Published
in Asharq Alawsat(9.11.03)
العدد 9112
«كسوف
الفن»: يعري الثياب الزائفة للتشكيل المعاصر!
فوزي كريم
الفن
التشكيلي أكثر نشاطات الإنسان الإبداعية الحديثة علاقةً بالسوق
التجاري، وبالتالي أكثر تعرضاً للتزييف. إن ظواهر الرداءة في عدد من
نشاطاتنا الأدبية والفنية ليست بعيدة تماماً عن تقليد ما يحدث في
الغرب. فالنزعة الحداثية وما بعدها، التي عزلت النشاط الأدبي والفني عن
الناس، بسبب مزاعم التجديد، والتي وجدت في الفن التشكيلي مرتعاً خصباً،
إنما ترجع جذورها الى الغرب ذاته. وكتاب الناقد الانجليزي جوليان
سپالدنغ: «كسوف الفن»، الصادر حديثاً عن دار
Prestel
يتعرض لظاهرة هذا التزييف بما يشبه صرخة احتجاج.
سپالدنغ أبرز نقاد الفن المعاصرين. ارتبط اسمه بإقامة المتاحف الفنية،
مثل دار عرض راسكين، وغلاسكو، ومتحف الفن والحياة الدينية، وصاحب كتاب
«المتحف الشعري»، الذي صدر قبل فترة وجيزة. ولقد تبنى حملة الكشف عن
حقيقة الزيف باسم حداثة دفعت الفن البصري الى اللعب المجان، والقطيعة
المطلقة مع الجمهور، والطلاق المطلق مع البراعة الفنية والدربة
التقنية.
الكتاب الجديد يتوزع على خمسة فصول، تكشف عناوينُها الخطوط البيانية
لمرافعة المؤلف: «كسوف لغة الفن»، «كسوف تعليم الفن»، «كسوف المحتوى»،
«كسوف ملكة الحكم»، ثم «تجاوز الكسوف».
استعار المؤلف التسمية من التجربة التي عاشها الانجليز والعالم في كسوف
عام 1999. حيث يبدو له حال الفن المعاصر كحال عتمة كسوف الشمس، الذي
شمل الأرض، لا بالظلام وحده، بل بالبرد ومشاعر النهاية الغامضة والصمت
المخيف. إن كتابه هو وليد خبرة أربعين سنة داخل الشاغل ذاته بشأن الفن
الذي ذوت عروقُ لغته، وتعليمه، ومحتواه، وقدرة الذائقة على الحكم. إنه
يرى بحكم البداهة أن الفن لغة، وهذه اللغة يجب أن تقول شيئاً. وهو يعيد
إلغاء هذه الخصيصة الى عام 1937، عام معرض الفن الطليعي الشهير في
ميونيخ. كان هذا العرض ينطوي على ردة فعل ضد صعود النازية، ودعواها
للفن الملتزم بمثالية السمو الألماني. ولقد امتدت ردة الفعل الى مدى
تجاوز العلة الحقيقية بحيث صار الفن يهدف الى السخرية من كل هدف دلالي.
وصادف أن تسلمت أميركا هذه الظاهرة، وقادتها، مع سنوات الحرب الباردة،
الى أعلى مراحل إقحامها في الابتذال. في الحرب العالمية الثانية وبعدها
كانت أميركا ملاذاً آمناً لكل الهاربين من المثقفين والفنانين
الأوروبيين، الذين كانوا ينطوون على استعدادات كامنة لإنتاج كل ما
يعارض مفاهيم النازية والفاشية في الفن. كما كانت موئل الأغنياء الكبار
المعنيين بشراء الأعمال الفنية الأوروبية. إذا فهمنا هذين العاملين مع
العامل الثالث، الذي سعى فيه رعاة الفن الى دعوى تأسيس فن أميركي جديد،
وجعل نيويورك عاصمة للفن بدل باريس الغاربة، فسنجد مقدار صحة اجتهاد
الناقد سپالدنغ بشأن العوامل التي قادت الى هذه الموجة المفتعلة، التي
شملت العالم أجمع، وليس العالم العربي استثناءً.
إن تقطيرية پولّوك ومبولة دوشامب بدأت من هناك. ومن هناك تعزز عامل
الخوف من تيار الواقعية الاشتراكية السيئ الصيت، مما دفع الى مزيد من
التجريد، ومزيد من إلغاء الهدف الدلالي.
الكتاب بالغ الأهمية في الثقافة الغربية، يسير الاسلوب، واضح العبارة
والهدف، وهو يضاهي كتاب ألان سوكال «خداع ثقافي»، الذي صدر عام 1997،
والذي كشف فيه جناية فلاسفة ما بعد الحداثة على العلم. الكتابان أعلنا
أن ملابس الامبراطور الجديدة زائفة. ولكن الجمهور هنا، خاصة في حقل
الفن التشكيلي، قطع الوصل مع نشاط التشكيليين السائد منذ زمن، وصارت
تنفرد بالاعجاب مؤسسات الثقافة بإقامة المعارض، ومنح الجوائز الثمينة!
أذكر أني قرأت مقالة حزينة حين مُنح الايطالي مانزوني جائزةً انجليزية
تبلغ 22300 پاوند من مال دافعي الضرائب على علبة غائط زجاجية سماها
فناً، تماما مثل السمعة الفنية التي حققها دوشامپ على مبولته الشهيرة،
التي اشتراها من محل لبيع المواد الإنشائية عام 1917، وعرضها تحت عنوان
نافورة.
والكتاب بالغ الأهمية في ثقافتنا نحن أيضاً، لأننا اكتشفنا أن العبث
السيئ الطوية في الثقافة الغربية، والذي عادة ما ينطوي على علل وأسباب
محلية، بالغ التأثير وسريعة على مثقفينا في حقل الأدب والفن. فاللوحة
التشكيلية والنقد التشكيلي العربيين لم يكتفيا بالتجريد المغامر
والاستهانة بأي لوحة تسعى للتعبير عن شيء أو توصيله، بل صارا يسعيان
الى مجارات غائط مانزوني ومبولة دوشامپ، من دون حتى الرغبة بمعرفة
العلل والأسباب وراءهما.
* كسوف الفن
* المؤلف: جواليان سبولدينغ
* الناشر: برتسل، لندن، 2003
|