كانت هذه البوسترات في حينها كيانات فنية مستقلة، تهدف غرضاً نفعياً لا تحيد عنه. ثم ينتهي دورها شأن الأحياء، وتُنتزعُ من رحابة فضائها أشلاءَ، لتبقى منها أشلاء لا تحيل بوضوح للأصل. بل، على العكس، سرعان ما تُبدي هذه الأشلاء المتبقية رغبة بحضور فني مستقل، يتجاوز الأصل طموحاً من أجل مزيد من التعبير. البوسترات الفنية تسعى لهدف نفعي. على أن المزق من بقاياها تسعى لهدف تعبيري. بمعنى آخر أن بقايا الفن النفعي تصبح مادة خام لفن تعبيري. فقط تحتاج لمعونة يد ماهرة تنتشلها من الغفلة والنسيان. هذا الهاجس ألم بأنسام الجراح، بالتأكيد، حين رأت بعين الفنان بقايا المزق الورقية تلك على جدران الأنفاق المقوّسة، واستجابت بهاجس الفنان لنداءاتها الغامضة السحرية. كثيرون عبروا أرصفة تلك الأنفاق، ورأوا ما رأت. وربما انتابت كثيرين منهم التماعات ما في المخيلة البصرية، فرأوا ما رأت أو ما لم ترَ. ولكن الفارق أن أنسام أخذت كامرتها واستجابت للنداء. الفن، في النهاية، حوار بين طرفين: الإنسان ومادة الطبيعة الخام. أنسام وجدت أشياء قد لا أقع شخصياً عليها، لو أبصرتها، بالضرورة. في واحدة من لوحاتها (رقم 20) أرى ميناء مدينة يُنظر إليه من أفق شاهق. البحر خضرة سوداء عميقة، والخليج الذي يحتضنه طوق بنفسجي يبعد المشهد عن الطبيعة ليدخله في المخيلة المصنوعة، مع شيء من تطريز الحروف اللاتينية. الرماد الإسمنتي مشوب بتطرية الخيوط اللونية الرقيقة. أما إطلالة وجه الصبي، أو بقاياه، في أعلى الكتلة فشيء أتركه لسحر الإدهاش وحده. ما مقدار التجريد في اللوحات، ومقدار الايحاءات الدالّة؟ في اللوحات حروف وأرقام لاتينية، خطوط متداخلة، رقع بألوان شتى أشبه بكولاجات... ولكن هناك هيئات، وشخوص، وأشياء عينية أيضاً. بل هناك أكثر من ذلك. قد يحلو للفنانة أن تترك أثراً من كتابة تقول: Meeting you، على خلفية من المتاهة (صورة 15). أو شظية بهيئة سيف ومقبض (صورة 19). أو تتدخل في حجب عبارة في أسفل اللوحة لتُبقي منها حرف Y، التي تُلفظ في الإتكليزية (واي)، وتعني (لماذا؟). تساؤل استنكاري يُلقى في وجه المشاهد! اللوحة (صورة 25) واحدة من أكثرهن تأثيراً: جزء مُقتطع من تنورة إمرأة، مع شيء من ساقين ظاهرين. تبدو المرأة مضطجعة، قتيلة، أو ميتة. المقطع يحتل الركن اليسار من أسفل اللوحة، في حين يحتل الجزء الأعلى منها امتداد لتابوت محمول من قبل رجال بدت منهم أيديهم وحدها، حاملة له، أو متشبثة به، كتشبّث أيد بزورق على وشك الغرق. الطابع التجريدي في بعض الأعمال، والطابع الدلالي في البعض الآخر يتساوقان دون تعارض. كل منهما يستعين بالخلفية السوداء ليبدو حاداً كصرخة. بالرغم من أن أنسام تحاول، بين حين وآخر، اقتحام المشهد الضاج لتمسك به عبر إضافة عنصر هندسي ضابط. مسعى مؤثر للمؤاخاة بين عين الفنان وعين الكاميرا واجتهادات الجدران المنسية.
فوزي كريم
|
|