العدد 14 لسنة 2009

 

طفولة الحداثة الشعرية

 

زهير الجزائري

 

    تموز  كان ساخنا كعادته عام 1908  ، ففي 23 حدث الانقلاب الدستوري وتقررت الإدارة المشروطة . لم يكن العامة يعلمون  شيئا عن هذا لانقلاب بعد أكثر من 500 سنة من أوتوقراطية الولاة العثمانيين  ولم يفهموا دلالات الحدث ، بل إن عبارة المساواة فسرت حسب مصالح الطبقات. ففي الأرياف عنت المساواة المستحيلة بين الشيوخ الاقطاع و عبيدهم الفلاحين، وعند طبقة السادة عنت كفر مساواتهم مع العوام ، وللأغنياء من الباشوات والجلبية المساواة مع مخدوميهم وعمالهم ، ولعامة الناس يكمن الكفر في مساواة المسلمين مع المشركين ومساواة الرجال والنساء. رجال الدين المحافظون اعتبروا المساواة خرقا لقانون الله وشريعته التي وزعت الأرزاق والخيرات بإرادته . ولذلك رفع رجال الدين في مواجهة حزب الاتحاد والترقي شعار ( الشريعة لا الدستور )!

    الولايات الثلاث المنفصلة عن بعضها والمركز صارت تلتقي مع بعضها ومع المركز عبر وسائل الإتصال الحديثة والصحافة وصارت طبقات وشرائح من رجال دين، إقطاعيين وشيوخ عشائر ، تجاراً وملاكاً، ضباطاً ومتعلمين في الولايات الثلاث تلتقي عند قواسم ومواقف مشتركة ، مع أو ضد الإصلاحات التي شملت مركز وولايات الأمبراطورية . ودخلت أفكار تركيا الفتاة إلى أبناء الولايات الذين حصلوا على المزيد من فرص التعليم كموظفين أو عسكريين . ووجدت شعارات ( حريت ، عدالت ، مساوات )  صدى واستقبالا حماسيا بين المتعلمين ، فأول من استقبلها طلاب وخريجو مدرسة الحقوق ببغداد والمتخرجون من كلية الحقوق باسطنبول ، كما استبشر بها المثقفون من قراء الجرائد والمطلعين على ما يجري في العالم  الخارجي.

    ناصر المثقفون العراقيون شعارات الحرية بمزيد من المشاركة في سياسة الدولة العثمانية ، ولكن لمزيد من التحرر منها باتجاه قومية عربية أو وطنية عراقية . كانت الأحاسيس القومية العربية التي نشير إليها دوما ، نشطة بصفة خاصة في سوريا التي كانت أقرب من غيرها إلى المصدر الأوربي .

    أما في العراق فقد أخذت هذه الحركة طابعا مطلبيا ينصب على الحصول على المزيد من فرص التعيين، التعلم باللغة الأم، الاشتراك في الإدارة والتساوي في التوظيف، وأن يراعي في التوظيف من يحسن العربية.

    وقد حاول المثقفون العرب أن يجدوا مناصرة من المثقفين الأتراك في المركز ، لكن اتضح إن دعاة الحرية الأتراك يناصرون الحرية في بلادهم ويتجاهلون حرية الآخرين . 

    رغم استبشار المثقفين بالدستور والبرلمان ( المبعوثات )  لكن ولا واحد منهم صعد لمجلس المبعوثات في أول انتخابات عام 1908 ، فقد صعد الشيوخ والوجهاء وكبار الموظفين وممثلي العشائر بتعيين من الدولة. لقد تطلب الأمر أربع سنوات أخرى ليصعد إلى المبعوثات ثلاثة  مثقفين من مجموع 15 نائبا في ثاني انتخابات عام 1912 هم نوري بيك البغدادي رئيس تحرير القسم الكردي في جريدة الزهور البغدادية ، جميل صدقي الزهاوي ، ومعروف الرصافي.  

    وعلى خيباتها خلقت المشروطية حركة فكرية وصفها عباس العزاوي بأنها "نبهت الأفكار فعلمنا الشيء الكثير والتقينا إلى ما لم يكن نحلم به أو نهتم له ، وكان لهذا الاحتكاك والآراء أثره فحيرنا ما في العالم من أحداث... وذاعت مطالب قد تكون أوسع مما مر في عصور ، فكأن التاريخ  تجمعت عصوره في هذه السنين ."

    لكن هذا المثقف عانى من تعارضات عديدة في طريقة تفكيره وفي نتاجه وأسلوب حياته :

    تعارض بين ثقافته وأصوله الدينية وبين الثقافة العلمانية.

    تعارض بين مشاعره العربية وبين ولائه للدولة العثمانية.

    تعارض بين محليته المنغلقة وبين رغبته الانفتاح على عالم أوسع.

    بين صراعه مع الغرب الاستعماري وبين إعجابه بثقافته وتقدمه.

الإيمان بالجماهير كموضوع وهدف للإصلاح وبين اليأس من ركود المجتمع وقدريته واستسلامه بعد إخفاق الثورة.

    بين الانحياز لفقراء، وخاصة الفلاحين، وتعاطفه معهم، وبين رغبته في التمايز عن عامة الناس مكانا وأسلوب حياة .

    بين الايمان بقدره الكلمة على التحول إلى فعل وممارسة اجتماعية "اصلاح" وبين اليأس من أمية الناس والميل إلى الكسل والركون للوظيفة.

    أغلب المثقفين العلمانيين نشأوا نشاة دينية ومن عوائل متدينة ، فقد تعلم المثقفون السنة (الرصافي، الزهاوي، فهمي المدرس) في جامع الحيدرخانة على يد السيد محمود شكري الآلوسي ، وكان والد واحد من أوائل الماركيسين العراقيين ( محمود أحمد السيد ) مدرساً في جامع الحيدرخانه وإماما لجامع الشيخ عبد القادر الكيلاني ، وكان والد  أوائل الروائيين سليمان فيضي إماما لجامع في الموصل.

    مع الانفتاح الذي شمل الإمبراطورية ابتداء من المركز حدث تحول في زي المثقفين  تماشى مع التغير في أزياء الموظفين والعسكريين في الدولة العثمانية : فقد كان الرصافي والزهاوي يرتديان العمامة و الجبة خلال دراستهم في الاستانة ، لكن انقلاب الأزياء الذي عم مركز الدولة العثمانية شمل أوائل المثقفين العرب، ويصف الرصافي في مذكراته المروية هذا التغيير " كنت أرتدي لباسي المألوف، وهو العمامة والجبة والزبون ، وبمناسبة البرد كنت لابسا فوق العباءة والجبة عباءة ماردين. فلما دخلت المقهى لم أجد أحدا فيه. وبرز لي من غرفة الوجاغ صاحب المقهى السوري، فلما شاهدني بالعمامة ارتعب ومر بقربي وهو يقول "إخلع العمامة يا رجل لا تبليني". ثم يروي مصاعبه مع الجند الترك الذين اعتقلوه لمجرد كونه يرتدي العمامة ثم يدخل إلى مغازة فينزع داخلها زيه الديني ليلبس في نفس الدكان السترة والبنطلون والطربوش، " وخرجت منذ ذلك التاريخ ولم أعد إلى لبس العمامة أبدا."[1]

الرصافي يروي سيرة حياته – د يوسف عز الدين – دار المدى ص 100

    ويروى الرصافي أيضا قصة الزهاوي: " كان جميل صدقي الزهاوي يرتدي سترة وبنطلونا ومعطفا إلى تحت الركبة ، ويلبس في رأسه عمامة ، وكان المذكور إذا أراد أن يرتكب المعاصي يرفع العمامة، أي القماش الأبيض من فوق الطربوش ويضعها في جيب المعطف فيصبح أفندي دون أن يفطن أحد إلى أمره ". ثم نزع الزهاوي العمامة بمناسبة الانقلاب التركي ولم يعد لها أبدا ." [1]

    لم يغير المثقفون الشيعة لباسهم كما حدث للرصافي والزهاوي، لكنهم عاشوا التعارض بين الشكل والجوهر، والعقيدة والمظهر، في فترة لاحقة بعد انتقالهم من النجف إلى بغداد  . فقد حمل الشرقي والشبيبي والجواهري عمائمهم معهم إلى بغداد، رغم مخالفتهم لفتاوى مراجعهم الذين حرموا العمل في الدولة. وقد عاش الجواهري وهو يرتدي عمامته النجفية صباحا في البلاط ، وفي المساء يرتدي الزي الإفرنجي ويذهب إلى ملاهي بغداد لينشر بعد يومين قصائدة الفاضحة ( عريانة ، ليلة من ليالي الشباب ، وهزي لهم ردفا ...) .

    لم يكن تبدل أفكار المثقفين، من الدين إلى العلمانية هيناً وفجائياً مثل استبدال العمامة بالطربوش والجبة بالبنطون . فقد عاش هذا المثقف العلماني صراعاً حاداً بين أصول ثقافته الدينية و الثقافة العلمانية الحديثة. ويكشف الحوار الحاد بين جلال خالد و الفيلسوف الهندي التعارض بين الميل إلى الثقافة العلمانية و العودة إلى ما سماه الثقافة الدينية وبين ثقافته الإسلامية التي تمنعه من شرب النبيذ ومن مشاهدة راقصة في فندق " و كان يزيد من تشاؤمه ما أنشأ يقرأ في تلك الأيام من مقالات الكاتبين الخياليين العربيين، جبران خليل جبران و المنفلوطي ، و إن كان الأول غير الثاني ، ثم أخذ ينزع نزعة  شبه إنسانية ، لكنها  نزعة غير مستقرة، يغالبها كبرياؤه واعتداده بنفسه وترفعه عن الناس وانزواؤه والانهماك في ارتداء الثياب الغالية الثمن، وحلول الفنادق الكبيرة وقضاء الوقت في أبهائها وغرفها ، كما يغالبها مذهبه الوطني ( القومي ) الذي جعله كارها كل قوم عدا العرب. والفتى بعد متدين متعصب يكره أن يرى في الفندق رقصا فنيا ، لا لسبب أخلاقي، بل لأنه يستحرمه." [2]

و ترينا قصيدة الزهاوي (ثورة في الجحيم ) هذا التردد بين الإلحاد والإيمان :

    ثم امنت .............. حتى    قيل هـــذا مذبذب  ممرور

    ثم اني في الوقت هذا لخوفي    لست ادري ماذا اعتقادي الاخير [3]

الديوان ص 719

....

    وحاول الرصافي في نهاية الأمر أن يجد نوعا من التوافق بين البلشفية والإسلام . ففي خطاب ألقاه في البرلمان في 7 حزيران 1937 قال : ني شيوعي ، لكن شيوعيتي إسلامية لأنها وردت في القرآن في قوله تعالى ( وفي أموالكم حق للسائل والمحروم.)سورة الذاريات. كما قال الرسول : ( تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم.) البخاري ص 425.  أليست هذه الشيوعية؟ ومن يستطيع أن يقاوم هذا المبدأ إلا عن جهل ؟"

    التناقض الآخر الذي عاشه مثقفو تلك الفترة هو التناقض بين الفكرة والأسلوب. ويتجلى ذلك بصورة أكثر وضوحا عند الشعراء،  بين تأثيرات الشعر العمودي الذي تمتد تقاليده إلى أكثر من قرابة ألفي عام، والتي تتطلب البحث عن السجع والكلمة الموزونة ذات الجرس القوي والخيال المجنح: ألأزهار والرياض وغلالات العذارى وهمسات النسيم، وبين امتداح القطار والساعة والسيارة والمفاهيم الجديدة كالوطنية والديمقراطية والحرية.

    والأكثر يتجلى في الموقف من التجديد في الأداة ، فرغم حماس الإثنين للتجد يد، بما في ذلك تجديد الأداة ، لكن  صورة التجديد عند الشاعرين كانت ملتبسة بسبب عدم الإطلاع على التيارات الحديثة ، فما كان الرصافي من دعاة مغادرة العمود والتحرر من قيوده ، بينما اعتقد الزهاوي أن التجديد عنده قد حدث باستخدام مفردات جديدة .

 


 

 

[1]  الرصافي يروي سيرة حياته – د يوسف عز الدين – دار المدى ص 100

[2]  محمود أحمد السيد _ رواية جلال خالد _ المجموعة الكاملة .وزارة الثقافة والفنون- الجمهورية الغراقية ص 281

[3] الديوان ص 719   

 

 

الغلاف

افتتاحية

*

محمـد طالب : الظمــأ

شيركو بيكه س : 12  قصيــدة

طالب عبد العزيز : القصـــر

نصير فليّح : 4 قصائــد

معتز رشدي : أغنيــة صغيرة

 ياسين طه حافظ : 5 قصائـــد

فوزي كــريم : ثلاث قصائــد

*

سركون بولص : بغداد مركز أحلامي

ستيفن دوبينس : ريتسوس واللحظة الميتافيزيقية

فوزي كريم : الشعر العراقي: بانوراما

ناظم عودة : السيّاب الخيال المأساوي

*

 محمد خضير : شاعر باصــورا

حسن ناظم : انطباعات عن أيام خلت

عبد الكريم كاصد : قراءة في "أغنية الليل" لصلاح عبد الصبور

 طالب عبد العزيز : القصر

محمود النمر : الدرويش والمتاهة

زهير الجزائري : طفولة الحداثة الشعرية

*

حاضر الموقف النقدي : من المتنبي

حاضر الموقف النقدي : في قصيدة النثر

حاضر الموقف النقدي : في النص المفتوح

حاضر الموقف النقدي : في الفن التشكيلي

*

كريستوفر مدلتون: بعد الثمانين

معرض تشكيلي لشاعر الصمت

مقابلات مع شيموس هيني

القوى الغنائية

معرض رياض نعمة

مقالات نقدية في الشعر المعاصر

نعومي شهاب : شاعرة الحياة اليومية

ويندهام لويس : الرسام أم الكاتب؟

*

الشعر السويدي اليوم قصائــد مختارة: ترجمة جاسم محمد و إبراهيم عبد الملك

الشعر السويدي: ترجمة ابراهيم عبد الملك

 

 

موقع الشاعر فوزي كريم      الصفحة الأولى         اعداد سابقة         بريد المجلة

  ©  All Rights Reserved 2007 - 2009