|
|||||||
كتاب
كريستوفر مدلتون: بعد الثمانين
في واحدة من فروع شارع الكتب chairing cross في لندن، تقع مكتبة صغيرة خاصة بكتب الطبعات الأولى، التي تُعتبر نادرة نسبياً. في هذه المكتبة يعمل صديق شاعر يُدعى ماريوس. سبق أن عرضت على هذه الصفحة كتابه "الرحلة السورية". ماريوس أصدر كتاباً آخر يتضمن حديثاً طويلاً وشاملاً مع الشاعر الأنكليزي كريستوفر مِدْلَتون (مواليد 1926). حدث هذا في سنة 2004. وفي حزيران السنة الحالية 2008 أصدرت دار النشر Carcanet المجموعة الشعرية الكاملة لمِدْلتون في 732 صفحة. وبهذه المناسبة نظمت الدار حفلةَ توقيع للكتاب في مكتبة الطبعات الأولى تلك. دُعيت إلى هذه الحفلة، والتقيت بالشاعر، الذي يبدو كهلاً، لا شيخَ ما بعد الثمانين. فهو منتصبُ القامة، تماماً كالصورة التي نشرها في مجموعة ترجماته التي صدرت في 2000. والتي عرضتها في حينها، في جريدة الشرق الأوسط. فمدلتون، إلى جانب كونه شاعراً، ضليعٌ في الألمانية (ترجم عنها مختاراتٍ من الشعر، وأخرى لغوتة)، وبارعٌ في الترجمة الشعرية عن أكثر من لغة. وإعجابه بالعربية حمله على ترجمة قصائد أندلسية ترجمةً غير مباشرة، وأصدرها في كتاب عام تحت عنوان "قصائد اندلسية"(1992). وحين أذكر "الترجمة الشعرية" إنما أعني ترجمة الشعر شعراً. لا ترجمةً نثرية كتلك التي قامت بها دار بنجوين في سلسلتها الشهيرة عن الشعر العالمي. أو تلك المهيمنة على مقدرات الترجمة العربية، والتي تركت الأجيال تظن أن الشعر الإنكليزي والعالمي عامة إنما يُكتب نثراً، شأن قصيدة النثر. مجموع ترجماته صدرت تحت عنوان "قيثارات ناعسة وأصوات فضة"، وهي تظم قصائد لأكثر من ستين شاعراً، يُعتبر الشعراء العرب الأندلسيون أقدمهم عهداً: إبن زيدون، ولاّدة، ابن قزمان، الطرطوشي، ابن خروف، ابن الزقّاق والمعتمد. مُفتتح المختارات كان قصيدة للشاعر التركي أوتكاي رفعت "كيف تأتي القصيدة":
تأتي من مائدة الزبد عاريةً، ومن الأعماق تأتي باللون الأخضرِ، تأتي موحلة الصفرة، ساحبةً كلَّ طيور البحر الميتِ إلى المقهى حيث الغطاسين. تأتي كرياح مذبوحة من الجنوب تأتي فاضّةً بكارتها بالفكرة المتسارعة، وبالدوار تأتي مُتعبةً تستجدي، مع صرخةِ بلَهٍ مختنقة.
إن هذه الخطوط الغامضة لهويّة القصيدة تكاد تُلقي ظلالها على طبيعة المختارات، وعلى طبيعة الشعراء من ورائها: غوتة، ريلكة رامبو، هولدرلن، برخت، لوركا، تراكل، أبولينير، ملارميه، بول تسيلان... ولكنها تلقي ظلالها على قصيدة مدلتون أيضاً. على أنها في النصوص المترجمة شعراً تبقى أيسرَ على قارئ مثلي، لا تُعتبر اللغة الإنكليزية لغته الأم. ففي الترجمة تفقد اللغة الشعرية حريتها خارج المنطق النثري. وتبقى وعاءً لنقل المعاني، أو لنقل الالتباسات اللغوية الغامضة. لأنها تظل أسيرة ملاحقتهما، ولذا تبقى نتائج الترجمة الشعرية وليدة الصدفة. فقد تصير القصيدة الرديئة بقدرة قادر قصيدةً مثيرة، أو العكس مع القصيدة الجيدة. القصائد المترجمة إلى الإنكليزية عادةً ما تكون أيسر لغةً في القراءة كما قلت. في حين تظل لغة مدلتون الشعرية في قصيدته وليدةَ أسرار الإنكليزية، وحريتها خارج المنطق النثري. عيّنات من هنا وهناك في المجموعة الكبيرة تشي بذلك. فهو يسعى في قصيدته إلى الخلق Creation. "فالقصيدةُ ليست مجرد وثيقة، أو مجرد تسجيل لتجربة. بل هي خلق جديد. هناك قلة من الشعراء الذين يسعون هذا المسعى. فأنت يمكن أن تحقق الخلق في اللوحة، الرقص، أو الموسيقى. ولكنك تجد اللغة ذات رابط حرفي ومباشر مع عالم الأشياء والمفاهيم، عالم الواقع. وليس لها فكاك من ذلك. ولذا يبدو تحليقها في عالم الخلق أمراً مستعصياً." هذا التحليق للغة ممكن، حين تتولّد من "ضرورة داخلية". حين تكون اللغة الشعرية تكويناً عضوياً. مدلتون يضيق بالنثر الذي يزعم أنه شعر، فقط لأنه يُطبع بالشكل الذي يُطبع فيه الشعر. كما يضيق بالشعرـ الريبورتاج، ذي الخطاب الأفقي والبعد الواحد. يضيقُ بهما لأنهما ضرب من الاحتيال الفني "الأدبي" على الشعر. حديثُه مع ماريوس في الكتاب غنيّ، وملهم. وفي داخل المكتبة الصغيرة لم يكن حضوره أقلَّ غنى. المحتفون بين جدران الكتب الأربعة يتناوبون الحديث مع الشاعر. وهو يبدو أقلّهم شأناً. حين قدّمه صاحب دار النشر كان يعترف بعجزه عن اللحاق بنتاج مدلتون الوافر: "لقد فاجأني، بعد أن أنجزتُ طباعة مجموعته الكاملة هذه، بمجموعة شعرية جديدة!". ابتسم الشاعر الشيخ، وقرأ على الحضور ثلاث قصائد. كان الحفلُ لا يتجاوز الثلاثين شخصاً. ولكن جدران الكتب ضاقت بالكثير منهم، فأخرجتهم إلى الرصيف الممطر خارجها.
|
|
||||||
|