العدد 14 لسنة 2009

 

عيناتٌ من واقع النقد اليوم، تنتخبُها "اللحظة الشعرية"، متشككةً في الموقف، أو محتاطةً من الإلتباس، أو مندهشةً من المعنى الإيهامي. تاركةً الحكمَ للقارئ وحده، دون تعليق

 

حاضر الموقف النقدي:

 

في المتنبي

 

 

عقدت جريدة الحياة، في الأسبوع الأخير من شهر أيار 2007 ، استفتاءً تحت عنوان "شعراء الحداثة يحاكمون المتنبي :

 

من هنا نفهم نرجسيته أيضاً. وهي من ناحية كانت جزءاً من شعرية «الفخر» وهي كانت باباً من أبواب الشعر، (من الفخر الجماعي (القبلي) الى الفخر(الفردي). على ان نرجسيته هذه كانت أيضاً جزءاً من النرجسيات العمومية عند الشعراء. ولكن المتنبي ذهب أبعد من ذلك. ذهب أبعد من «أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي...» الى «ما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام المسيح بين اليهود»، فهو يتماهى مع المتنبين، (تيمناً بلقبه)، ولا ننسى تماهي أو ذوبان أو حلولية الصوفيين بأمته أيضاً.

.................

.....................

ونظن ان المتنبي على رغم كل شيء هو شخصية عبثية بامتياز. وهنا المفارقة أو سواها: يجسد الشخصية العبثية التي تحركها تراجيديا سياسية أو ذاتية أو حتى وجودية، فهذا ما يقربنا من المتنبي. فلا فخره، ولا مديحه، ولا تقلباته، إنما هذا الحس المتلاشي حتى العدم بالأشياء.

بول شاؤول

 

 

وجود المتنبي على قائمة القراءة والتداول العربيين طوال هذا الوقت ليس بلا وجاهة، وليس بلا سبب. أحتار، شخصياً، في فهم حضور المتنبي عربياً في كل العصور التي تلت ظهوره كالبرق الخاطف في التراث الشعري العربي: هل هو تلك اللغة المنحوتة، قوة الصوغ، تبلور الشخصية واعتدادها، الغموض الذي يطبع المقاصد «الحقيقية» لشعره ومسعاه، حكمته حيناً، حزنه حيناً آخر، اختراقاته النفسية الساطعة، الفخامة المخيفة لبلاغته؟

أمجد ناصر

 

 

لا أفهم لماذا هذا التساؤل بالصيغة التعجبية الاستنكاريّة أحياناً عن ديمومة شاعريّة أبي الطيّب قرابة عشرة قرون! وكأن العرب وحدهم يملكون ظاهرة كهذه، أليس هناك شكسبير الذي لا يزال يُمثّلُ ويُحفظُ على الغيب لدى طلبة المسارح والأدب في كل أوروبا والعالم أجمع؟ أليس هناك سرفانتس في اللغة الاسبانيّة وهل أتوقف عند هذين الاسمين لكي لا أملأ الصفحة بأسماء رديفة من كل ثقافات ولغات العالم؟ أم تراني بمثل هذا التساؤل أعود إلى شعر أبي الطيب نفسه الذي يقول: «وتعظم في عين الصغير صغارُها وتصغرُ في عين العظيم العظائم...».

..............

ثم القول «إن المتنبي يفخر بنفسه لدرجة تخرج عن المنطق» أجل ولكن ذلك شأن الكبار كل الكبار، ألم يكتبْ هوغو عن ميلاده بأنه جاء مثل الزمن بكامله وأن القرن التاسع عشر ولد قبلَهُ بـ «عامين»؟ ثم ألم يكتب هيدجر عن هولدرلين قائلاً «إنه يتحدث عن الجبال والأنهار مثل إله»... والكوميديا الإلهيّة لدانتي أين نُصنّفُها في فن الكتابة من حيث وصفِها الدقيق للعالم الآخر وأين نضع دانتي «خالق» هذا العالم في اللغة الايطالية؟

وأخيراً، المتنبّي متناقض لأنه حقيقي.. إن من لا يتناقض هو الزائف الذي يظنّ أنه يملك الحقيقة أو يُموَّهُ لذلك لأن الحقيقة ليست في متناول إنسان قط. وعلى أي حال ليس على الدوام. وكما قال لي بيكيت في لقاء أخير معه قبل أن يموت «إنني صامت الآن أو أكاد، ذلك لأنني أقترب من الحقيقة.. وعندما أدركها أو تدركني سيحل الصمت المطبق». ولهذا فإن المتنبي بالنسبة لي هو كما قال نيتشه، «لا شيء غير شاعر» وفي هذه «اللاشيء» النيتشويّة يَكمُنُ كل شيء.

شوقي عبد الأمير

 

 

لا أوافق على أن المتنبي كان شاعر المتناقضات بامتياز، بل أراه شاعراً قرر ان يبحث عن حقيقته الإنسانية عبر شعريته المتقدة والتي أرهقت طموحاته المستحيلة في السياسة والحياة في خضم واقع تاريخي مرير عاش تفاصيله المتناقضة مرغما في كثير من الأحيان.

وما بيته الشهير: «أنام ملء جفوني عن شواردها / ويسهر الخلق جراها ويختصم...» إلا تقرير لتلك الحقيقة الخالدة إلى الأبد ليس بوصفه الشاعر الأكثر خلوداً في تاريخ الأمة التي تباهي الأمم ببلاغتها الشعرية وكأنها لا تملك سواها مادة وحسب، بل أيضاً بوصفه الشاعر الأكثر احتفاء بتلك الشعرية والأقدر على ترسيخها في الوجدان العام سلوكاً وقصيداً.

....................

لا انظر لمديح أناه على أنه أنانية، ولكنني أراه جهاده الشخصي في سبيل تحقيق شخصيته وفقا لحدودها الشعرية والإنسانية، والذي لم يكن في حاجة اليه في كثير من الأحيان، وهو يملك هذه الشعرية الفذة والتي حققت شخصيته الشعرية والإنسانية

سعدية مفرح

 

 

 

وفي ظني أنه نال هذه المكانة المتميزة، ليس فقط لجمال عبارته وجزالة ألفاظه وحسن سبكه وإنما لأنه كان النموذج الأول للمثقف المعتز بنفسه أمام الحاكم، والذي رأى في الموهبة الإبداعية مؤهلاً للحكم وامتلاك السلطة في مقابل المؤهلات التقليدية للحاكم من وراثة أو اغتصاب. هذا الموقف كان رهناً بنفس المتنبي العالية ووعيه بموهبته الكبرى واعتزازه بها في مواجهة سلطة الحاكم الغاشمة التي قد تقترن بالحماقة والسفه والطيش والغباء لتكون المفارقة أنكى وأمرّ. حق له إذاً ما دام امتلك الوعي «بولاية الشاعر» أن يقعد لطموحه الهائل الذي يشبه طموح المماليك في الخلافة بحسب الأعراف المستقرة، بأن يعلنها: «أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/ وأسمعت كلماتي من به صمم».

كريم عبد السلام

 

 

 

وأسأل الله أن يحمي لنا أبا الطيب المتني وامرأ القيس ورفاقهما من فطريات (فطاريش) الشعر، ومسوخ الكلام الشعروي الأشبه بزهور البلاستيك، وقطاريز الطغاة وغلمان الغزاة الذين يوهمهم نقادهم الأميّون بأنهم مبدعون كبار وعظام، وما هم في الحقيقة سوى زبد هرائي يذهب جفاءً، فلا يمكث في الأرض إلا ما ينفع الناس، ويبدو أن المتنبي وامرأ القيس، على علاتهما، أكثر نفعاً من «الشعراء المعاصرين الحداثيين» المستنسخين على طريقة النعجة دوللي... وبالمناسبة، ما أخبار دوللي؟

سميح القاسم

 

 

 

المتنبي ساحر كلمات، وعرّاف أفكار. ملحميّ اللهجة، وسمفوني التآليف. ناصع الحضور، مغرق في الغياب، جليّ وخفيّ، أليف وغريب، روح صارخة في عنفوان امتلاكها للعالم، وروح منكسرة في أسى انهيارها في مواجهة العالم. البطولة في أوجها والهزيمة في قيعانها. وفي ذلك كله يكمن سر بقائه، وديمومة فتنته للوعي العربي وللاوعي، بقدر واحد.

سره الحقيقي، للعامة، في أمرين: كان حامل القيم والمثل العليا التي تجسد بها الثقافة جوهر حضورها في التاريخ. في زمن الانهيار والتشظي العربي، كان كالحدث الحمراء في صلابة بنيانها، وموج المنايا حولها متلاطم.

كمال أبو ديب

 

 

«مدح» المتنبي أشخاصاً كثيرين، لكن ليس لكي يُمجدهم، بل لكي يملأ فراغ الغربة والرغبة. كان في «مدحه» يستبطن تخيلاته. شهواته. ومطامحه، بوصفه رائياً، لا «مستجدياً». كان يستقصي مخيلته – يمتحنها، يرجها، فيما يزن حياته، ويعركها، ويعلو عليها. كانت «مثلنة» الممدوح وليدة البحث عما يحلم به. كانت صورة لذاته في الآخر. كان يتماهى مع الآخر، لكي يصبح هو نفسه الآخر – السيد. كان يعارض نفسه لكي يثبتها فيما يعارضها. كان يخلق فوضاه الخاصة، فيما يخلق نظامه الخاص. وفيما كانت السلطة، آنذاك، رهان العرب الأول، وفيما كان يمتدح بعض ممثليها، كان يعلن رهانه الخاص: «ولا أعاشر من أملاكهم أحداً/ إلا أحق بضرب الرأس من وثن».

في هذا كله، كان المتنبي يهدم الأنا القبلية، والأنا المذهبية. لا ينتمي إلا الى ما يتسع لتناقضاته، ويحتضنه، ويتيح له أن يقيم فيه: اللغة. كانت اللغة وطنه الحقيقي. كانت بيته الحميم. باللغة صاغ مشروعه: تحرير الحياة، جمالياً، وتحرير الإنسان، شعرياً. وكانت السياسة عنده طوباوية إنسانية تؤسس لها طوباوية جمالية – شعرية.

أدونيس

 

 

ولربما قيض للدرس ان يعيد مبالغة المتنبي، المتواصلة في توليد «المرافعات» الشعرية عن شخصه، الى شعور النقص المفرط بازاء ما يولده مدح الآخر من «مهانة» داخلية، مردها المعرفة باللاإنصاف الحاصل من قول لا يستقر على مقوله (مدح لا يستقر على ممدوح). والأرجح ان الترف المشمول بالخوض في معنى «القلق» عنده، من مقوضي الوقائع لترتيبها في سياق «الهمة الجسورة»، ونزوع النفس الى «الغامض النبيل»، لا يستقيم في بناء هذه الخاصية، لأنه - بلمس الخيال والنظر معاً - خيبة من تحصيل سلطة لا تستكمل في ظل أي ممدوح. انها معرفته الجلية، شأناً بعد آخر في المدح والتقرب من ممدوحيه الأقوياء، انه ينساق - بإرادة مفرطة في تسامحها - الى قنص في عراء النفوس (نفوس الحاكمين) لا مخرج منه الا بما تهبه متاهته من «استقواء» بالكلمات شحذاً شعرياً، كي تستقيم له أملاً يعرف العاقلون في القراءات انها متخمة باليأس، بل تصير الكلمات، وحدها، حضور ما لا يكونه هو - أي المتبني - المنجرف الى غيابه في المدائح، كونها سلطة إضافية، معنوية، الى سلطة الممدوح الواقعية، التي تحجب ما سواها، وتزدري ما سواه.

سليم بركات

 

 

 

كل الشعر ملتبس في كل الأحوال. كل الشعر مأسوي، حتى الضاحك منه. فعل الشعر بحد ذاته عمل درامي. نغفر للأنا المتضخمة عند المتنبي فهي تليق به.إنها ذاكرته الثانية الممتدة بغموض الى دلالات جديدة في كنه الشعر وأصله، والمتنبي تحديداً هو تلك التسوية بين «الأنا» والشعر. لقد كتبها من دون صبر أو دهاء، الأمر الذي يُضمره كل الشعراء. لا تُمكن تصفية ريادة المتنبي، مداحاً كان أم هجاء أم مريضاً في أناه. مفتونون به حتى اللحظة، إنها لعنة شعره المتشاوف.

عناية جابر

 

 

في بعض الأجوبة عن الاستفتاء الذي أجرته «الحياة» مع بعض الشعراء، ما يدعو الى تساؤلاتٍ أوجزها، استكمالاً لهذا الاستفتاء وعلى هامشهِ، كما يلي:

أًوّلاً، هل يصح تقويم الشعر بوصفه «عملاً»؟ الشّعر «لغة»، لذلك ينبغي تقويمه جماليّاً – فنّياً، بحصر المعنى. وليس «عملاً» لكي نقوّمه أخلاقيّاً، سلباً أو إيجاباً. الإصرارُ على تقويم الشعر، أخلاقيّاً في نوعٍ من «محاكمة» صاحبه، انما هو اصرارٌ على الاستمرار في متابعة «تقليدٍ»، تنكره، جَذريّاً، جماليّات الإبداع الفنّي – وبخاصّةٍ في عالم اليوم.

الشعر طريقةٌ في الحسّ بالوجود، وفي فهمه، وفي التّعبير عنهما. فلا يصحّ النّظر اليه إلاّ في حدود جماليّته، في معزلٍ عن كلّ بُعدٍ أخلاقيّ. فالشعر، تحديداً، «خَرقٌ» (يجوز له ما «لا يجوزُ لغيره)، فكيف يصحّ أن نُخضعَهُ للواجب، أو لما «يجب»؟

أدونيس     

الحياة     - 07/06/07

على هامش الاستفتاء حول المتنبي: سَلفيّة في عباءةِ «الحداثة»

 

 

 

 

 

الغلاف

افتتاحية

*

محمـد طالب : الظمــأ

شيركو بيكه س : 12  قصيــدة

طالب عبد العزيز : القصـــر

نصير فليّح : 4 قصائــد

معتز رشدي : أغنيــة صغيرة

 ياسين طه حافظ : 5 قصائـــد

فوزي كــريم : ثلاث قصائــد

*

سركون بولص : بغداد مركز أحلامي

ستيفن دوبينس : ريتسوس واللحظة الميتافيزيقية

فوزي كريم : الشعر العراقي: بانوراما

ناظم عودة : السيّاب الخيال المأساوي

*

 محمد خضير : شاعر باصــورا

حسن ناظم : انطباعات عن أيام خلت

عبد الكريم كاصد : قراءة في "أغنية الليل" لصلاح عبد الصبور

 طالب عبد العزيز : القصر

محمود النمر : الدرويش والمتاهة

زهير الجزائري : طفولة الحداثة الشعرية

*

حاضر الموقف النقدي : من المتنبي

حاضر الموقف النقدي : في قصيدة النثر

حاضر الموقف النقدي : في النص المفتوح

حاضر الموقف النقدي : في الفن التشكيلي

*

كريستوفر مدلتون: بعد الثمانين

معرض تشكيلي لشاعر الصمت

مقابلات مع شيموس هيني

القوى الغنائية

معرض رياض نعمة

مقالات نقدية في الشعر المعاصر

نعومي شهاب : شاعرة الحياة اليومية

ويندهام لويس : الرسام أم الكاتب؟

*

الشعر السويدي اليوم قصائــد مختارة: ترجمة جاسم محمد و إبراهيم عبد الملك

الشعر السويدي: ترجمة ابراهيم عبد الملك

 

 

موقع الشاعر فوزي كريم      الصفحة الأولى         اعداد سابقة         بريد المجلة

  ©  All Rights Reserved 2007 - 2009