تحت المعطف الرطب
في هذه الحلقة سأقرأ لوحة لي شخصياً، فليتسع قلب القارئ والرسام على
تطفلي. اعتدت
منذ أيام الصبا والشباب أن أُشغل نفسي بالرسم حين تبلغ أوتار الكتابة
والقراءة أعلى
توترها. الرسم يمتص، مع ضربات الفرشاة وخلط الألوان، كل شحنات النفس،
ويرخي أسلاك
توترها. ومثلما تلح الذاكرة، بحضورها الملكي، في العملية الشعرية، كذلك
تلح علي في
الرسم. في هذه اللوحة تقبل الذاكرة بهيئة من هيئات الشاعر الحصيري التي
لا تُحصي.
سبق أن حلّت علي في أكثر من قصيدة، وفي نص قصصي. والآن في لوحة فما
الفرق؟
إنه
يقف في انتصابة المتحدي كعادته دائما. يده التي تمسك الكأس بصرامة تؤكد
تحديه. فمه
المزموم تحت الشارب الكث. ربطة العنق. العين التي تحدق بتصميم. ولكن
تأمل الشعر
المسبل بفعل البلل، والمعطف الذي يبدو مشبعاً برطوبة دفينة، والقميص
المتهدل،
والمائدة الفارغة إلا من الكأس في اليد، وهي كأس عابرة على كاونتر بار
عابر، وكأن
الشاعر يلوذ بالبار من مناخ ممطر ونفس تعلكها أنياب الغول. أي تعارض
بين التظاهر
بالتحدي وبين الدموع في الأعماق؟!
منذ سنوات الستينات والسبعينات وأنا أفهم
الحصيري بهذا الشكل. لأن تحت معطفه الرطب يختبئ جيل برمته. بعد رسم هذه
اللوحة الصغيرة كتبت هذه القصيدة من وحي ذات التجربة:
أحاولُ
رسم الحصيري بفرشاةِ زيت وحيدة، وبضعةِ ألوان:
أولها لونُ جبهته، وهي أكثر ألوانه أُلفةً.
ثم عتمة معطفه،
حيث يعلوا على أفقها طائرٌ أسودٌ
بجناحين كثين.
كنت أحاولُ أن أستعين
بألوان خمرته كي تضيء
بعينيه نافذتين، وأرنبة الأنف!
لكن خمرته داخل الكأس مغلقة اللون،لم تستجبْ
لفرشاة زيتٍ وحيدة،
وبضعة ألوان.
إني أحاول هذا ليومين،
لكن معطفه يسع الأفق
خلفته معتما
بجناحين كثين لا يهدآن.
وأطفأتُ ضوء المكانْ.
14/12/2002
|