، عين على القصيدة وأخرى على حياة المتنبي، يقرأ بيتاً ويبيّن واقعة تاريخية حتى يبلغ معنى البيت. ثم يقول، بعد أن يرمقني بنظرة دالّة، "لا نستطيع أن نفهم مرمى المتنبي من هذا البيت إلاّ بهدي الواقعة التاريخية، إلا بإشراك حياته في الشرح، أليس كذلك حسن؟" ألوذ بالصمت تاركاً إيماني بـ"موت المؤلف" و"الاكتفاء النصيّ" آنذاك عرضة لأشدّ المخاطر. لأنني لم أكن، حقاً، أستطيع استنباط دلالة من دون سياق كامل يبدأ بحياة المؤلف ولا ينتهي بظروف عصره. كنتُ أهوى النصوص المعلقة في الهواء، تتمايل أمام مخيّلة مترعة بعوالم لغوية برّاقة، غير أن حسّاً دفيناً بدأ بالتململ رويداً رويداً، وذلك حين انتقلت إلى مرحلة جديدة من الدراسة، مرحلة كتابة أطروحتي عن "أنشودة المطر" لبدر شاكر السياب، وهنا اعتمدت المنهج الأسلوبي في الدراسة. أرغمتني التجربة الغنية للسياب أن أمارس تعديلات على الأصل المنهجي الأسلوبي، فكتبت مدخلاً بيّنت فيه أني أحيد عن مبدأ الاكتفاء النصي لأوظّف حياة السياب في التحليل الأسلوبي، وذلك لكي تمتدّ الأسلوبية من عالم اللسانيات إلى عالم النقد الأدبي، ولكي لا يقف التحليل عند حدود اللغة ويدخل عالم النقد، وأخيراً لكي أنصف السياب وتجربته الغنية.
منذ تلك الحقبة، بدأت مرحلة مراجعة كلّ القناعات، مع الاحتفاظ بتقدير عالٍ لكشوفات المناهج النصيّة، خاصة في الثقافة الغربية، وعلى نحو نادر في تطبيقاتها العربية. ومن المهم أن أشير أخيراً إلى أن كلّ ذلك لم يكن بمنأىً عن الظروف الكارثية التي عشناها بالعراق: الحروب، والحصار، والجوع، والقهر.
|
|
||||||
|